تتجه الأنظار في لبنان إلى جلسة التاسع من يناير (كانون الثاني) 2025 النيابية عساها تنهي الشغور في موقع رئاسة الجمهورية الممتد منذ عامين وشهرين. وتنشط الاتصالات بين الكتل النيابية المتحالفة والمتباعدة فيما لا تزال مساحة الاختلاف واسعة حول مواصفات الرئيس مما ينسحب على الأسماء المرشحة. أما التطور الوحيد فكان الاعتراف غير المعلن بسقوط مرشحَي المرحلة السابقة للثنائي الشيعي والمعارضة، وهي مرحلة ما قبل اتفاق وقف إطلاق النار وسقوط نظام بشار الأسد.
لكن الثنائي (“حزب الله” و”حركة أمل”) الساعي إلى انتخاب رئيس قبل قدوم الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض خوفاً من مفاجآت قد تفقده مزيداً من قدرة التأثير، لا يزال يبحث عن رئيس للجمهورية يحمي “المقاومة” وسلاحها تحت عنوان “غير استفزازي ولا يشكل تحدياً لأي فريق”.
في المقابل تعتبر المعارضة وفي طليعتها حزب القوات اللبنانية صاحب أكبر كتلة نيابية في البرلمان، أن الرئيس بات أهم من الرئاسة، وأن المرحلة الجديدة تتطلب رئيساً بمواصفات سيادية. ونقل رئيس الحزب سمير جعجع بورصة الترشيحات إلى مكان جديد، عندما أعلن استعداده للترشح إذا توافر حدّ أدنى من الكتل النيابية المؤيدة لهذا الترشح، وهو ما اعتبرته أوساط الثنائي بأنه تعطيل مسبق لأية محاولة للتوافق على الرئيس ولجلسة الانتخاب في التاسع من يناير. أما السيناريو الأكثر ترجيحاً لتلك الجلسة فهو تشتت الأصوات نظراً إلى كثرة المرشحين واستحالة حصول أي منهم على النصاب الانتخابي، أي 65 صوتاً مما قد يفرض تأجيل الجلسة.
مشهد لا يزال ضبابياً
وكانت الأيام الماضية شهدت تصاعداً تراكمياً لبورصة الترشيحات جهاراً أو علناً بعد سقوط مرشح “حزب الله – حركة أمل”، رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية، والمتوقع أن يعلن انسحابه من السباق الرئاسي الأربعاء أمام كوادر التيار، ما حتّم تراجعاً كاملاً في ترشيح وزير المال السابق جهاد أزعور الذي أتى تقاطعاً بين القوى السيادية الإصلاحية والتيار الوطني الحر. ويخضع التصاعد التراكمي لبورصة الترشيحات لحراك من كل القوى السياسية، ويترافق مع “بروباغندا” إعلامية متناقضة تجعل من المشهد الرئاسي ضبابياً من جهة، وتدفع البعض إلى الاستعجال في التكهنات من جهة أخرى.
ويعتبر مصدر سياسي رفيع أن بورصة الترشيحات التي يتم التداول بها حالياً، منها من يعبر عن ذاته كمرشح “طبيعي”، ومنها من أعلن ترشيحه، ومنها من يلتزم الصمت، ومنها من يخوض بشراسة معركة دخوله إلى السياسة من بوابة رئاسة الجمهورية. أما المعيار لسقوط هذا الاسم أو ذاك فهو “الاستمرار بعزلة لبنان العربية” وكذلك المواصفات التي حددتها المجموعة الدولية الخماسية في اجتماع الدوحة، والتي عادت وذكّرت بها بعد اجتماع أعضائها مع رئيس مجلس النواب بـ”أن يكون جامعاً لكل اللبنانيين، يدعم تطبيق وقف إطلاق النار وتنفيذ الـ1701، كما يحمل معه خطة ورؤية للإصلاح بمختلف جوانبه، إضافة إلى التزامه تطبيق اتفاق الطائف كاملاً”.
