يكاد كوكبُنا يتحوّل «صندوقَ فرجة» لشِدّة التحولاتِ وكثافتها في حَقَبةٍ زمنيةٍ تتدافع فيها أحداثٌ دراماتيكيةٌ تخيّم على المعمورةِ بأسْرها… حربُ جبابرةٍ في أوكرانيا، وحروبٌ بأسماء مستعارة في الشرق، عاصفةٌ من اليمين تهبّ على أوروبا، وصورةُ دونالد ترمب «الأسطورية» تأسر أميركا وتهزّ العالم، وسريعاً تُطوى صفحة جو بايدن.ولأنه غالباً ما يُقال إن العالمَ، المصاب الآن بدهشةِ الذكاء الاصطناعي وفتوحاته «المفتوحة»، أضحى منذ زمنٍ «قريةً صغرى»، فإن صراعاته الكبرى تجرجر معاركَها في غير مكان، وإن كان للشرق الأوسط – المشرَّع الأبواب على مشاريع امبراطورية – «حصة الأسد» من الحروب التي تجول في المنطقة وتُعَمِّقُ جراحَها وتجعل من بعض دولها مجرّد ساحاتِ نفوذ.
قبل أقلّ من عشرة أشهر بقليلٍ إقتديتْ المنطقةُ إلى حربٍ لم يتوقّع صنّاعُها أن تبلغ هذا المدى الزمني أو تدميرها الهائل لغزة والزجّ بلبنان في أخطار هالكة وتعريض المنطقة برمّتها لمغامراتٍ مجنونةٍ والتلاعب بمصائر الفلسطينيين والتفاوض على دمهم تحت الطاولة وفوقها، وكأنهم – صنّاعُها – سقطوا في فخٍّ أرادوا نصْبه للآخَرين…. لم يُفكّ أَسْرُ غزة التي إستُبيح دمُها في واحدةٍ من أفظع جرائم الإبادة في التاريخ، ولم يتم تبييضُ سجون العدو الذي زَجّ بأضعاف مضاعفة من الفلسطينيين في زنازينه، والخطوةُ نحو التحرير إرتدّت إحتلالاً جارفاً للقطاع… أما «قلب الطاولة» عن بُعد فمسألة أخرى.
ولبنان المسكون بطوفان أزماتٍ هائلة لا حَصْرَ لها، لم يَنْجُ من حفلةِ الجنون بعدما إلتحق بالحرب ورُبط مصيرُه بمسارها… لم يَخرج من الحفرة المالية التي يراوغ فيها منذ خمسة أعوام، ولم يُفْرِجْ عن الإستحقاق المخطوف لإنتخابِ رئيسٍ منذ نحو عامين، ولم ينأَ بنفسه، فدُمّرت حافته الحدودية ويُراوِحُ على شفا سيناريواتٍ كارثية.في صالونات بيروت وكواليسها مقارباتٌ للمشهد عبر «شهود عيان» من زائرين وديبلوماسيين ومراقبين تَجْمَعُهُم «الحسرةُ» على لبنان لتحطيمه الأرقام القياسية في «سباق البدَل» من أزمةٍ لأزمة، وهو الذي يشهد فيليب حتي وكمال الصليبي وسواهما على براعة شعبه في صناعة الأمل رغم الكبوات.
مصدر عربي بارز يعبّر في مَجالسه عن حزنٍ بالغٍ على الجِراح البليغة التي تَحْفر في الجسم اللبناني، مالياً – اقتصادياً، وسياسياً وأمنياً، وعلى إمعانِ اللبنانيين في إضاعةِ الفرص:
أولاً لوضْع بلدهم على سكةٍ مستقيمة من تَعافٍ يرتكز على أعمدةِ أساسٍ إصلاحية، تتهرّب السلطاتُ من إرسائها منذ نحو ربع قرن، وتحديداً منذ مؤتمر باريس – 1 و«أخواته» وليس انتهاءً بمؤتمر سيدر (2018)، وحتى الاتفاق الأولي مع صندوق النقد الدولي عقب الانهيار المريع.
