وكانت المدافئ التي تعمل على المازوت، والتي كانت تجتمع حولها العائلات في المناطق الجبلية خلال فصل الشتاء، قد أمست من الماضي، وذلك مع وصول سعر برميل ذلك الوقود إلى 190 دولارا.
وبحسب أمون، فإن ذلك البرميل بالكاد يكفي لمدة شهر، وعليه فإن “رب الأسرة يحتاج إلى إنفاق 370 دولارا لو اختار هذه الوسيلة من التدفئة“.
ويوضح أمون لموقع “الحرة“، أن إقدام غالبية سكان بلدته على “قضم المساحة الخضراء في مناطقهم أمر يحزنهم”، مستدركا: “لكن الوضع الاقتصادي المزري فرض علينا ذلك، فهو الذي يقف خلف تدمير أحراج وغابات لبنان، حتى بتنا أمام مجزرة بيئية بكل ما للكلمة من معنى“.
وضرب مثلا، فقال: “قريتنا فقدت أحد أكبر أحراجها، البالغة مساحته حوالي 20 ألف متر مكعب، وبالتالي تحول إلى مساحة جرداء بعد أن كان يضم نحو مليون ونصف المليون شجرة صنوبر، مما يشير إلى حجم الكارثة التي حلّت بالمكان“.
وحتى طبيعة لبنان لم تسلم من الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلد منذ عام 2019، إذ تكالبت، بحسب خبراء، العديد من العوامل إلى جعلت من الأشجار على مختلف أنواعها، الوسيلة الوحيدة للبنانيين لحمايتهم من الموت برداً أو جوعاً، حيث يُستخدم حطبها لإعداد الطعام، وإن كانت التكلفة البيئية والصحية لقطعها كبيرة.
ويأتي في مقدمة تلك الأسباب، انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، وانخفاض قيمة رواتب الموظفين، وارتفاع سعر المازوت، وهو الوقود الرئيسي للتدفئة، وكذلك فاتورة المولدات الخاصة الباهظة، وذلك في ظل التقنين القاسي لكهرباء الدولة ورفع تعرفتها بصورة خيالية.
والمؤسف، والكلام لأمون، أن “البعض اتخذ من التحطيب مهنة، فالعاطل عن العمل يجد في الأمر تجارة مربحة، بعدما وصل سعر الطن منه إلى 200 دولار، كما أن من لا يكفيه مردود عمله اتخذ من بيع الحطب عملا جانبيا لسدّ عجز مدخوله، والنتيجة خسارتنا يومياً رقعة خضراء جديدة، ومعها الطيور التي كانت تستظل بها“.
“مافيا الحطب”
من جانبه، يؤكد رئيس حزب البيئة العالمي، دومط كامل، لموقع “الحرة”، أن “لبنان يواجه موجة قطع أشجار لم يشهد لها مثيل في تاريخه”.
واستطرد موضحا أن ذلك يحدث “سواء بسبب الفقر، حيث تحتاج العائلة يومياً إلى 50 كيلو حطب، أو مافيات منتشرة في مختلف الأراضي اللبنانية، تبيع ما تقطّعه إما حطباً بسعر 200 دولار للطن الواحد، أو بسبب الحاجة إلى نشارة لمزارع الدواجن والأبقار بسعر 250 دولارا للطن الواحد”.
كما تطرق كامل إلى “الغابات التي تُقطع للتفحيم، وهي تجارة مطلوبة ومربحة جداً، مع العلم أنه يمكن لشخص واحد أن يقطع يومياً ما بين 3 إلى 5 أطنان من الحطب، أي ما قيمته نحو 1000 دولار“.
ووفقا لكامل، فإن “مافيات الحطب لا تميز بين الأشجار المعمّرة كاللزاب والشوح، وغير القابلة للتجدد كالصنوبر والشربين، والتي يمكن تشحيلها، وعليه تحدث إبادات جماعية بحق الأشجار في مناطق جبلية عدة، لا بل إن بعض المافيات تنزع جذوع الأشجار، منتهزة فرصة عدم قدرة الأجهزة المختصة على ملاحقتها بسبب نقص عديدها وعتادها، رغم الجهود الكبرى التي تبذلها“.
