ومثل ظهوره، كان اختفاء العبسي لغزًا، فلم يكد لبنان في حينه يلملم آثار العدوان الإسرائيلي عليه في يوليو/ تموز 2006، حتى دارت عجلة حرب جديدة شمالًا. وكان شاكر العبسي الطرف الأبرز فيها.
البداية من ليبيا
وخلال الثمانينيات من القرن الفائت، وصل إلى ليبيا شاب فلسطيني يدعى شاكر العبسي، كانت مهمته الأساسية التعلّم والتدرّب على الطيران الحربي منتدبَا من حركة فتح التي كانت تربطها علاقات جيدة مع الزعيم الليبي معمّر القذافي.
وفي منتصف التسعينيات، ترك العبسي الذي أصبح ملازمًا طيارًا، العاصمة الليبية متوجهًا إلى سوريا.
وفي دمشق، التقى أشخاصًا كانوا جزءًا من الجماعة الليبية المقاتلة، ومن خلالهم، تعرّف على اثنين من أفراد تنظيم القاعدة هما السوريان محمد طيورة وأحمد حسون.
وفي عام 2000، أسّس العبسي مجموعة جهادية سريّة داخل فتح الانتفاضة بغطاء من أبي خالد العملي، نائب رئيس الحركة.
ولادة فتح الإسلام
وبعد عامين على انتفاضة الأقصى، حاولت هذه المجموعة نقل الأسلحة إلى الداخل الفلسطيني عبر الجولان المحتل، إلّا أن قوات الأمن التابعة للنظام السوري أحبطت العملية وألقت القبض على أفراد المجموعة بمن فيهم شاكر العبسي باستثناء محمد طيورة وأحمد حسون.
تنقّل العبسي بين معتقلات عدة من بينها سجن صيدنايا، حيث وضع الأسس الأولى لتنظيم فتح الإسلام بالتنسيق مع معتقلين جهاديين.
ومع تسلّم آصف شوكت رئاسة فرع فلسطين في قوات النظام السوري عام 2005، أخلي سبيل العبسي، تزامنًا مع انسحاب دمشق من لبنان، وفق ما يروي عضو هيئة علماء المسلمين الشيخ نبيل رحيم.
من جهته، يلفت قائد فوج المجوقل السابق العميد المتقاعد في الجيش اللبناني جورج نادر إلى أن من يخرج من السجون السورية يكون عميلًا للنظام عادة.
وبُعيد خروجه من السجن، تواصل العبسي مع محمد طيورة وأحمد حسون لاستقطاب مجندين من دول عربية وتدريبهم في معسكرات فتح الانتفاضة في لبنان بصورة سرية.
وتوجه العبسي بمجموعته نحو مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الشمال اللبناني متنقلًا من مخيم إلى آخر تحت غطاء فتح الانتفاضة، إلى أن انقلب عليهم مسيطرًا على مقارهم في مخيمي البداوي ونهر البارد، قبل أن يعلن ولادة تنظيم فتح الإسلام في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007.
وجرى اقتحام عدد من البنوك في الشمال اللبناني لتمويل التنظيم الوليد، كما حصلت تفجيرات في بلدة عين علق، ما أشعل المواجهة مع الجيش اللبناني في 20 مايو/ أيار 2007.
“مقتل” العبسي
استمرت المعارك بين الجيش اللبناني وفتح الإسلام 15 أسبوعًا انتهت بإعلان الأول سيطرته على المخيم والقضاء على التنظيم.
بدأ الجيش بنقل جثث قتلى التنظيم إلى مستشفى طرابلس الحكومي، وقد أثارت إحداها الريبة حول ما إذا كانت تعود إلى العبسي.
وكانت المعلومات التي استقتها الاستخبارات اللبنانية عن شخصيته قليلة، وجرى استدعاء زوجته رشدية العبسي وعدد من معارفه لمعاينة الجثة.
وأكدت الزوجة أن الجثة تعود للعبسي فيما أكّد العميد المتقاعد مقتله على الجبهة مستدلًا بسلاح أم 4 كان يحمله عند مقتله، “وهو السلاح الذي أخذ من شهيد في الجيش اللبناني”.
الهروب الكبير
لكن لغزًا من نوع آخر بدأ في النمو وسط حديث عن عملية هروب كبيرة شهدها المخيم قبل ساعات قليلة من سيطرة الجيش اللبناني عليه.
