عدل مصرف لبنان “التعميم 158” الذي سمح في صبغته الأولى للودائع “المؤهلة” بسحب 400 دولار “فريش” (fresh)، و400 دولار بالعملة اللبنانية مقابل سعر صرف 15000 ليرة لبنانية للدولار الواحد، كما قرر البنك المركزي إلغاء المبلغ المدفوع بالليرة اللبنانية والإبقاء على السحب بالدولار.
سيل طويل من التعاميم
ولا يمكن فصل تعديل التعميم عن السياق التاريخي وسلسلة التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان والتي هدفت إلى تقييد السحوبات وضبط السوق المالية المضطربة منذ عام 2019. ويؤكد الخبير المصرفي نسيب غبريل أن “’التعميم 158‘ أتى ليرسي معادلة دقيقة من قبل البنك المركزي لناحية تحديد المبالغ المؤهلة للاستفادة من هذا التعميم، وليس كل الودائع الدولارية الموجودة لدى المصارف اللبنانية والموجودة قبل الـ 17 من أكتوبر (تشرين الأول)2019 . وأخذت تلك المعادلة في عين الاعتبار السحوبات والقروض وغيرها من العناصر التي يحدد على ضوئها المبلغ المؤهل لسحبه وفق التعميم”، وترافق ذلك مع فتح “حساب متفرع” خاص بـ “المودع المؤهل” لكي توضع فيه “المبالغ المؤهلة” بحيث تمكن في المرحلة الأولى من سحب 400 دولار فريش ومبلغ مقابل بالليرة اللبنانية.
وعلى سبيل المثال فقد يمتلك المودع مليون دولار في حسابه الأصلي ولا يمكن إلا لمبلغ 20 ألف دولار أن يتأهل إلى الحساب الخاص المستفيد من “التعميم 158” الذي يمكنه من سحب مبلغ أقصاه 9600 دولار أميركي خلال العام، وفعلياً سيحصل على 4800 دولار فريش، “بنك نوت” (Bank Note) سنوياً، لأن النصف الآخر سيقبضه بالعملة اللبنانية.
وشبهت هذه العملية بالـ “هيركات” (Haircut) أي الاقتطاع من الودائع، وتحديداً الجزء الملزم للعميل بسحبه بالليرة اللبنانية، إذ كان يحصل على 15000 ليرة لبنانية في مقابل الدولار الواحد، فيما تجاوز صرف الدولار في السوق الحرة الـ 90 ألف ليرة لبنانية، أي بخسارة تزيد على 80 في المئة.
ويوضح نسيب غبريل أن “’التعميم 158‘ خضع لثلاثة تعديلات أساس، أولها إلغاء السحوبات بالليرة اللبنانية، أما التعديل الأهم فهو السماح لمن حوّل مبالغ كافية إلى حسابه الفرعي قبل نهاية (يونيو) حزيران الماضي فسيبقى بإمكانه الحصول على مبلغ 400 دولار أميركي شهرياً، أما من يمتلك حساباً فرعياً خاصاً ويبدأ بالتحويل بعد بداية شهر يوليو (تموز) الجاري فلن يتمكن إلا من سحب 300 دولار حصراً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المودع الذي سيقرر لاحقاً الاستفادة من التعميم، أما التعديل الثالث فمدد فترة السماح للمصارف من أجل تأمين ثلاثة في المئة من قيمة ودائعها بالدولار لدى البنوك المراسلة”.
ولفت غبريل إلى مصدر الأموال التي “يأتي 50 في المئة منها من مصرف لبنان، أما النصف الآخر فتضطر المصارف إلى تأمينها من سيولتها الموجودة لدى المصارف المراسلة في الخارج”.
وذكر غبريل بـ “التعميم 154” الصادر عام 2020 والذي يلزم المصارف بتكوين سيولة بالعملة الأجنبية ووضعها لدى المصارف المراسلة بمقدار ثلاثة في المئة، وجدد المركزي هذا الإجراء لغاية نهاية عام 2022، وعند إصدار “التعميم 158” سمح المركزي باستعمال تلك الأموال الموجودة لدى البنوك المراسلة لتسديد حصتها لمصلحة المودع.
