كلنا نعرف بأن نظام الملالي في طهران اعتاش سياسياً و شعبياً و منذ نشأته على مصدر أساسي واحد و نظرية رئيسية توازي بأهميتها أهمية وجوده و هي تصدير الثورة فماذا يعني تصدير تلك الثورة ؟
لقد قام هذا النظام بالأساس على مجموعة من الأفكار منها ما هو معلن و منها ما هو مضمر فما هي أهم تلك الأفكار التي تحولت الى عقيدته و علّة وجوده لاحقاً ؟
أولى تلك الأفكار المضمرة-المعلنة هي المظلومية التاريخية للمذهب الشيعي و الاستضعاف التاريخي له (من وجهة نظرهم طبعاً ) و هي الفكرة التي ساعدت كثيراً هذا النظام على التمكن من تحقيق موجة شعبية كبيرة جداً داخل إيران مؤيدة له عند نشأته و من ثم الإنطلاق الى بقاعٍ أخرى في المنطقة تحتوي على تواجد شيعي و تسويقها بين أبناء تلك المجتمعات لاجتذابهم و كسب عاطفتهم و تأييدهم .. فالعقائد الدينية و المذهبية عادة ما تكون جذابة خاصة في مناطق كمنطقتنا فماذا سيحدث لو أضفنا اليها موضوعاً شائكاً و حساساً قامت على أساسه أصلاً بعض المذاهب الدينية و غذيناه و أعدنا إحيائه بقوة و لو بعد عدة قرون ؟
ثاني تلك الأفكار و هي معلنة بشكل واضح و تستند جذورها الى المذهب نفسه هي “ولاية الفقيه” و التي لا مجال طبعاً للغوص فيها عميقاً في مقالنا هذا فلماذا لجأ النظام الإيراني الى تطوير العقيدة المذهبية الأساسية نحو أفكار جديدة كهذه ؟
ربما يكون الهدف الأساسي من ذلك هو تحويل نفسه الى مركز الجذب و القرار لكل تلك المجموعات التي دخل اليها في البلدان الأخرى و ما من طريقة أقوى و أفضل من الرابط العقائدي-المذهبي الذي ينتج طاعة عمياء للأتباع و هذا ما حصل تحديداً بعد تسويق نظرية ولاية الفقيه بشكل واسع بين شيعة العالم ، فقد تحول كثر من الشيعة الى أتباع لهذا النظام يتلقون التعليمات المباشرة منه و يطيعونه طاعة مطلقة رغم وجود مراجع شيعية أخرى و عقائد أكثر واقعية من ولاية الفقيه ، هذا النظام فعل كل ذلك من خلال إصدار الفتاوى المقدسة التي على الآخرين تنفيذها دون سؤال حتى .
ثالثا ً التمدد العملي أي سياسة الأذرع و هي فكرة معلنة أيضاً ربما أراد منها النظام أولاً إقامة خط دفاع بعيد المدى لنفسه لمحاولة استدراك الأخطار قبل وصولها اليه و ثانياً توسيع حدود دولته المذهبية الى حيث يتواجد من يعتقد أنهم شعب واحد في أراض مترامية الأطراف و مقسمة الى حدود و دول هو أصلاً لا يعترف بها .
يخطئ من يعتقد أن هدف إيران إعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية لأن النظام الذي يحمكها مبني على أساس ديني-مذهبي و لديه دولته الخاصة في صلب عقيدته و هي تختلف كلياً عن الإمبراطورية الفارسية المعروفة تاريخياً .
و يخطئ أيضاً من يعتقد بأن الأذرع الإيرانية في دول المنطقة هي كيانات منفصلة متحالفة مع النظام الإيراني ، تلك الأذرع هي ألوية تابعة مباشرة للقوة العسكرية المركزية لهذا النظام و هي جزء لا يتجزأ منها ترتبط عضوياً بها حتى لو كانت في “بلدان أخرى” هم لا يرونها بلداناً أصلاً ، هؤلاء لا يعترفون جميعاً سوى بأمتهم الدينية المتخيلة لذا لا وجود في عقولهم لحدود أو هويات مجتمعية أو دولتية أخرى ، هم يعتبرون وجودهم طبيعي و مترابط على أرض واحدة تابعة لهم فلا فصل بينهم و بين نظامهم المركزي في طهران ضمن هذه الأرض الواحدة لذا جميعهم يشكلون بطريقة أو بأخرى كتلة واحدة رأسها أو إدارتها في طهران .
الفكرة الأساسية الرابعة و التي هي مضمرة-معلنة تقوم على تجهيز الأدوات القوية التي تمكنهم من تأمين الاستمرارية الدائمة و الأبدية لوجود هذا النظام-الكيان بتطلعاته الدينية-المذهبية و أحلام بناء دولته الموعودة و تقويتها و سيطرتها على العالم بنهاية المطاف ، و عماد هذه النظرية-الفكرة هو امتلاك السلاح النووي الردعي .