وأفاد بعض الأسرى من التنظيم بأنه قبل يوم من سيطرة الجيش، اجتمع العبسي بأعضاء التنظيم ووزع عليهم الغنائم وقال لهم: “لقد ضاقت بنا الأرض” أي أن كل منهم عليه الهروب خارج المخيم. وطلب منهم حلق لحاهم وقص شعرهم للتمويه.
ويروى العميد المتقاعد قائد فوج المغاوير السابق شامل روكز أن الجيش كان قد أعد العدة لإنهاء المعركة وحسمها، ويرجح أن هذه المعلومات قد وصلت للعبسي وعندها قرر الهروب بالتنسيق مع جهة خارجية.
وعشية الهروب، قسّم العبسي العناصر البالغ عددهم نحو 70 شخصًا إلى مجموعات، ولم ينجُ منهم سوى عشرة من بينهم العبسي، حيث اختبؤوا في البساتين المحيطة في المخيم 40 يومًا، قبل أن يتوصلوا إلى خطة بالتنسيق مع الشيخ حمزة قاسم، إمام مسجد القدس في مخيم البداوي تقضي بإخراجهم من المكان عبر شاحنة محملة بالطوب للتمويه.
الجثة لا تعود للعبسي
وما كاد الرأي العام يعلم بحقيقة الهروب الكبير حتى عاد اللغز يكبر من جديد، حيث فجّر المدعي العام التمييزي في لبنان سعيد ميرزا مفاجأة، بعد إعلانه أن الجثة التي عاينتها الزوجة لا تعود للعبسي.
وهكذا عاد الغموض ليلف القضية، ولا سيما عقب نشر الصحف اللبنانية في اليوم التالي أن رشدية العبسي أفادت أمام قاضي التحقيق العدلي بأنها قد تكون أخطأت في التعرف على الجثة.
وبدأت أصابع الاتهام تتجه نحو النظام السوري وحلفائه في لبنان. فمن هي الجهة التي تملك نفوذًا يسمح لها بتهريب شخصية بهذا الحجم من لبنان؟
العلاقة مع تنظيم القاعدة
ويروي الشيخ نبيل رحيم أن العبسي أخبره عندما التقى به لمرة واحدة أنه عُرض عليه الخروج من سجنه في سوريا.
ويشير نائب رئيس تيار المستقبل السابق مصطفى علوش إلى أن فتح الإسلام تسلمت جميع المواقع ومخازن الأسلحة من فتح الانتفاضة.
وعادت فرضية الانتماء إلى تنظيم القاعدة التي كان أغلب حلفاء النظام السوري في لبنان يدعمونها لتفرض نفسها من جديد.
وبحسب هؤلاء، فإن تنظيم فتح الإسلام يمثّل امتدادًا مباشرًا لتنظيم القاعدة وشاكر العبسي ليس سوى جندي داخل التنظيم الذي كان يسعى إلى إيجاد موطئ قدم له في لبنان.
اعترافات ابنة العبسي
وبقي السجال قائمًا بشأن العبسي وخلفيته الأيديولوجية حتى سبتمبر/ أيلول 2008، حيث عادت أخبار التنظيم لتحتل شاشات التلفزة ومواقع الأخبار العالمية، بعد أن خرج التلفزيون التابع للنظام السوري ليعرض اعترافات قال إنها لمجموعة من فتح الإسلام تبنّت التخطيط والتنفيذ لانفجار في العاصمة السورية.
وكان من بينهم وفاء ابنة شاكر العبسي التي ادعت لاحقًا عند إطلاق سراحها أن مخابرات النظام جنّدت عدة نساء، وأنه عشية ظهورها على التلفزيون الرسمي أدخلها المحققون على آصف شوكت الذي وعد بالإفراج عن أبنائها القصّر المعتقلين في السجن إذا قرأت ورقة اعترافات محددة مسبقًا.
ومرّ أكثر من عقد ونصف على ظهور تنظيم فتح الإسلام وزعيمه في مخيم نهر البارد. وتعددت الروايات بشأن مصير شاكر العبسي، وإذا كان لا يمكن ترجيح واحدة على أخرى، فإن المخيم الذي تركته المعارك مدمرًا يظل شاهدًا على صراعات ربما لم تبدأ بظهور العبسي ولم تنته باختفائه.