الأزمة مستمرة
كذلك عبر غبريل عن اعتقاده بأن “خفض سقف السحوبات إلى 300 دولار بدءاً من يوليو الجاري جاء ليؤكد أزمة السيولة في القطاع المصرفي اللبناني، إذ يراعي مصرف لبنان احتياطاته بالعملات الأجنبية وكذلك السيولة التي تملكها المصارف التجارية بالعملات الأجنبية لدى المصارف في الخارج”، مرجحاً “وجود كثير من الدولارات في البيوت والشركات والمؤسسات الخاصة، لكنها ليست في البنوك”.
ونبه غبريل إلى أن “’التعميم 158‘ جاء ليقول إن على كل مستفيد جديد راغب في الاستفادة من السحب فتح حساب خاص وتحويل المبالغ من حسابه الأصلي، على أن يتمكن من سحب 300 دولار شهرياً فقط”.
ويقود تمديد العمل بـ “التعميم 158” والتعديلات عليه إلى السؤال عن مصير باقي الودائع التي تعتبر “غير مؤهلة” من وجهة نظر المصرف المركزي.
وأجاب غبريل “عندما تنتهي المبالغ المؤهلة يتوقف العميل عن الاستفادة من التعميم، وبالتالي سيرتبط مصير باقي الودائع ببرنامج الحكومة الإصلاحي الذي يتضمن ثلاثة قوانين كبرى، الـ ’كابيتال كونترول‘ العالق في مجلس النواب، ومشروع قانون إعادة التوازن إلى القطاع المالي الذي أعيد للحكومة بسبب تقديمه من دون تضمينه الأرقام المتوقعة، أما المشروع الثالث فهو قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي”.
كما رد غبريل على “التشكيك في شرعية تعاميم مصرف لبنان” باعتبارها مخالفة للدستور، ولأنها تفرض “كابيتال كونترول” مقنعاً و”هيركات” على الودائع، إذ يرى أنها “تصدر عن المجلس المركزي بموجب قانون النقد والتسليف”، مستبعداً تراجع المجلس المركزي عن سلسلة التعاميم بعد انتهاء ولاية الحاكم رياض سلامة أواخر يوليو الجاري لأنها ليست قرارات شخصانية، ولا يمكن تغيير السياسة النقدية في ظل فراغ رئاسي وغياب حكومة أصيلة واتفاق مع صندوق النقد الدولي، كما أن “التعاميم جاءت استجابة لمتطلبات الواقع والفراغ وعدم وجود نية سياسية لتطبيق الإصلاحات”، بحسب غبريل.
التعميم وتعمية الحقيقة
من جهة ثانية صرح الباحث في الشؤون المالية والاقتصادية مارون خاطر أن “الحسابات التي تستفيد من ’التعميم 158‘ لا تشكل سوى جزء بسيط يكاد لا يذكر من مجمل عدد الحسابات ومجموع الودائع”، لافتاً إلى أن “الشروط القاسية والاستنسابية الواردة في نص التعميم شكلت عائقاً منع القسم الأكبر من أصحاب الحسابات من الاستفادة منه”.
وأوضح خاطر أن “التعميم أرسى منذ صدوره منتصف عام 2021 تمييزاً سافراً بين المودعين وبين الحسابات، مما جعل الكلام حول قانونيته مطروحاً إلى اليوم، ولم تُدخل التعديلات الأخيرة على ’التعميم 158‘ أي تغيير جوهري لناحية شروط الاستفادة من مندرجاته، فبقي حكراً على من استوفى الشروط قبل إدخال التعديلات، ولا يستفيد من التعديلات سوى أصحاب الحسابات ممن استوفوا الشروط قبل التعديل وقرروا طوعاً عدم الاستفادة أو أولئك الذين يستفيدون من التعميم ولم يستنفذ رصيد حساباتهم حتى تاريخ التعديل”، مشدداً على أن “أرصدة الحسابات الصغيرة استنفذت بالكامل بخسارة وصلت إلى 84 في المئة قبل صدور النسخة المعدلة، مما يجعل منه سابقة مصرفية خطرة”.
ويرى خاطر أن التعديلات التي أدخلت على “التعميم 158” ليست سوى محاولة وقحة لإيهام الرأي العام المحلي والعربي والدولي بأن لبنان على الطريق الصحيح نحو إيجاد حل لمسألة الودائع في الوقت الذي لا يزال يسلك درب جهنم على الصعد كافة وبخطى متسارعة، متسائلاً “من أين للقطاع المصرفي أن يعيد الودائع في غياب خطة اقتصادية شاملة تلحظ إعادة هيكلة المصارف؟ وكيف يكون سداد الودائع قد بدأ من دون أي اقتطاع إذا كان من يستفيدون من التعديلات قلة قليلة من المودعين استنفذت أرصدة حسابات كثيرين منهم؟ وأي فتات من الودائع هو هذا الذي يعاد بعد التذويب الممنهج للودائع وبعد تصنيفها مؤهلة وغير مؤهلة في خطوة تكرس الإنكار والإذلال؟”.