تسري في كواليس المطبخ الرئاسي معلومات عن سعي جدي يقوده الرئيس نبيه بري نيابة عن الثنائي “أمل – حزب الله” لتمرير “تهريبة رئاسية” في الجلسة المحددة في التاسع من يناير، مستعيناً باتفاق ضمني مع رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل عبر إغرائه بإبعاد فرنجية وعدوه اللدود المرشح الأبرز قائد الجيش العماد جوزف عون. لكن بري يدرك أن نتائج هكذا سيناريو لن تأتي لمصلحتهم وسيواجه بضراوة، وأن الرئيس المنتخب من دون موافقة القوى السيادية وخصوصاً “القوات اللبنانية” لن يحظى بثقة دولية وعربية، وأن لبنان سيترك لمصيره وللانهيار إذا وصل رئيس بهذا الشكل. وهذا ما دفعه إلى فتح قنوات التواصل مع جعجع ولكنها لم تصل إلى نتيجة حتى الآن. يضاف إلى ذلك عدم حماسة صديق بري الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط لسيناريو “التهريبة الرئاسية”. وكان بري يعول على مساعدة جنبلاط في إقناع رئيس حزب القوات اللبنانية بالسير برئيس توافقي إلا أن أي موعد لم يحدد بعد لزيارة جنبلاط معراب.
ويؤكد النائب وائل أبو فاعور لـ”اندبندنت عربية” أن الحزب التقدمي الاشتراكي لن ينحاز لأي فريق، ولا يزال يصر على الرئيس الوفاقي، وأن يشمل التوافق كل القوى السياسية من دون استثناء. أما مواصفات الرئيس بحسب أبو فاعور فهي “أن يكون محترماً، وصاحب حيثية ليس بالضرورة شعبية ولكن بالتأكيد معنوية”.
وحتى الآن يتقدم اسم قائد الجيش العماد جوزف عون كمرشح يمكن أن يؤمن الحدّ الأدنى من التوافق الداخلي المتنوع طائفياً وحزبياً، على رغم الغموض الذي يلف موقف “حزب الله” منه. ويدفع الفريق المحيط به أو المقرب منه ومن بينهم نواب مستقلون بجدية إلى انتخابه في الجلسة المقبلة، وتردد أن مرشح الثنائي السابق سليمان فرنجية قد ينضم إلى مقلب المؤيدين لعون واختيار رئيس يتمتع بحيثية وقوي، ويرفض فرنجية انطلاقاً من موقفه هذا أي تقاطع مع التيار الوطني الحر.
في المقابل، هناك من يتحدث عن معطى يتعلق بقائد الجيش قد يمنع وصوله إلى القصر الجمهوري، هو أنه يخوض الآن مسار تنفيذ استعادة السيادة بغطاء عربي – دولي، بالتالي وبغض النظر عن بعض التحفظات الداخلية وبعضها شخصي، فإن المرحلة المقبلة تتطلب بقاء العماد جوزف عون في موقعه بأداء دوره السيادي، وهو ما قد يؤثر في مسألة ترشيحه.
في مقلب المعارضة
أما في مقلب المعارضة المتمثلة بالأحزاب والقوى السيادية والإصلاحية، التي تقود معركة منع وصول الرئيس الذي لا طعم ولا لون له على أساس أن رئيس الجمهورية هو المدخل الحتمي لبناء الدولة، فتتكثف الاتصالات في ما بينها سعياً إلى التقاطع على مرشح جديد، لكن حتى الآن لم يحصل أي اتفاق. وحتى التطور الجديد الذي تمثل بتلويح رئيس حزب القوات اللبنانية باستعداده الترشح للرئاسة، وبانتظار بلورة عملية لهذا الطرح، فإن الأسماء المتداول بها هي وزير الخارجية السابق ناصيف حتي، والقاضي عصام سليمان، وزياد حايك، والوزير السابق زياد بارود، والنائب نعمت إفرام الذي أعلن ترشحه وفق برنامج قبل فيه شروط المعارضة، والنائب فريد الخازن المقرب من فرنجية. كما أعلن مؤسس المؤتمر الدائم للفيدرالية ألفرد رياشي ترشيحه. ومن المتوقع أن تشهد الأيام المقبلة الفاصلة عن الجلسة ترشيحات جديدة. ويرى بعض المطلعين أن لكل الأسماء المطروحة حتى الآن محاذير وحولها تساؤلات، خصوصاً في ما سيرمي إليه التيار الوطني الحر إذا اختار التقاطع مع القوى السيادية وأسقط هاجس النفوذ وابتعد عن أي اتفاق مع الثنائي الشيعي.
