يتعلّق الموضوع بأوروبا أيضا التي تعاني كلّ دولة من دولها، تقريباً، من تخبط داخلي ينعكس على السياسة الخارجيّة للقارة العجوز والاتحاد الأوروبي، بمن في ذلك بريطانيا التي خرجت من الاتحاد، في العام 2016.
يؤكّد ذلك أنّ أوروبا ما كانت لتتحرّك بفعالية في وجه الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو غزو يهدّد كلّ دولة من دولها، لولا الموقف الأميركي الصلب من هذا الغزو. لولا الموقف الأميركي، لكانت أوروبا كلّها جلست في مقاعد المتفرجين فيما الجيش الروسي يمارس وحشيته في حق أوكرانيا وشعبها.
تكفل الموقف الأميركي الصلب بإغراق فلاديمير بوتين في الوحول الأوكرانيّة. تحسبت اميركا مسبقاً للغزو الروسي. لعبت دوراً، بمشاركة الحليف البريطاني، في اعداد الجيش الأوكراني للدفاع عن العاصمة كييف، المدينة التي حال صمودها دون سقوط أوكرانيا كلّها.
بدأت أوكرانيا تسلّم دبابات «ابرامز» الأميركية بما يشير إلى أن الولايات المتحدة ماضية في دعمها لها.
يبدو الرئيس الروسي عاجزاً عن الخروج من الفخّ الذي نصبه لنفسه في ضوء صمود أوكرانيا بوجود رئيس مثل فولوديمير زيلينسكي في كييف.
لا يزال زيلينسكي، اليهودي الذي يرأس دولة ذات أكثرية ارثوذكسية، قادراً على لعب دور قيادي في مواجهة ما تتعرّض له أوكرانيا منذ الرابع والعشرين من فبراير 2022، أي منذ سنة وثمانية أشهر.
بعيداً عن أوكرانيا، يبدو لافتاً كيف تراجعت فرنسا عن سياستها تجاه النيجر حيث اطاح العسكر الرئيس المنتخب محمد بازوم في 26 يوليو الماضي.
تراجع ماكرون تراجعا كلّياً عن مواقف كان اتخذها في الماضي القريب. قرّر انهاء التعاون العسكري مع النيجر وسحب الجنود الفرنسيين إرضاء للانقلابيين. كذلك، سيعود السفير الفرنسي في نيامي سيلفان ايتي إلى باريس بعدما وجد نفسه محاصراً في مقرّ سفارته.
ستبرر باريس موقفها التراجعي بمشاورات أجرتها مع الرئيس «الشرعي» الذي وضعه الانقلابيون في الإقامة الجبريّة مع افراد عائلته. في المقابل، ليس ما يشير إلى أن القوات الأميركية الموجودة في النيجر ستنسحب، على غرار ما ستفعله القوات الفرنسيّة.
ليس النيجر المكان الوحيد الذي تلقى فيه الوجود الفرنسي ضربة. جاءت ضربة النيجر بعد ضربات في مالي وبوركينا فاسو وجمهوريّة أفريقيا الوسطى، حيث هناك وجود لمجموعة «فاغنر» التي تضمّ مئات الجنود المرتزقة الذين يعملون لمصلحة روسيا.
لم يعد معروفا مصير «فاغنر» في مالي وبوركينا فاسو وجمهورية افريقيا الوسطى بعد مقتل قائد «فاغنر» يفغيني بريغوجين في تفجير طائرته بعيد إقلاعها من أحد مطارات موسكو في 23 أغسطس الماضي. المثير للاهتمام أن فرنسا لم تستفد من البلبلة التي تعرّضت لها «فاغنر» في هذه الدولة الأفريقيّة أو تلك.
ثمة حال ضياع على صعيد السياسة الفرنسيّة في أفريقيا وغير أفريقيا. يشمل ذلك في طبيعة الحال شمال أفريقيا، كما يشمل لبنان.
حال الضياع هذه أوروبيّة أيضا، لكنّ فرنسا تتميّز هذه الأيام عن غيرها برفض التعاطي مع الواقع. تبدو عاجزة كلّيا عن استيعاب ما تتعرّض له في افريقيا.
تبدو السياسة الفرنسية أقرب إلى غياب عن الوعي اكثر من أي شيء آخر. لا تفسير منطقياً للسياسة المتبعة تجاه الجزائر، حيث يحيا النظام من العداء لفرنسا. لا تفسير منطقيا للإصرار الفرنسي على تصفية حسابات لا وجود لها مع المغرب، خصوصا لجهة رفض الإعتراف بمغربيّة الصحراء…
تغيّر العالم كثيرا في السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي أواخر العام 1991 من القرن الماضي. تحرّرت أوروبا الشرقيّة وتحررت أوكرانيا من نير المستعمر الروسي. ما لم يتغيّر هو العجز الفرنسي عن إيجاد دور سياسي على الصعيد العالمي.
استطاع الرئيس الراحل جاك شيراك إيجاد موقع لفرنسا عندما كان في قصر الإليزيه بين 1995 و2007. عرف كيف يفعل ذلك بفضل معرفته العالم ومعرفته الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ودول القارة السمراء.
مع رحيل شيراك، بدأت فرنسا تفقد بوصلتها. ليست مغامرتها الأخيرة في النيجر سوى مثل آخر على العجز عن استيعاب عمق التغيير الذي طرأ على الدور الفرنسي خارج حدود البلد. تبدو مشكلة ماكرون في عدم قدرته على تخيّل فرنسا مجرّد تابع لأميركا.
لا يستطيع تصوّر وجود هامش ضيّق تتحرّك فيه فرنسا في هذا العالم. الهامش الذي تمتلكه فرنسا ضيّق إلى حد كبير رغم أنّها بين الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
خرجت فرنسا من النيجر. تراجعت امام مجموعة من الضباط الذين نفذوا انقلاباً في بلد افريقي كان كلّ ما فيه إلى ما قبل سنوات قليلة فرنسياً.
كانت فرنسا تسرح وتمرح في النيجر. يفترض في كبار المسؤولين في باريس طرح أسئلة عن أسباب كلّ هذا التراجع في افريقيا وأسباب فقدان فرنسا قواعدها في دول عدّة.
قد يكون الجواب عن مثل هذا النوع من الأسئلة سؤالاً وحيداً هو الآتي: هل لدى فرنسا القدرة على التعاطي مع الواقع بحسناته وسيئاته؟
في أفريقيا وشمال أفريقيا تحديداً وحتّى في لبنان، يفترض في فرنسا الاعتراف بأنّ ليس لديها ما تقدّمه لأي دولة من دول المنطقة في غياب سياسة فعالة تعترف بما تستطيع باريس عمله وما لا تستطيع عمله. ما لا تستطيع عمله، قبل أي شيء آخر، هو امتلاك القوة التي تسمح لها بفرض ارادتها في هذه الدولة أو تلك في عالم لم يعد فيه مكان لأوروبا كلّها، فكيف لدولة مثل فرنسا؟