في أغسطس (آب) من العام الماضي، قدم فريق من الباحثين في جامعة “هاواي” دراسة سلطت الضوء على تأثيرات تغير المناخ وانتشار مسببات الأمراض التي تصيب الإنسان، وكشفت عن أن التغيرات المناخية بأشكالها المختلفة تؤثر بشكل مباشر على انتقال الأمراض المعدية من مسبباتها إلى البشر، وإلى مناطق جديدة لم تكن موطناً لهذه الأمراض من قبل.
وخلص الفريق إلى أن 58 في المئة من الأمراض المعدية البشرية المعروفة قد تتفاقم بسبب التغيرات المناخية، نتيجة الارتفاع في درجات الحرارة وظواهر الطقس المتطرفة مثل الجفاف والفيضانات وموجات الحرارة الشديدة، كما أن أكثر من 1000 مسار مرتبط بتغير المناخ ينتهي بإصابة الإنسان بالأمراض، إذ تسهم مسببات الأمراض في كل مسار من هذه المسارات في تفاقم التأثيرات الصحية الناتجة من تغير المناخ.
سلالات جديدة تسبب الأمراض
وبحسب أستاذ المكروبيولوجيا والمناعة بجامعة “الجلالة” وليد فيصل الخطيب، فإن ارتفاع درجات الحرارة فتح الباب أمام نمو بعض البكتيريا في مناطق غير معتادة لها، وأتاح للحشرات الناقلة للأمراض الانتقال والتكاثر في بيئات جديدة لم تكن تتعايش فيها.
وحول الأسباب التي أدت إلى نمو البكتيري في مناطق جديدة عليها، أكد الخطيب أن تغيرات المناخ والظروف المناخية مثل الفيضانات والجفاف أدت إلى إعادة توزيع الخرائط البكتيرية والتوازن الميكروبي على سطح الأرض، وأوضح أن بعض البكتيريا المألوفة لمناطق معينة ينتقل إلى مناطق جديدة نتيجة هذه التغيرات المناخية، سواء بسبب فيضانات أو تسونامي أو ارتفاع درجات الحرارة أو زيادة الرطوبة، أو نتيجة الكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ.
وتوصل بحث منشور في مجلة Nature Climate Change إلى وجود ارتباط وثيق بين انتشار مسببات الأمراض وتغير المناخ، وتضمنت القائمة 375 مرضاً منتشراً في جميع أنحاء العالم سببها الفيروسات والبكتيريا، وحتى الفطريات وحبوب اللقاح.
وتابع الخطيب “ارتفاع درجات الحرارة وتغير المناخ يؤديان إلى قدرة البكتيريا على تحقيق تغييرات في جيناتها لتكيف نفسها مع البيئات الجديدة، والتغير المناخي يدفع البكتيريا المنتقلة لتطوير جيناتها وتغيير خريطتها الوراثية، ما يؤدي إلى ظهور سلالات جديدة تكون أكثر تطوراً”، وأعطى مثلاً فطر “كانديدا أوريس” الذي لم يكن مسبباً للأمراض سابقاً، لكنه تطور نتيجة تلك التغيرات المناخية العالمية، وأصبح قادراً على التسبب في أمراض للإنسان.
وأشارت دراسة نشرت، عام 2019، في دورية “إم بايو” التابعة للجمعية الأميركية لعلم الأحياء الدقيقة إلى أن سبب انتشار عدوى فطر “كانديدا أوريس” قد يكون ناتجاً عن إجبار هذه الأنواع على الاستمرار في العيش بدرجات حرارة أعلى نتيجة تغير المناخ، ويفضل معظم الفطريات درجات الحرارة الباردة الموجود في التربة، ولكن مع تصاعد درجات الحرارة العالمية، اضطر “كانديدا أوريس” إلى التكيف مع درجات الحرارة المرتفعة، مشدداً على أن هذا الفطر وما طرأ عليه من تغيير مثال واضح على تأثير التغيرات المناخية، إذ أصبح الفطر مسبباً للأمراض خلال السنوات الأخيرة.
وتشير المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها إلى انتشار هذا الفطر في أكثر من 30 دولة حول العالم، وتوصلت هذه المراكز إلى نتائج مثيرة خلال عام 2020، بتسجيل ما يقرب من 4750 حالة إصابة على مستوى العالم خلال الفترة من عام 2009 إلى 2019، ووفقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية، يتراوح معدل الوفيات بين 30 و53 في المئة بين المرضى الذين يعانون عدوى هذا الفطر.
وانتقل أستاذ المناعة إلى مسألة أخرى، موضحاً أن التغير المناخي يؤثر في قدرات مناعة الإنسان، كما أن التغيرات المتطرفة للطقس تمهد الطريق لظهور بعض الأمراض كما تضعف الجهاز المناعي. وأشار إلى أن العلاقة معقدة للغاية بين العائلات سواء إنسانية أو حيوانية أو نباتية من جهة، والكائنات الدقيقة مثل الفيروسات والبكتيريا والفطريات والطفيليات من جهة أخرى.