وكشف آخر إحصاء بشأن مساحة الغابات في لبنان، أُعد عام 2005، أن الغابات “تغطي أكثر من 13 في المئة من مساحة الأراضي اللبنانية، في حين أن الأراضي الحرجية الأخرى تمثل نسبة 11 في المئة من المساحة الإجمالية، مما يعني أن حوالي ربع مساحة لبنان هي غطاء حرجي”.
وعهد قانون الغابات، إدارة قطاع الغابات والأحراج الخاصة والعائدة للجمهورية اللبنانية والبلديات، إلى وزارة الزراعة الممثلة بمديرية التنمية الريفية والثروات الطبيعية، وهي تضم دائرة الأحراج والتحريج والاستثمار والمراعي وحرّاس الأحراج.
وبحسب مديرها، شادي مهنّا، فإن الأشجار “تنقسم إلى قسمين، ورقية كالسنديان والملول والعفص والغار، وصمغية كالصنوبر واللزاب والأرز والشوح“.
وأردف: “بحسب القانون، فإن الأشجار الصمغية محمية، وبالتالي يمنع قطعها إلا في حالات استثنائية، منها حالة البناء المرخص، والأشغال التي تقوم بها مؤسسة عامة كشق أوتوستراد (طريق سريع)، وإذا كانت السلامة العامة تستدعي ذلك كإمكانية سقوط شجرة على بناء“.
ويشرح مهنّا لموقع “الحرة، أن “الرخص التي يمكن الحصول عليها من وزارة الزراعة، تقتصر على رخصة التشحيل، وهي رخصة استثمار كون الغابات مصدر رزق، ورخصة التفحيم لإنتاج الفحم“.
وتابع: “نحن نحدد المكان والكمية وكيفية إتمام العملية للمحافظة على استثمار مستدام للموارد الطبيعية. يبدأ موسم التشحيل في سبتمبر ويستمر إلى أبريل، وهو ضروري لإعادة تجدد الغابات وحمايتها من الحرائق، أما موسم التفحيم فيستمر من أكتوبر إلى يونيو“.
ونبه إلى أن المشكلة “لا تكمن في الأشخاص الذين يحصلون على رخصة لتشحيل وتفحيم الأشجار، بل بمن يقطعون الأشجار بصورة مخالفة للقانون، وخاصة المافيات التي زادت مخالفاتها بشكل كبير في السنوات الثلاث الأخيرة، بسبب الطلب الكبير على الحطب، والكارثة الأكبر أنها تنقله من منطقة إلى أخرى“.
خطورة عالمية
وشدد مهنّا على أن “بعض الغابات العملاقة كالأمازون والكونغو، رئة العالم، أما الغابات المتوسطية فتعتبر السد الأول والأخير أمام تمدد التصحر“.
وتابع: “لذلك يعمل حراس الأحراج كل ما في وسعهم للحفاظ على المساحات الخضراء في لبنان، لكنهم يواجهون صعوبة بسبب نقص عددهم الذي لا يصل إلى 150 حارساً”.
وفي هذا السياق، أكد أنه “يمكن للبلديات تعيين نواطير (حراس) أحراج على نفقتها، وبعد موافقة وزارة الزراعة يحق لها تسطير محاضر ضبط“.
واعتبر كامل أن “غابات لبنان هي الرئة لمنطقة شرق المتوسط ودول الجوار والداخل العربي، كونها تؤمن كميات الأوكسجين المطلوبة لتلك المناطق، وهي حاليا مهددة، مما يشكل خطراً كبيراً على البيئة العالمية وعلى الإنسان وكل الكائنات الحية“.
وتابع بأسى: “وكأنه لا يكفي غابات لبنان الحرائق التي تجتاحها كل عام، والتي أوصلت بعضها إلى الترميد الكامل، ومن أجل ذلك يجب اعتبار قطع الأشجار جريمة كبرى، لما للغابات من دور مهم في حماية كوكب الأرض من آثار تغير المناخ”.
