تعد “البراغماتية” إحدى أبرز صفات “حزب الله” التي تجعله يتكيف ويتعايش مع المتغيرات السياسية، لا سيما عند حصول تطورات إقليمية ودولية، فخلال الحرب الأهلية اللبنانية كان جزءاً من الميليشيات المتقاتلة وكان معارضاً لاتفاق “الطائف” الذي أنهى تلك الحرب التي دامت حوالى 15 عاماً، إلا أنه بعد إقرار الاتفاق أعلن تكيفه معه والتزم شكلاً بتطبيقه، لكنه عمل بالشراكة مع سلطة “الوصاية” السورية حينها على عرقلة عديد من بنوده
وخلال مرحلة الوجود السوري في لبنان شارك في الانتخابات النيابية والتزم قرارات الحكومة، لكنه بالتزامن احتفظ بمخرج لنفسه وهو “مقاومة” إسرائيل الأمر الذي سهل بناء منظومة عسكرية بتدريب وتمويل إيراني وبغطاء سوري، إلى حين وقوع “الحرب” الأولى مع إسرائيل التي شنت في 10 أبريل (نيسان) 1996 عملية عسكرية واسعة ضد “حزب الله” استمرت لمدة 16 يوماً قبل أن يتم التوصل حينها إلى اتفاق “تفاهم نيسان”، الذي أعلنه رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري من بيروت بتاريخ 26 أبريل بحضور وزيري خارجية فرنسا ولبنان، فيما كان يعلن عنه بالتزامن من القدس رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك “شيمعون بيريز” بحضور وزير الخارجية الأميركي.
ويعد هذا الاتفاق الخطي الوحيد المعقود بين لبنان وإسرائيل، بعد اتفاق الهدنة الموقع عام 1949، فكان “الغطاء” الشرعي الذي استفاد منه “حزب الله” ضمن كنف الحكومات المتعاقبة التي كانت تشير إلى شرعية سلاح الحزب تحت معادلة “جيش وشعب ومقاومة” وإن تغيرت التعابير بين حكومة وأخرى.
الانسحاب الإسرائيلي
وتعتقد بعض المراجع السياسية التي واكبت تلك المرحلة، أن “قواعد الاشتباك” التي تضمنها “تفاهم نيسان” مهد لانسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان عام 2000 وتطبيق القرار الدولي رقم 425، إلا أنها في المقابل كانت نقطة تحول أساسية في تحول “حزب الله” تدريجاً من “فصيل” عسكري مهمته “حروب العصابات” إلى ما يشبه التنظيم العسكري الرسمي، بعد أن سمح له بإنشاء معسكرات تدريب ومراكز عسكرية وحرية تنقل المقاتلين والأسلحة وإمكانية إدخالها وإخراجها من وإلى لبنان.
وتشير إلى أنه بناء على “تفاهم نيسان” والتفاهم الضمني الذي رعاه حينها الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك ووساطة ألمانية بالتفاهم مع سلطة الوصاية السورية، لم يدخل الجيش اللبناني إلى المناطق الجنوبية التي انسحبت منها إسرائيل، بل أنيط الأمن فيها لـ “حزب الله” بموافقة الرئيس اللبناني السابق إميل لحود وقرار من حكومة رئيس الوزراء السابق سليم الحص.
المقايضة الكبرى
وحسب المعلومات، لم يكن الحريري راضياً عن ترك الجنوب المحرر حينها تحت إدارة “حزب الله”، وهذا ما عبر عنه نائب الحزب حسن فضل الله في كتابه “من رؤية الإسلام لمفهوم الدولة”، إذ أشار إلى أن الحريري الذي كان في المعارضة أثناء الانسحاب الإسرائيلي، كان يسعى لدخول الجيش على رغم قناعته بالشراكة مع الحزب وضرورة الاحتفاظ بقوته العسكرية حتى إنجاز التسوية مع إسرائيل.
وحسب فضل الله، حاول الحريري لاحقاً تقديم العروض للحزب مقابل تخليه عن سلاحه، من ضمنها أن يتسلم أحد نوابه رئاسة المجلس النيابي بدلاً من رئيس “حركة أمل” نبيه بري مقترحاً أسماء نواب في كتلة الحزب في البرلمان مثل علي عمار ومحمد رعد أو محمد فنيش.
ويشير إلى أن فكرة مقايضة السلاح بالسلطة تبلورت في دوائر القرار الفرنسي وأبلغها الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك إلى الرئيس الإيراني آنذاك محمد خاتمي، ثم حملها مسؤول ياباني إلى “حزب الله” مبدياً الاستعداد لتمويل مشاريع بنيوية بمليارات الدولارات في مناطق الحزب وتقديم مساعدات مالية سخية لبيئته الشعبية في مقابل تخليه عن السلاح مع الاحتفاظ بدور سياسي محوري له في لبنان ورفعه من لائحة الإرهاب الأميركية وفتح الأبواب الغربية أمامه.
حرب يوليو
وبعد اغتيال الحريري في 14 فبراير (شباط) 2005 وانسحاب القوات السورية من لبنان وصدور القرار الدولي 1559 الذي ينص على تسليم “حزب الله” وجميع الفصائل المسلحة السلاح للدولة اللبنانية، استشعر الحزب خطر الاصطدام بالدولة، الأمر الذي دفعه للمشاركة في الحكومات لأول مرة لفرملة الاندفاعة الشعبية والسياسية التي برزت عبر تحالف قوى (14 آذار)، التي فرضت عليه “الحوار” لمناقشة قضية السلاح عبر ما سمي حينها “استراتيجية دفاعية”، إلا أنه استطاع التنصل من ذلك الحوار بعد الحرب التي شنتها إسرائيل في 12 يوليو (تموز) 2006 ضد “حزب الله”، التي انتهت بعد 33 يوماً بصدور القرار الدولي 1701، الذي بموجبه تم رفع عديد قوات حفظ السلام الدولية العاملة في جنوب لبنان إلى 15 ألف عنصر، وكذلك دخل الجيش اللبناني إلى الجنوب لينتشر في جميع الأقضية الجنوبية.
