حَجَبَ دويُّ الحرب التي انفجرتْ بعد «طوفان الأقصى» وهديرُ المخاوفِ التي لا تهدأ من أن يُقتاد لبنان إلى فوهتها، المَخاطرَ السياسيةَ التي تُلاطِمها «بلادُ الأرز» منذ أن بدأ الفراغ في رئاسة الجمهورية قبل عام بالتمام والكمال والتي ارتفع منسوبُها مع عاصفة النار التي تضرب غزة وتلفّ رياحُها الساخنةُ الحدودَ الجنوبيةَ التي صارت مختبراً لتوازن ردع يتم تعديل قواعده وإعادة ضبْطها يومياً تبعاً لمقتضياتِ المعركة في «الأرض الأم».
وبالكاد كان في بيروت أمس مكانٌ لاستذكار مَشْهدِ الرئيس السابق للجمهورية العماد ميشال عون وهو يُغادر في 30 اكتوبر 2022 القصر الجمهوري مختتماً ولايةَ 6 أعوام تَسَلَّم مقاليدها من فراغٍ ليُسلّمَ الدفّة إلى فراغٍ أنهى سنته الأولى… فغزّة التي تُحرقُ أطفأتْ كل العناوين السياسية في بيروت التي ترتدي «مرقّط الطوارئ» منذ أن أُحْدِث ربْطُ النزاع بين جبهة الجنوب والقطاع الذي يَجري «تقطيعه» وتمزيقه بمَن فيه.
وجلّ الاستعادة للأزمة الرئاسية لمناسبة دخولها سنتها الثانية كانت من بابِ تحذيراتٍ وتقديراتٍ بأنّ «ما بعد طوفان» الدم والدمار في غزة الذي لا بد أن يطفو على سطحه ولو بعد حين حلٌّ سياسي – لا يُعرف هل سيكون مستداماً ويشتمل على معالجة أصل القضية الفلسطينية على قاعدة «حل الدولتين» أم لا – يستوجب أن يكون لبنان بـ «كامل عتاده» الدستوري والمؤسساتي لمواكبة مرحلةٍ مرشّحة لأن تطبع المنطقةَ والعالم لعقود.
فوقائع الميدان في غزة وعلى الحدود الجنوبية للبنان كان وهجُها أقوى من أيّ عناوين أخرى، لاسيما في ضوء بدء اسرائيل أمس مرحلةً جديدة من التوغّل في القطاعِ نحو عُمقه على محور صلاح الدين في محاولةٍ لشطْره ومحاصرة «حماس» في رقعة جغرافية (شمالاً) بناءً على إحداثياتٍ جُمعت استخباراتياً ومن تحقيقاتٍ مع موقوفين وقَعوا في قبضة تل ابيب خلال عملية إخراج مقاتلي «حماس» من غلاف غزة بعد 7 اكتوبر.
واستمرّت جبهةُ الجنوب الممتدّة على مسافة نحو 100 كيلومتر مسرحاً لـ «حربٍ يومية» تَخْفت نهاراً وتشتعل بعد الظهر وليلاً على طرفيْ الحدود، بعمق 5 كيلومترات وفق قواعد اشتباك «متعارَف عليها» بين الطرفين وتخرقها عملياتٌ «أبعد مدى» يُمْليها توازنُ الردع ولكن على النحو الذي لا يهدّد بخروج المواجهات عن السيطرة، أقله حتى الآن.
ويحرص «حزب الله» على إبقاء الجبهة مشتعلة، مداورةً في قطاعاتها الثلاثة، الغربي والأوسط والشرقي، لضمانِ استمرار إشغالِ الجيش الاسرائيلي الذي اضطُرّ إلى حَشْدِ 3 فِرق عسكرية معزَّزة بقواتِ النخبة قبالة جنوب لبنان منذ اليوم الأول لـ «طوفان الأقصى»، وهو الأمر الذي يشكّل بحسب الحزب إسناداً لـ«حماس» في معركة غزة.
ورغم تكثيف العمليات العابرة للخط الأزرق والتي شملتْ أمس مستوطنات عدة في شمال اسرائيل، بينها المطلة ونهاريا وكريات شمونة وشلومي، غداة استهداف روش بينا، وذلك في «ردّ متوازٍ» على تعميق الجيش الاسرائيلي استهدافاته لِما فوق 10 كيلومترات كما بقصفه جبال البطم وياطر ومضيّه بسياسة «الأرض المحروقة» من شبعا حتى الناقورة، فإنّ مَصادر مطلعة بقيت على تقويمها بأن خروج الجبهة عن ضوابطها ليس مرجّحاً، على المستوى الميداني، أقله في المدى المنظور، وذلك ربْطاً بمثلثٍ سياسي لا يرغب نظرياً في توسيع رقعة الحرب، كل لاعتباراته، وتمثله الولايات المتحدة، إيران وحتى اسرائيل.