أيضاً يخطئ كثيراً من يعنقد ان امتلاك إيران للسلاح النووي سيشكل خطراً أكبر بكثير على العالم من الدول التي تمتلكه الآن ، فإيران هدفها الأساسي اليوم امتلاك هذا السلاح لسبب ردعي و ليس هجومي و الهدف الأساسي من ذلك تأمين الحماية القصوى و المطلقة لنظامها و مشروعها و منع أي أحد من إسقاطه ، لقد أثبت هذا النظام أنه نظام براغماتي من الدرجة الأولى و ليس نظاماً انتحارياً و بالتالي و إن امتلك هذا السلاح فهو لن يستعمله سوى للأسباب التي ذكرناها و ليس لأي هدف آخر ( هدفهم من السلاح النووي هو تأمين شبكة أمان نهائية و دائمة لوجودهم و استمراريتهم ليتفرغوا لتحقيق مشروعهم الأكبر ، أي تخطي التهديد الوجودي لنظامهم للإنطلاق نحو المهام الأخرى ) .
في الواقع ماذا يحدث اليوم ؟
اليوم و بعد كل ما جرى خاصة في السنة الأخيرة نرى نظام الأئمة يخسر أذرعته واحداً تلك الآخر و يتقلص نفوذه السياسي و العقائدي و العسكري و تضيق مساحة سيطرته تباعاً و تدريجياً و ينكمش حجم دولته الفعلي الى حدودها الدنيا .
كيف يحصل ذلك ؟
يحصل كل هذا أولاً من خلال استفاقة و لو بطيئة و مقموعة أحياناً كثيرة لشعوب سيطر عليها لفترة طويلة هذا النظام باسم الأيديولوجيا و المظلومية و المذهب الخ .. و ما حصل في الانتخابات العراقية السابقة و الانتفاضة الشيعية هناك ليس سوى دليل حسي على ما نقول حتى لو قمعت و سرقت مكاسبها بالقوة ، و ما نسمعه همساً اليوم بين شيعة لبنان بعد النكبة الكبرى التي ألمت بهم و الأصوات الخافتة التي حتماً ستعلو لاحقاً بعد الخديعة التي تعرضوا لها سوى دليل آخر على بدء استفاقة تلك المجموعات .
ثانياً : فقدان الأذرع العسكرية نتيجة ما نراه من حروب انتحارية غير متكافئة و غير محسوبة و بتوقيت خاطئ أدت الى إنهاء وجود جزء كبير و أساسي من تلك الأذرع بشكل كلي أو جزئي في المنطقة .
بعد فقدان الأذرع و بدء الإستفاقة يكون النظام بدأ بخسارة نظريتين أساسيتين قام عليهما :
أولاً : تصدير الثورة بالفكر و العقيدة و التي بدأت تتلمس الشعوب و لو بطيئاً عقمها و عدم جدواها و فعاليتها و الأهم نتائجها الكارثية عليهم .
ثانياً : فقدان عناصر القوة العسكرية و خطوط الدفاع المتقدمة التي ساهمت بتثبيت تصدير الثورة الى تلك المجتمعات و ضبطها و تأطيرها و الأهم ترسيخ وجودها واستمراريتها خارج الحدود الإيرانية إضافة الى استعمالات متنوعة أخرى كتوجيه الرسائل عند الحاجة و الاستفادة من ذلك على طاولات مفاوضات الكبار .
عامل أخير ربما سيسهم عدم امتلاكه في سقوط النظام الإيراني أو انتهائه بشكله المعروف و هو الإجماع العالمي القوي على منع نظام الملالي من امتلاك السلاح النووي بأي شكل من الأشكال و الذي أخذ جرعة قوية مع وصول الإدارة الجمهورية الى البيت الأبيض بشخص دونالد ترامب العدو الأساسي للملالي و ما يعني ذلك من تشدد في هذا الملف …
نختم بتساؤل أساسي ربما سيجيب عنه القادم من الأيام :
إن خسر نظام الأئمة في طهران أذرعته القوية و بدأ بخسارة شارعه المؤدلج في الخارج و هو الخاسر أصلاً للشعب الإيراني بعد أن كشف حقيقته سريعاً و منذ زمن طويل، و إن خسر حلمه بمشروع نووي يثبّت أقدامه و يؤمن له شبكة أمان دائمة فماذا سيبقى له و على ماذا سيستمر ؟ تصدير الثورة انتهى للأسباب التي ذكرناها سابقاً و عناصر القوة تتساقط تباعاً واحداً تلو الآخر فما هو مصير هذا التظام بنهاية المطاف ؟ وحدها الأيام ستجيب عن كل التساؤلات .