قواعد الاشتباك
إلا أنه على رغم تأكيد القرار الدولي 1701 على منع أي تواجد عسكري لـ “حزب الله” في منطقة جنوب نهر الليطاني، أي بعمق حوالى 20 كلم شمال الحدود الإسرائيلية، إلا أنه تبين لاحقاً وجود اتفاق “ضمني” ينظم قواعد اشتباك جديدة بين الحزب وإسرائيل بصورة “منقحة” عن تلك التي تضمنها “تفاهم نيسان” عام 1997، وهو ما أثبتته الأحداث والاشتباكات “المضبوطة” التي حصلت منذ عام 2006 حتى الآن، ويتمثل بأن أي رد سيقابله رد مماثل من دون أن يتطور إلى حرب أو معركة واسعة النطاق.
وفي هذا السياق يوضح وزير الداخلية اللبناني السابق مروان شربل، أن “قواعد الاشتباك تعني بقاء العمليات محصورة في حدود الفعل ورد الفعل بالحجم نفسه، والتزام الأطراف قدر الإمكان القرارات الدولية، بما فيها القرار 1701”. ويشير إلى أن “قواعد الاشتباك لا تزال اليوم محصورة بقصف ورد بالطريقة نفسها وضمن مناطق وحدود معينة”.
والأمر نفسه يؤكده مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والاستشارات العميد خالد حمادة، الذي يوضح أن “قواعد الاشتباك هي في الحقيقة قواعد التدخل لا الاشتباك، وترتبط بالدرجة الأولى بالقرار 1701، الذي دعا الحكومة اللبنانية لنشر قواتها المسلحة في الجنوب بالتعاون مع قوات الطوارئ الدولية التابعة للأمم المتحدة (يونيفيل)، وطرق التنسيق بين الطرفين، وبنود أخرى لم تأت أي منها على ذكر قواعد اشتباك بين إسرائيل و(حزب الله)”.
ويلفت إلى أن “قواعد الاشتباك مصطلح يجرى استخدامه عند قيام الحزب مثلاً بأعمال في جنوب الليطاني ليست ضمن القرار 1701، أو عندما يحصل قصف إسرائيلي على مزارع شبعا، ويرد الحزب بقصف على الموقع نفسه، وهي أحداث سجلت مرات عدة في الأعوام الماضية، لكن هذه الأعمال باتت روتينية، وليست بجديدة أو غير مألوفة، ولم تثر أي مشكلات، لذا يتم وضعها ضمن إطار قواعد الاشتباك”.
“المقاومة” والبيان الوزاري
في المقابل يوضح المستشار في العلاقات الدبلوماسية والدولية قاسم حدرج، وهو مقرب من “حزب الله”، أنه لا يوجد اتفاق بين الحزب وإسرائيل على أي قواعد، إنما مجريات الأمور وقوة الردع التي يملكها الحزب فرضت واقعاً عرف بـ “قواعد الاشتباك”، وأن “مصطلح قواعد الاشتباك خرق أو حفاظ من جانبي الصراع فيختلط الأمر على البعض معتقداً أن هناك قواعد ملزمة تحكم الصراع بين الطرفين”.
وبرأيه فإن صراع “حزب الله” مع إسرائيل بهدف استعادة الأراضي المحتلة هو ذو طابع عسكري إلا أن إسرائيل تستهدف بشكل دائم المدنيين كعقاب لبيئة الحزب بعد أن نجح باستهداف مراكز حيوية داخل إسرائيل التي رضخت لتلك المعادلة.
وأشار إلى أن “بنود الاتفاق الذي تم التوصل إليه عام 1996 يحظر على الجانبين استهداف المدنيين مع حق لبنان بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي وهذا يعد إنجازاً للبنان”، لافتاً إلى “أنه بعد خرق هذه الاتفاقية في عام 2006 وعودة إسرائيل لاستهداف المدنيين في لبنان رد الحزب بالمثل”.
وأكد أنه بعد التوصل إلى القرار 1701 الذي ينص على وقف الأعمال العدائية عادت قواعد الاشتباك التي كان معمولاً بها عام 1996، وذلك بغية عدم إحراج الدولة اللبنانية التي نصت بياناتها الوزارية على حق لبنان بمواجهة الاحتلال بكل الوسائل الممكنة اقتصرت أعمال “المقاومة” العسكرية على استهداف مواقع الجيش الإسرائيلي في الأراضي اللبنانية المحتلة، محتفظة بحقها بالرد بالطرق المناسبة في حال وسعت إسرائيل دائرة هجومها واخترقت الخطوط الحمراء غير المرسومة على الخرائط.
ويشدد على أن ما يسمى “قواعد اشتباك” لا يتناقض مع بيانات الحكومات ومن ضمنها الحكومة الحالية، كونها تعطي “حزب الله” الحق الشرعي بمواجهة أي انتهاك إسرائيلي على الأراضي اللبنانية، مضيفاً أن الحزب يحافظ عليها انطلاقاً من كونه “مقاومة لبنانية” مشروعة لديه مهمة وطنية هي تحرير ما تبقى من أراض محتلة، معتبراً أن الترسيم الحدودي البحري هو خير تطبيق عملي لهذه القواعد حيث وقف الحزب خلف الدولة ولم يبادر إلى أي عمل عسكري قد يعيق مسار المفاوضات.