إطلالة لنصرالله
وتوقّفت هذه المصادر عند مجموعة إشاراتٍ تعزّز هذا الاقتناع، حتى إشعار آخَر أو وقوع خطأ في الحساب، وأبرزها:
– إعلان «حزب الله» أن أمينه العام السيد حسن نصرالله ستكون له يوم الجمعة أول إطلالة منذ بدء «طوفان الأقصى».
والأهمّ في هذا الإعلان تمثّل في دعوة الحزب جماهيره للمشاركة في تكريم «الشهداء الذين ارتقوا على طريق القدس دفاعاً عن غزة والشعب الفلسطيني والمقدسات»، وذلك في باحة عاشوراء – الضاحية الجنوبية، حسينية مدينة النبطية، حسينية دير قانون النهر، حسينية مقام السيدة خولة في بعلبك، وهو ما اعتُبر مؤشراً إلى أن «حزب الله» سيُبْقي في الأيام الفاصلةِ عن ظهور نصرالله على الإيقاع نفسه في تحريك الجبهة، لصعوبة تَصَوُّر المخاطرة بأي جرعة زائدة في العمليات تستدرج مَخاطر على مناصريه، ناهيك عن أن شَكْلَ الدعوةِ يحتمل ثقة عاليةً بـ «توازن الردع» وقدرته حتى على جعل اسرائيل تعدّ للألف قبل أي خطوةٍ ولو «ترهيبية» لجمهور الحزب في الساحات او الحسينيات، وهو ما سيكون قيد الاختبار بعد 3 أيام.
– زيادة مَتاعب بنيامين نتنياهو الداخلية في ضوء الارتباك الكبير الذي عبّرت عنه محاولته، في عز الحرب، «تلبيس» الهزيمة النكراء التي شكّلتها لاسرائيل عمليةُ «طوفان الأقصى» إلى وكالات الاستخبارات وتقويماتها قبل أن يعتذر عن ذلك، ثم حُسن إدارة حماس لورقة الرهائن التي تحوّلت قنبلةً في جسم حكومة نتانياهو الذي بات يواجه تظاهرات تدعوه لوقف النار لاستعادة الأسرى الذين ظهرتْ منهم أمس 3 أسيرات توجّهن إليه بـ «موقفك يعني أنك تريد قتلنا».
«فاوضوني»
– خروج طهران مرّة جديدة في ما يشبه إعلان «فاوِضوني» في ملف الرهائن بما يضعها في موقعٍ متقدّم على الطاولة في سياق أي مساراتٍ للخروج من الحرب كما ترتيبات ما بعدها، هي التي باتت أيضاً محورَ تواصل دولي معها على قاعدة عدم توسيع رقعة التوتر عبر أذرعها.
ولم يكن عابراً أمس، كشف إيران أن أكثر من دولة تتواصل معها في ما خص أسْراها لدى «حماس»، وذلك بعدما كان وزير خارجيتها حسين أمير عبداللهيان أكد أنه التقى «المسؤول السياسي لحركة حماس في قطر قبل أقل من أسبوعين واقترحنا عليه اتخاذ إجراءات في شأن إطلاق سراح السجناء المدنيين، وقد قبِل هذه الفكرة».
وأضاف: «سمعتً من السيد إسماعيل (هنية) أننا مستعدون للإفراج عن جميع الأسرى المدنيين الموجودين في غزة، لكن بالمقابل حرية الأسرى تحتاج بالتأكيد الى وقف لإطلاق النار وترتيبات حتى يتمكنوا من التعرّف على العسكريين من المدنيين».
وتابع: «أعتقد أن هناك مشكلة أخرى، وهي وجود 6000 أسير فلسطيني في سجون كيان الاحتلال الإسرائيلي. خلال عملية تبادل الأسرى العسكريين، قد تثار مسألة كيفية إطلاق الأسرى الفلسطينيين بين حماس والطرف الآخَر وهذا ما على حماس أن تقرره. لكن الشيء المهم هو أن نتمكن من لعب دور في الحل السياسي الذي يحترم أيضا حقوق الشعب الفلسطيني ويمنع توسع نطاق الحرب».
لبنان في «عين العاصفة»
وفي موازاة ذلك، تستعد بيروت في الأيام المقبلة لاستقبال مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف، ووزير الجيوش الفرنسية سيباستيان لوكورنو الذي أُعلن أنه سيتوجه غداً إلى لبنان حيث سيزور قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في الجنوب.