وأوضح أن هذه الغابات “تمتص ثاني أكسيد الكربون من الجو وتخزنه، وفي المقابل تطلق الأوكسجين، وعندما يتم قطعها ستعاود إطلاق ثاني أكسيد الكربون مرة أخرى، مما يفاقم الاحتباس الحراري، عدا عن دور الغابات في تنظيم درجات الحرارة المحلية والرطوبة، والحفاظ على التنوع البيولوجي والتربة“.
وفي يوليو الماضي، حذّر مفوض حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فولكر تورك، من أن تغير المناخ ينذر بمستقبل “مرعب حقا”، ينتشر فيه الجوع وتسوده المعاناة.
وقال خلال نقاش في مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، بشأن الحق في الغذاء، إن “الظواهر المناخية المتطرفة تقضي على المحاصيل وقطعان الماشية والنظم البيئية، وهذا يقوّض قدرة المجتمعات على إعادة بناء نفسها وإعالة نفسها، ويجعل هذه المهمة مستحيلة“.
وخلال مؤتمر “الواقع البيئي والعدالة المناخية في لبنان: نحو مؤتمر الأطراف 27″، أكد وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال، ناصر ياسين، أن “باحثين لبنانيين وخبراء في وزارة البيئة والجامعة اللبنانية والمؤسسات الدولية “وضعوا سيناريوهات كارثية محتملة لتأثيرات تغير المناخ”.
وأضاف: “لكن حتى هذه الساعة لم يتم التوصل إلى مقاربات جدّية لحل هذه المشكلات، وذلك لعدة أسباب، أولها تأثير الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية، رغم أن التغير المناخي شكل عاملاً ضاغطاً على التأزم الاقتصادي، كون مخاطر المناخ تؤثر على القطاعات كافة“.
“تراخ قضائي”
وللحد من مخالفات قطع الأشجار، طلبت وزارة الزراعة مساندة الجيش اللبناني، حيث شددت قيادته “الرقابة على الحواجز الأمنية، حيث تدقق بالآليات التي تنقل حطباً للتأكد من حيازة مالكها على ترخيص من وزارعة الزراعة، وإلا يتم توقيفه ومصادرة البضاعة واتخاذ الإجراءات القانونية بحقه”، وفقا لكلام مهنّا .
ولفت إلى أن “حراس الأحراج يؤدون دور الضابطة العدلية، أي يضبطون المخالفات ويسطّرون محاضر ترسل إلى القاضي الذي يعود له البت فيها”.
وأردف: “دور القضاء أساسي في قمع المخالفات، إلا أنه للأسف هناك تراخ بالأحكام، فعدد قليل من القضاة أصدروا أحكاماً رادعة“.
وبعد انهيار قيمة العملة المحلية أصبحت قيمة الغرامات زهيدة، وهي مليونا ليرة لطن الحطب، في حين أنه يباع بـ 200 دولار أي ما يعادل حوالي 18 مليون ليرة، “مما يشجّع المخالفين على التمادي أكثر فأكثر” بحسب مهنّا، الذي أضاف: “لكن يحق للقاضي الحكم بسجن هؤلاء لفترة تصل إلى شهر وذلك بحسب فداحة مخالفتهم، وإلى حين تعديل القانون ورفع الغرامات نتمنى تطبيق هذه العقوبة“.
كما أعرب كامل عن أمله في أن “يدرك قاطعو الأشجار مدى التأثيرات الصحية والجسدية والنفسية التي يخلفونها، ليخشوا على صحتهم وصحة أبنائهم، فتلك الأشجار تمتص الملوثات، وبالتالي تساهم في تحسين جودة الهواء وتقليل خطر الإصابة بالأمراض التنفسية، مثل الربو“.
وزاد: “وأما نفسياً فترتبط الأشجار بالراحة، مما يعني أن قطعها قد يزيد من حالات التوتر والقلق“.