تفشي حمى الضنك وداء شيكونغونيا
وفي أبريل (نيسان) من العام الماضي، أطلقت منظمة الصحة العالمية تحذيراً يتعلق بتفشي حمى الضنك وأمراض أخرى تنتقل عبر البعوض، التي تسببها فيروسات. وأشارت المنظمة إلى أن هذه الأمراض تنتشر بوتيرة أسرع وتشمل نطاقاً أوسع نتيجة التغيرات المناخية، كما دقت ناقوس الخطر من تفشي المرض على مستوى العالم، وتوقعت أن يتفشى فيروس “زيكا” مجدداً في العالم، إضافة إلى ارتفاع حالات الإصابة بحمى الضنك وداء شيكونغونيا.
من جانبه، قال الخبير في التغيرات المناخية وعضو الهيئة الدولية لتغير المناخ بالأمم المتحدة سمير طنطاوي، إن بعض الأمراض مثل الملاريا وحمى الضنك تنتقل نتيجة للتغيرات المناخية، موضحاً أن الحشرات المسؤولة عن نقل هذه الأمراض تستقر في مناطق محددة في وسط أفريقيا، ومع ارتفاع درجات الحرارة، تبحث هذه الحشرات عن مناخ مناسب للعيش وتنتقل إلى الشمال حيث تتوطن في بلدان أخرى.
وأظهرت دراسة حديثة نشرتها مجلة Nature Climate Change أن الارتفاع في درجات الحرارة قد يؤدي إلى انتشار نحو 160 مرضاً، بينما قد ترتبط الفيضانات بانتشار نحو 121 مرضاً، وتنتقل معها مسببات الأمراض مثل البكتيريا والبعوض والقراد وغيرها من ناقلة الأمراض. وعلاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي الطقس المتطرف إلى ضعف جهاز المناعة للبشر وزيادة التعرض للعدوى، سواء من خلال الإجهاد أو سوء التغذية.
أضاف طنطاوي “التغيرات المناخية تجعل هذه الحشرات تنتقل إلى مناطق جديدة لم تكن تتوطن فيها سابقاً، مثل القراد في مصر، حيث كان يعتاد أن يأتي من الجنوب، ولكن في بعض السنوات قدم من الغرب عبر ليبيا نتيجة تغير السلوك الذي تسببت فيه التغيرات المناخية”، وأوضح طنطاوي أن ذلك أثر على استراتيجيات مكافحة القراد في مصر.
انتشار الحشرات الناقلة للأمراض
وبحسب خبراء مركز التنبؤات المناخية في شرق أفريقيا، فإن التغيرات المناخية توفر بيئة جيدة لنمو وهجرة الحشرات الناقلة للأمراض، وسلط عضو الهيئة الدولية لتغير المناخ بالأمم المتحدة الضوء على أهمية استخدام نظم الإنذار المبكر والمراقبة عبر الأقمار الاصطناعية لتتبع حركة الحشرات المسؤولة عن نقل الأمراض واتخاذ تدابير مبكرة للتصدي لها.
وأشار طنطاوي إلى أن “ارتفاع درجات الحرارة أدى إلى هجرة بعض الحشرات، ما ترتب عليه انتقال أمراض مثل حمى الصفراء، وحمى الضنك، والوادي المتصدع، والملاريا”، موضحاً أن “هذه الأمراض ليست متوطنة في مصر، والقلق يكمن في احتمال هجرة هذه الحشرات وتوطنها في مناطقنا”.
وبحسب أستاذ تغير المناخ بجامعة “الزقازيق” علي قطب، فإن تغيرات المناخ تشكل تهديداً لكل الكائنات الحية على وجه الأرض، سواء كانت إنساناً أو حيواناً أو نباتاً، موضحاً أن ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة يؤديان إلى تحفيز هجرة القراد من المناطق الحارة والجافة إلى المناطق الحارة والرطبة. وأشار إلى أن أماكن وجود الحشرات الناقلة للأمراض ترتبط بالظروف المطرية، إذ تجد البيئات الحارة والرطبة ملائمة لبعض الأنواع، مثل أوغندا وكينيا، لكنها لا تستطيع التكيف مع الأجواء الجافة والحارة في الصحراء الأفريقية الكبرى.
وتطرق وزير الصحة المصري خالد عبدالغفار إلى هذه القضية خلال ترؤسه جلسة نقاشية ضمن فعاليات يوم العلوم بمؤتمر الأمم المتحدة للمناخ “كوب-27” الذي استضافته مصر، العام الماضي، بمدينة شرم الشيخ، مسلطاً الضوء على أن ظواهر تغير المناخ تزيد من انتقال عديد من الأمراض المعدية بين الأشخاص، إذ يتعرض مليارات الأشخاص حول العالم لعديد من الفيروسات التي هي في الأساس فيروسات بيئية، داعياً إلى ضرورة العمل على حماية الصحة العامة.
ورأى قطب أن انتقال الحشرات الناقلة للأمراض يتوقف على العوامل المناخية، فأي تغير في هذه العوامل يمكن أن يدفع الحشرات للهجرة والتوجه إلى بيئة جديدة تتوافق وتتلاءم معها، أو تضطر إلى أن تتكيف نسبياً في حال وجود تغيرات موقتة في الطقس، واستطرد “بعض الفيروسات والحشرات تنقل العدوى معها، وعندما تجد العوامل المناخية المناسبة لتطورها، تتطور وتتغير من نفسها”، مشيراً إلى أن هذا الأمر يؤكد الارتباط الوثيق بين التغير المناخي وانتقال الأمراض وتطورها.