تختصر قصة “تقطير الورد” جهد أيام وشهور من العمل، بدءاً من مزارع جبال لبنان، ومواسم القطاف التي تبدأ في أبريل (نيسان)، وحلولها ضيفة مكرمة في المنازل. فهي تخرج عن كونها مجرد عملية آلية لصناعة ماء الورد، لتشكل طقساً مركزياً في تقويم شريحة واسعة من الناس.
في أحد البساتين المطلة على سلسلة جبال لبنان الغربية يستمر أهالي الضنية في زراعة “الورد”. فهي جميلة الشكل، غزيرة الإنتاج، ولا تحتاج إلى عناية مفرطة، إضافة إلى كل المزايا السابقة تكثر استخدامات ماء الورد المنزلية.
إلى الحقل، تنطلق إحدى العائلات حاملة السلال. ويقول رب الأسرة “القطاف تأخر قليلاً هذا العام بسبب الطقس الخريفي السائد، لأن الحرارة العالية تسرع عملية تفتح الورود”.
يتوزع العمل على أيام الأسبوع، وفق صيغة اليوم الأول للقطاف والذي يليه للراحة، بانتظار “تفتح” مزيد من الأزرار لقطافها في اليوم التالي.
خلال القطاف تتزاحم الأصوات، بين زقزقة العصافير وصوت معول أو منشار وطنين نحلة تسابق الزمن لالتقاط الرحيق، ولا يلغي هذا المشهد المغرق بالرومانسية تصاعد صرخات التأفف والوجع جراء الأشواك.
التقطير في المنزل
مع دخول شهر أبريل تبدأ الاستعدادات لموسم التقطير. تخرج “الكركة” أي آلة التقطير من مخبئها الشتوي، بعد حفها وتلميعها وتنظيفها تصبح حاضرة من أجل أداء مهمتها السنوية.
بحسب المزارعين “ماء الورد الناجم عن القطفة الأولى هو الأفضل”. وهناك الورود التي تجفف لإضافتها إلى الشاي أو لاستعمالها في تشكيل اللوحات الفنية.
تحضر خلال عملية التقطير بعض المعتقدات الشعبية التي تدعو إلى تقطير ماء الورد في مكان منعزل لا يدخله الضيوف أو الغرباء، لتجنب “صيبة العين (الحسد)”.
تمتد عملية التقطير لساعات طويلة، تبدأ مع ساعات الفجر الأولى، حيث توضع الورود داخل “الكركة” مع الماء، ويحكم إقفالها بالطين بـ”عجينة الرماد والطحين”، وتشعل النار تحتها.
بانتظار القطرات الأولى يراقب المشرف “الكركة”، ليضيف الماء بعد تبخره لمنع الجفاف. ومع انسياب القطرات وانتشار العطر في الأرجاء يسود شعور الرضا.
في الأثناء، تتفنن الشابات في تزيين العبوات الزجاجية، وتجهيز مكان خاص لها في خزانة المونة المنزلية. وتتجسد في عملية توزيع ماء الورد بعض العادات الريفية الراسخة، حين تخصص ربة المنزل لكل واحد من أولادها أو أفراد أسرتها حصة من الإنتاج، وتضعها في خانة “بركة الموسم”. في المقابل، تتعزز الثقة بالاقتصاد المنزلي في لبنان، ومن بوادره تخصص بعض السيدات وكذلك المؤسسات في صناعة المونة المنزلية التي تعتبر في نظر المستهلك، “أقرب إلى نكهة منتجات الأم، وجودة أفضل من تلك التي تدخلها مواد مصنعة”.
الهدية الثمينة
يرافق ماء الورد اللبنانيَّ في حله وترحاله، فهو مكون أساسي في المطبخ اللبناني، إذ لا يغيب عن أي صنف من أصناف الحلويات العربية والشرقية، كما أنه خير هدية يحملها اللبناني إلى مغتربه، إذ يعتبرها أفضل هدية يحملها من وطنه الأم. في القاعة المخصصة لبيع الزيت والبخور والتذكارات داخل دير مار اليشاع في منطقة بشري، يتصدر ماء الورد الرفوف التي تباع عليها المونة المنزلية. تفتخر السيدة زينة (مسؤولة المبيعات) بأنها تبيع واحداً من أفضل أنواع ماء الورد في لبنان، فهو يزرع في إحدى الأراضي الزراعية التابعة للدير والمطلة على وادي قنوبين. وتلفت إلى أن الناس يشترون ماء الورد لأسباب مختلفة، البعض منهم من أجل العناية بالبشرة، أو حتى من أجل استخدامه كعطر شخصي، أو حتى بالمطبخ. يجذب ماء الورد المقطوف من أراض جبلية الزبائن، ويؤكد العاملون أنه يمتلك رائحة قوية ونكهة مميزة. وهو يحتل مكانة خاصة إلى جانب ماء الزهر وماء القصعين ودبس الرمان وحامض الحصرم (العنب قبل نضوجه)، وغيرها من المنتجات الطبيعية.
بشير مصطفى – الخبر من المصدر