فالتيار الوطني الحر يبدو مرتاحاً لاستحالة وصول قائد الجيش إلى قصر بعبدا، ويوضح عضو كتلة التيار الوطني الحر النائب غسان عطا الله أن “الشغل ماشي وهناك جدية كبيرة، ووتيرة الاتصالات مكثفة داخلياً وخارجياً”، متوقعاً أن تتوضح الصورة أكثر خلال هذا الأسبوع قبل الدخول في عطلة عيدي الميلاد ورأس السنة.
بحسب عطا الله بات الأمر محصوراً بأربعة أسماء أو ثلاثة، هم الوزير السابق زياد بارود واللواء الياس البيسري والعميد جورج خوري، مقابل تراجع حظوظ الأسماء التي لا تحظى بالتوافق حولها، مؤكداً أن كل القوى أبدت استعدادها لحضور الجلسة والتصويت حتى انتخاب رئيس، ومشدداً على أن الرئيس التوافقي هو الخيار الأمثل ليتمكن من الحكم.
وإلى جانب عدم اعتراض التيار الوطني الحر على اللواء إلياس البيسري والعميد المتقاعد جورج خوري، يسعى رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى تأمين تقاطع على واحد من الاثنين مع جنبلاط وقوى سنية، بعدما لمس تجاوباً من قبل باسيل على قاعدة انتخاب رئيس وسطي لا يشكل تحدياً لأحد. لكن هذا السيناريو بحسب مطلعين على الاتصالات الرئاسية دونه عقبات وسيصطدم بعائقين: الأول يتمثل بعدم استعداد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الشاب تيمور جنبلاط تغطية خيار مماثل، والعائق الثاني رفض النواب السنة الوقوف مع فريق ضد آخر، وهو ما عبرت عنه كتلة الاعتدال ذات الغالبية السنية بعد اجتماعها مع رئيس حزب القوات اللبنانية، أضف إلى ذلك الحال الإقليمية الدولية التي ستعرقل مساراً كهذا، خصوصاً بعد التحول الاستراتيجي الذي حصل في سوريا.
قواعد اللعبة تتبدل
وسط هذه الأجواء الضبابية غير الحاسمة يتأسف مصدر دبلوماسي عربي لـ”اندبندنت عربية” لما يصفه باستمرار بعض الأفرقاء السياسيين في التعاطي مع إنقاذ لبنان انطلاقاً من تثبيت مواقع نفوذهم، ويؤكد “معادلة تثبيت مواقع النفوذ انتهت. صحيح أن الدينامية الداخلية لانتخاب الرئيس وطنية، لكن المجتمع الدولي يعلم أيضاً أنه معني بإنقاذ لبنان كحال حضارية وجزء أساسي من استقرار الشرق الأوسط، لذا كانت لجنة المراقبة الدولية لتطبيق القرار 1701 بكل مندرجاته من القرارين 1559 و1680، ولا مكان هذه المرة للترقيع وتمرير الصفقات”.
في اجتماعها الأخير مع رئيس مجلس النواب نبيه بري لم تتدخل اللجنة الخماسية التي تضم سفراء أميركا وفرنسا والسعودية وقطر ومصر بالأسماء، ويرفض ممثلوها التعليق سلباً أو إيجاباً على الأسماء المتداولة، لكن المعنيين في لبنان الذين حاولوا طلب المساعدات المالية لإعادة الإعمار تبلغوا بشكل واضح أن لا مساعدات ولا استثمارات إذا كان رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة من قوى الثامن من مارس (آذار).
ويشرح المصدر الدبلوماسي العربي أن “المجتمع الدولي مع شركائه العرب، ومن خلال اللجنة الخماسية الدولية أطلق مساراً لاستطلاع قدرة الشخصيات المرشحة لرئاسة الجمهورية على تأدية دور سيادي إصلاحي إنقاذي بالمعنى الحقيقي، وأنه لا يجوز الإتيان برئيس يدير الأزمة، فهذه هي الفرصة الأخيرة للبنان لبناء دولة وتطبيق اتفاق الطائف بكل تشعباته الإصلاحية والقرارات الدولية، وهذا كله ينتج قيام حال مواطنة تحتضن التنوع وتكون مثالاً للمنطقة والعالم”.
ويحذر المصدر الدبلوماسي العربي من خطورة التلاعب بجلسة انتخاب الرئيس المقبلة، مضيفاً “نعلم من يريد إفشال هذا المسار، لكنه يعلم أن لا تساهل معه، وسنكون أمام نقل لبنان إلى وصاية دولية كاملة إذا أصر فريق التعطيل على تدمير لبنان”.