وثانياً لإطلاق عجلة الحُكْم المعطَّلة بفعل الشغور المكرَّر في رئاسة الجمهورية، والذي هو نتيجةٌ «تتكاتف» فيها حساباتُ ربْطِ لبنان بمحورٍ إقليمي مع نَمَطٍ داخلي يعكس سلوكاً انتظارياً للخارج ليقوم بما يتعيّن على اللبنانيين فعله، وصولاً لاستدراج أو استدعاء تدخلاتٍ عربية وغربية وإعطاء انطباعٍ سوريالي أقرب إلى «إدانة» عواصم لـ «عدم تدخلها» في الواقع اللبناني أو عدم فرْضها إملاءاتٍ في هذا الاتجاه أو ذاك، وعلى هذا الطرف أو ذاك.
وثالثاً لحماية لبنان من «كرة النار» الحارقة في غزة ومن المُخاطَرة بالبلد وناسه في مغامرةٍ على طريقة «وبعدي الطوفان»، وسط مؤشراتٍ مدهشة إلى «انفصالِ» السلطات وحتى قوى سياسية عن السيناريوات المُرْعِبة التي لا يمكن إخراجُها من الحسبان في ظل تَوَحُّشٍ اسرائيلي لم يتورّع عن تحويل غزة بمَن فيها محرقة.
ولا يتوانى المصدر العربي، في معرض قراءته مسارَ جبهة الجنوب ومآلاتها المحتمَلة وما هو على المحكّ في الحرب المستمرّة عليها، عن استحضار ما حَمَله إلى بيروت في ديسمبر 2023 رئيسُ الاستخبارات الخارجية الفرنسية حينها برنار ايمييه بعد محطةٍ له في اسرائيل حيث لَمَس ما يفوق «الجنون المطلَق» الذي عبّر عن نفسه في «بنك أهداف» مُرْعِب اطّلع عليه، في غزة وأيضاً في لبنان.
وإذ يقول المصدر لـ «الراي» إن الخطيرَ في الأمر أن كل ما سمعه ورآه ايمييه مُعَدّاً لغزة «تمّ ونُفَّذ»، يعبّر عن الخشية الكبيرة من «لائحة الأهداف» الاسرائيلية المحدَّدة في أي حرب واسعة على لبنان والتي اختصرها آنذاك رئيس الاستخبارات الخارجية الفرنسية بعبارةِ «لن يكون هناك مكان آمَن في لبنان مِن شماله الى جنوبه».
ويُعْرِبُ المصدرُ عن القلق من أن يكون ضربُ مستودعِ السلاح لـ «حزب الله» في منطقة عدلون هو بداية الضغط على أزرار بنك الأهداف الاسرائيلي، معتبراً أن ثمة بُعْداً آخَر لهذه الضربة التي تَفتح على إمكان مزيدٍ من النزوح، ولا سيما أن عدلون تقع شمال صور التي تحتضن قسماً كبيراً من نازحي قرى الحافة الحدودية، ولنتخيّل ماذا سيعني تَعَمُّق الاستهدافات الاسرائيلية وتَعاظُم عملية النزوح، بأبعادها الانسانية، وخصوصاً إذا كنا أمام حربٍ تطول.
وإذ يشير إلى رَصْدٍ يَجْري لنتيجة زيارة بنيامين نتنياهو لواشنطن وهل سيعود بدعم الجمهوريين والايباك وكيف يمكن أن يترجم ذلك في الميدان، يلفت إلى أن دونالد ترمب أعطى في الأيام الأخيرة إشاراتٍ واضحةً برسم المنطقة في حال فوزه بالرئاسة، معتبراً أن ثمة ترقباً للأسابيع المقبلة وأن هناك انطباعاً بأنه إذا مرّ اغسطس بالوتيرة نفسها العسكرية يمكن الحديث عن إفلات لبنان من حرب واسعة، وإلا.