الأولوية للمودعين
وقال خاطر، “تدفعنا الضجة المثارة حول ’التعميم 158‘ وتعديلاته الأخيرة إلى التفكير بالسواد الأعظم من المودعين الذين باتت ودائعهم خسائر مجمدة ودفترية تحملها المصارف، فلا أمل لهؤلاء، وأنا واحد منهم، باستعادة أموالهم في ظل التباين بين الدولة والمصرف المركزي والمصارف، وهم شركاء الأمس”.
وتساءل، “كيف لمن بدد الأموال فساداً وسرقة ومحاصصة وزبائنية وتبعية أن يعيدها لأصحابها؟ فلم تتبخر الودائع ولم تختف بل صرفت إلى غير رجعة، أما قيمتها الاسمية فيتم تذويبها رويداً رويداً بتعميم من هنا وتعديل من هناك، ومن الطبيعي والموجب أن يطالب المودعون بمحاسبة المصارف من دون أن يدفع الظلم المودعين إلى المطالبة بإعدام القطاع المصرفي أو بإفلاس المصارف، وإن أي إفلاس لمصرف يؤدي إلى شطب الودائع وتبديد أي أمل عجائبي باستعادتها وإلى قتل القواعد البيانية التي يمتلكها، وهي أساس وضرورية للنهوض بالاقتصاد”.
الخلاف يتسع
كما شهد المشهد المالي سلسلة تطورات خلال الأسبوع الجاري، فمن جهة شهد عودة اقتحامات المصارف من أجل تحرير الودائع، إذ اقتحم المودع عمر الأعور “بنك مصر ولبنان” للمطالبة بوديعته البالغة 6500 دولار، ونجح في تحريرها.
وجاء ذلك في موازاة القرار الصادر عن مجلس شورى الدولة الذي قضى بوقف تنفيذ القرار رقم (22) الصادر عن الحكومة اللبنانية بتاريخ الـ 18 من أبريل (نيسان) 2023 والذي شرعن القيود على التحويلات والسحوبات المالية.
وفي المقابل تلقى النائب العام التمييزي في لبنان القاضي غسان عويدات كتاباً من القضاء الألماني من أجل “الاستحصال على وثائق ومستندات خاصة بحسابات حاكم مصرف لبنان وشركائه من داخل المصرف المركزي”، وعبّر الكتاب الألماني عن “رغبته في إجراء مداهمة مباغتة وسريعة بمواكبة أمنية ومشاركة قضاة لبنانيين، وذلك في إطار المساعدة التي يقدمها لبنان للقضاء الأوروبي”.
وأحال القاضي عويدات الطلب إلى قاضي التحقيق الأول شربل أبو سمرا المكلف بتنفيذ الاستنابات القضائية الأوروبية.
وفي موازاة ذلك طرأ خلاف بين “جمعية المصارف” وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة بسبب تصريحات إعلامية لسلامة يقول فيها أنه “أعاد للمصارف كامل إيداعاتها لديه وحول إليها مليارات الدولارات”.
وانتقد الأمين العام لـ “جمعية المصارف” فادي خلف تلك التصريحات التي تسبب “بلبلة” في أوساط المصارف والمودعين، لا سيما “توجه المودعين إلى فروع المصارف معتقدين أن خزاناتها تحوي 85 مليار دولار، وهي تمتنع من تسليم ودائعهم”.
كما أشار خلف إلى أن “الجهات الدولية تسأل عن الضبابية في هذا المجال، فموازنة مصرف لبنان تبين أن ودائع المصارف لا تزال موجودة في حسابات مصرف لبنان، ومن جهة أخرى يفهم من تصريحات الحاكم عكس ذلك”، مطالباً الدولة بحزم أمرها وتحمل مسؤوليتها “لأن رمي الدولة ومصرف لبنان مسؤوليتهما المشتركة في ضياع أموال الناس على المصارف لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخراب وضياع الأمل”.