يذكر أن “تلوث الهواء، هو القاتل الصامت الأول في لبنان، فقد تسبب بأمراض قاتلة بمعدل شخص من كل 9 أشخاص”، كما ورد في ورشة عمل نظمتها وزارة البيئة اللبنانية بالتعاون مع مؤسسة “هانز زايدل”.
وأشار خلالها وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال، ناصر ياسين، إلى أن “الكلفة الصحية الناجمة عن تلوث الهواء تبلغ 900 مليون دولار سنويا“.
مبادرات إنقاذية
ودفع اضمحلال الغطاء الحرجي إلى خلق مبادرات متنوعة لزيادة المساحات الخضراء، برعاية وإشراف ودعم وزارة الزراعة والبيئة وزارة البلديات والمنظمات غير الحكومية والمجتمعات الأهلية والقطاع الخاص.
ومن بين تلك المبادرات ما عرفت باسم “الأربعين مليون شجرة” التي أطلقتها وزارة الزراعة عام 2012، التي تهدف إلى زيادة الغطاء الحرجي من 13 في المئة إلى 20 في المئة، على مساحة 70 ألف هكتار خلال عقد.
وعن تلك المبادرة الطموحة، علّق مهنا قائلا: “لا تزال مستمرة، لكن لا توجد أرقام دقيقة لدينا عن عدد الأشجار التي تمت زراعتها حتى الآن“.
ومن الجمعيات غير الحكومية التي تعمل على مواجهة تراجع المساحات الخضراء والتصحر في البلاد، جمعية “جذور لبنان” التي أبصرت النور عام 2008.
وقالت مديرة البرامج فيها، جويل سركيس: “نسعى إلى إعادة تشجير لبنان، لا سيما في الأراضي العامة (المشاع والأوقاف)، وحتى الآن تمكّنا من زراعة 400 ألف شجرة، من عدة أصناف حرجية محليّة، وفي مناطق مختلفة، من بينها جبوله وإهدن وكفر ذبيان وجزين وإبل السقي، وذلك للحفاظ على التنوع البيولوجي“.
ومن أهداف الجمعية أيضا، “تشجيع وتمكين المجتمعات المحلية على حماية وإدارة والاستفادة من مشاريع التشجير”، بحسب سركيس.
واستطردت في حديثها إلى موقع “الحرة”: “في ظل الأزمة الاقتصادية وارتفاع نسبة البطالة بين اللبنانيين، نحرص على أن تكون اليد العاملة من أبناء البلدة التي ننفذ فيها المشروع، وأن يستفيد الأهالي من المحاصيل“.
ومن ضمن المهام التي تقوم بها “جذور لبنان”، حملات توعية لطلاب المدارس والجامعات والشركات، لتعزيز الوعي البيئي بأهمية الموارد الطبيعية”، ومن نجاحاتها التي تعتز بها “اتخاذ بعض الشركات مبادرة زراعة أشجار وذلك لتعويض كميات الانبعاثات التي تنتج عن نشاطاتها”، وفقا لسركيس.
ورأت أيضا لأن زراعة الأشجار “أمر لا بد منه لتمكين الطبيعة من الاستمرار”، مردفة: “فهي تدخل ضمن حقوق الأجيال القادمة بالتمتّع ببيئة صحية“.
وكذلك شدد مهنّا على ضرورة المساهمة أكثر فأكثر في حماية الغابات وزيادة رقعتها، مضيفا: “إذا كانت مساحة لبنان عاجزة عن وقف التغير المناخي، فإنه يجب على أقل تقدير، التقليل من أضراره وإبطاء عواقبه في البرّ والبحر“.
لكن حماية الغابات تتطلب، كما يرى كامل، “خطة علمية متكاملة، تشمل دعم مشاريع إعادة التحريج وممارسات الزراعة المستدامة وزيادة الوعي العام بالأهمية البيئية للمساحات الخضراء، والأهم مكافحة قطع الأشجار، كي لا تستمر مافيات الحطب بارتكاب جرائمها البيئية وانتزاعها ما تبقى من غطاء لبنان الأخضر“.