وأفاد مكتب لوكورنو أنّ الزيارة ستستمر حتى الجمعة، وتهدف إلى «إعادة تأكيد تمسكنا باستقرار لبنان»، في أوج النزاع بين اسرائيل والفلسطينيين. وأوضح أنّ الوزير الفرنسي سيلتقي قادة لبنانيين بينهم رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي.
وقد أكد ميقاتي، الذي كان زار قطر يوم الأحد في مستهل جولة عربية ستشمل تباعاً أكثر من دولة، أن لبنان في «عين العاصفة» في ظل التوتر القائم في المنطقة، مشيراً إلى أن المساعي مستمرة لتجنيب لبنان الحرب.
وطالب عبر شبكة «سكاي نيوز عربية» بـ«وقف الاستفزازات الإسرائيلية عند الحدود الجنوبية».
وقال: «إذا دخل لبنان الحرب، فإنّ الأمر لن يقتصر عليه بل ستكون المنطقة في حالة فوضى»، لافتاً إلى «أنَّ قرار الحرب بيد إسرائيل إذا واصلت خرق الحدود اللبنانية وانتهاكاتها في الجنوب».
وكان لافتاً ما نقله موقع «لبنان 24» (التابع لميقاتي) عن أوساط حكومية أفادت «بان زيارة رئيس الحكومة لقطر تندرج في اطار المساعي التي يقوم بها لتحصين الساحة الداخلية، وستتبعها زيارات أخرى لعدد من الدول»، مؤكدة «ان ميقاتي مرتاح للزيارة وسمع تطمينات لجهة التشديد على حماية لبنان والعمل لعدم اقحامه في الحرب».
وشدّدت على «أن رئيس الحكومة يسعى بكل قوة لإبعاد الحرب عن لبنان وحري بمن يأخذ عليه قلقه على بلده، وهو المسؤول الاول والعارف بكل امكانات البلد الضئيلة جداً، أن يوقف التجييش للحرب والشحن البغيض لدفع الامور نحو الهاوية وتكرار «مغامرات» مدمرة لم تعد هناك قدرة على تحمّلها.»
وتابعت الاوساط «في الحرب السابقة أعادت قطر إعمار العديد من المناطق اللبنانية التي هدّمها العدوان الاسرائيلي، فهل سأل من يعيب على رئيس الحكومة تحركه لحماية لبنان، مَنْ سيقوم بمهمة الاعمار هذه المرة، في حال كررت اسرائيل عدوانها وجرائمها في حق لبنان وأهله وجنوبه بشكل خاص».
قصف متبادل
ميدانياً، أعلن «حزب الله» أمس، استهداف التجهيزات الفنية والتجسسية لموقع بياض بليدا بالأسلحة المناسبة «وحققنا فيها إصابات مباشرة إضافة الى استهداف دشمه وحاميته»، وموقع المطلة، بالتوازي مع تقارير اسرائيلية عن اعتراض صواريخ في سماء منطقة نهاريا وعن استهداف لكريات شمونة.
وفي موازاة إعلان الجيش اللبناني العثور على 21 منصة إطلاق صواريخ، واحدة منها تحمل صاروخاً معداً للإطلاق في مناطق وادي الخنساء والخريبة – قضاء حاصبيا والقليلة – قضاء صور، استهدف الجيش الاسرائيلي بالقذائف الحارقة كروم الزيتون بين بلدة كفركلا ودير ميماس، بعد قصف لمحيط موقع الراهب في خراج بلدة عيتا الشعب ومنطقة اللبونة قرب الناقورة، ووادي شبعا ومزرعة بسطرة (بالقذائف الفوسفورية والقنابل المضيئة).
وإذ استهدفت غارة إسرائيليّة أطراف بلدة ياطر قبل أن يخرق الطيران الحربي جدار الصوت فوق مدينة صور، فإن ليل الأحد الاثنين كان شهد إلى جانب إسقاط حزب الله مسيَّرة إسرائيلية فوق بلدة الخيام بصاروخ ارض- جو هو من الأحدث في منظومته الدفاعية الجوية ولم يسبق ان استخدمه، إعلان «سرايا القدس»، الجناح العسكري لحركة الجهاد التي لديها مقاتلون في لبنان، عبر تليغرام، مقتل اثنين من عناصرها في موقع حانيتا بشمال إسرائيل.
وكذلك أعلنت كتائب «القسام»، الجناح العسكري لـ«حماس»، أنها أطلقت من الجنوب في اتجاه نهاريا «16 صاروخاً رداً على جرائم الاحتلال بحق أهلنا في غزة»، بالتوازي مع تأكيد «قوات الفجر» – الجناح العسكري للجماعة الإسلامية في لبنان – أنها أطلقت «صليات صاروخية جديدة ومركّزة استهدفت مواقع العدو الصهيوني» في بلدة كريات شمونة.