وفي قراءةٍ «على البارد»، يتحدّث المصدر العربي عن أنه منذ 7 اكتوبر فإن إيران و«حزب الله» سقطا بطريقة أو أخرى في فخٍّ وباتا بين فكيْ كماشة… فهذا المحور لا يستطيع التقدّم إلى الأمام ولا يمكنه التراجع الى الوراء، معتبراً أنه بمعزل عن معادلاتِ الردع والرعب وما شاكل، فإن «حزب الله» الذي كان يتكىء على الاقتصاد الموازي ها هو يواجه أكبر انتكاسة في تاريخه، ومشهدُ القرى المدمَّرة على الشريط الحدودي يتحدّث لوحده، إلى جانب تدمير بنيته التحتية في تلك المناطق، والأهمّ الكلفة البشرية.
وفي ظلّ التقديرات التي تَعتبر أن ترمب ما زال الأوفر حظاً في السِباق الى البيت، إلى جانب مَعاني «ترْك» مسعود بزشكيان يفوز بالرئاسة في إيران، يتحدّث المصدر نفسه عن 3 أشهر مقبلة بالغة الأهمية في تحديد مساراتٍ كبرى في المنطقة، ويُرجَّح أن تُبت خلالها ملفاتٌ عالقةٌ في لبنان.
ويَعتبر أن انتخابَ بزشكيان يعبّر في الدولة العميقة في إيران عن رغبةٍ انفتاحية، كما يَعكس استشعاراً بما قد يكون آتياً ووجوب ملاقاته بوجهٍ يشبه المرحلة، وبالحاجةِ أيضاً لترييح الوضع الداخلي في إيران الذي ظَهَّرَ تطلعاتٍ لعيشٍ ورفاهٍ بما يُحاكي رؤى للمستقبل تسود دولاً محيطة ولا سيما في الخليج العربي.ويشير المصدر العربي عبر «الراي» إلى أن هذا الواقع المستجدّ في إيران كما مقتضياتِ التحسّب لاحتمالاتِ عودة ترمب الى البيت الأبيض يمكن أن تعزّز إمكان تسويةٍ حول الملف الرئاسي في لبنان وحصول انفراجةٍ لاحتْ مؤشراتُها في ما يُنقل عن أجواء مجموعة الخمس (حول لبنان) لجهة تفاؤلها ببلوغ حلّ قبل الخريف أو قبل الانتخابات الأميركية.ويَنقل المصدر، الذي واكَبَ مداولات الخماسية ولقاءاتها مع القادة اللبنانيين، عن أجواء المجموعة أن ثمة إشاراتٍ لاحتْ من «حزب الله» بأن الخيار الثالث قابل للبحث، مستخلصاً أن الملف الرئاسي زادتْه تعقيداً تطوراتٌ هائلة، بدءاً من حرب غزة وليس انتهاءً بمقتل الرئيس ابرهيم رئيسي، إلى جانب حلول استحقاق الانتخابات الأميركية، وهو ما جَعَلَ الخماسية تستشعر بأن هناك في لبنان مَن يراهن على حرب غزة ونتائجها وأن ثمة مَن ينتظر الانتخابات الأميركية وإمكان عودة ترمب.
وبحسب المصدر عيْنه فإن الخماسية في مرتكزاتِ عملها انطلقتْ من رغبةٍ مزدوجة، في أن يَبقى الملف الرئاسي أولويةً لبنانيةً، وأن تشكل المجموعةُ شبكةَ أمانٍ عربية – دولية تَقي هذا الملف التناقضات الخارجية، أي أن تُبْقيه على قيد الحياة وتَقيه تناقضات الخارج، ولكن خريطةَ الطريق التي تضعها الخماسية والتي عبّرتْ عنها بوضوحٍ منذ بيان الدوحة حول مواصفات الرئيس والمهمات الأساسية التي سيضطلع بها لا تعني بأي حالٍ أن المجموعةَ معنيةٌ بطرْح أسماء أو بفرْض أي إملاءات على لبنان أو لبنانيين، ولا بالتأكيد أن تكون جزءاً من إدارة تَشاورٍ أو حوار كما حاول البعض أن يطرح وذلك تفادياً لأيّ مَظاهر وصاية.