لم يعد للسلاح مفاعيل على الصراع مع إسرائيل. مفاعيله موسمية، أكثرها تعبوي إعلامي، ترتفع وتنخفض وفق أجندة طهران وسياساتها الخارجية. غير أن تراجع وظيفة السلاح الإقليمية، تدفع هذا السلاح لإجادة وظيفته اليومية في إرهاب اللبنانيين عامة من جهة، وإقناع الشيعة من جهة ثانية بأن وجودهم وبقاءهم وأمنهم مرتبط بقوة وديمومة “سلاح الشيعة”.
يصطدم “سلاح الشيعة” مع المجتمع الأهلي اللبناني وطوائفه. اصطدم مع السنّة والدروز وها هو خلال الأيام الماضية يصطدم مع المسيحيين. بدا الجمهور المسيحي منقلباً على الأجواء التي فرضها تفاهم مار مخايل عام 2006 بين الحزب والتيار الوطني الحرّ بزعامة ميشال عون. ما سُمع في “الكحالة” بعد مقتل شخص قريب من الأجواء العونية يمثّل حالة قرف من الأمر الواقع الذي يفرضه الحزب على لبنان وطوائفه وعلى مسيحييه في ما حدث في عين إبل والكحالة في الأيام الماضية.
“الغضب المسيحي” قاد إلى صدور مواقف عن قيادات مسيحية تنذر بتجاوز الأسلوب “السياسي التقليدي”، وفق تصريح رئيس حزب الكتائب سامي الجميل. بدا أن مطالبة الشارع المسيحي بالردّ على السلاح بالسلاح قد وجدت صدى لها، وعلى نحو مخصّب بشعبوية اللحظة، في ثنايا ما خرجت به قيادات مسيحية متزّنة لطالما دعت إلى احترام الدولة والسلم والحوار والقانون.
قد تكون الرؤوس الحامية وراء هذا الانزلاق السهل نحو ما سيقود إلى الحرب الأهلية. وقد تكون شهية الأحزاب المسيحية للاستقطاب والغرف من الشارع المسيحي وراء هذه المزايدات الخطيرة التي تنذر بالصدام الكبير. وإذا ما فاض الكيل لدى المجتمع المسيحي ضد “سلاح الشيعة” فذلك متأتٍ ومتراكم من نزاعات عقارية في منطقة “لاسا” و”جرود العاقورة” و”أفقا” ومن استفزازات داخل مناطق مثل “عين الرمانة” وقلب “الأشرفية” وصلت إلى حدّ زرع الرعب وحصد الكراهية في بلدات مسيحية بعد كمين القتل في “عين إبل” أو مقتل ابن “الكحالة” في ساحة بلدته.
يقلق حزب الله من الحرب الأهلية. الحرب تجعله مكشوفاً تشلّ سلاحه الاستراتيجي المفترض أنه يروم التوازن مع إسرائيل، وتدفعه للاندفاع في زواريب لا يمكن، كما حال أي حرب أهلية، أن يخرج منها متعافياً. ينزع صدامه المسلح مع المسيحيين عن سلاحه تلك الشرعية الدستورية والأخلاقية التي كان يردّ بها على متهميه بالطائفية في الداخل ومصنفيه بالإرهاب في الخارج.
يقرأ حزب الله جيداً تاريخ حرب البلد الأهلية (1975-1990)، ويتذكّر كيف أنّه حين خيّل للسذّج الانتصار على “السلاح المسيحي” انقلب الخارج على المنتصرين وأحالهم مدجنين طيّعين جميعا ومن كافة طوائف البلد لإرادة وصاية من خارج الحدود.
يخاف الحزب من الحرب الأهلية على الرغم من جهوزية بيئته لخوضها وتنفيذ الأوامر من دون تردد أو مراجعة. بقيت البيئة ملتصقة بـ”سلاح الشيعة” حتى لو استُخدم في اغتيال رجالات البلد من رفيق الحريري إلى لقمان سليم، أو استخدم لإنقاذ نظام دمشق والفتك بأعدائه أو دعم الحوثيين في اليمن أو اختراق الكويت بخلية خطيرة أو تحويل بيروت إلى منبر لإطلاق حملات الشتم ضد الخليج واستضافة خصومه ومعارضيه. والبيئة تختلف عن الطائفة لجهة توسّع دائرة الاعتراض لدى الشيعة على سياسات الحزب وخياراته على ما أثبتت الاختراقات الانتخابية أو تصاعد ظواهر التذمّر والجهر والمعارضة والانتقاد.
يروق للحزب هذا الصدام الأهلي نصرة لسلاحه. تتصادم الأحياء والجماعات وقد يظهر “سلاح فتنة”، وفق ما سيُطلق عليه يمنح استعلاء أخلاقيا لـ “سلاح المقاومة”. سيرتاح الحزب للتهديد بالسلاح الصادر ضمنا أو علنا عن منابر مسيحية متعجّلة. الأمر يعطي لسلاحه مبرر بقاء ووجود ويُسهّل عليه تمرين إقناع الشيعة باستمرار حاجتهم لهذا السلاح حتى لا “يبيدهم” سلاح المسيحيين (الإسرائيلي الأميركي المشبوه) على منوال ما روّجه لهذا السلاح بصفته ضرورة لحماية الشيعة من إبادة حتمية بسلاح إرهابيي داعش وأمثالهم (الإسرائيلي الأميركي أيضا). والحزب مرتاح لخطاب السلاح طالما أنه يعتبر أنه يمتلك في هذا المجال، وحتى إشعار آخر، فائض قوة على أي سلاح.
جنّد الحزب منابره الإعلامية لتسويق روايته حول “عين إبل” و”الكحالة”. أحدهم حذّر من قيام الموساد والسي آي ايه باغتيال شخصيات معارضة للحزب حتى يتمّ اتهام هذا الأخير. بدا أن الحرج كبير يستحق جهودا خارقة، للمفارقة دفاعية تبريرية، من أجل إظهار براءة مستحيلة. فشلت كل هذه المنابر في إخفاء مشاعر العنجهية والاستقواء والتعصّب وإمساكها الدائم بالحقيقة المطلقة.
غضب المعارضين للحزب في لبنان كان شاملا. ومع ذلك فإن الأمر بقي تحت السقف المألوف ولا يبدو أنه آيل إلى التحوّل إلى موقف وطني خارق للطوائف والحسابات على منوال لحظة مارس 2005. في الهمس أنه صدام مسيحي مع “سلاح الشيعة” والعمل جارٍ على تدارك “الإشكال”.