إلى النّور في زمن الأفول
فيما كان العصر بتطوراته وديناميكياته السريعة ووسائله الحديثة، يُمارس قسوته على عالم المطبوعات، حتّى أن العديد من الخبراء أمثال المؤلّف الكندي الشهير روس داوسن، أشار في دراساته قبل أعوام والتي لاقت رواجاً واسعاً في الأوساط الاعلامية والسياسية والأكاديمية، عن «بدء انقراض الصحف الورقية، بنسبٍ وحدودٍ زمنيةٍ متفاوتة، وصولاً إلى انقراضها التّام في العام 2040». في خضمّ تلك الأزمة العالمية، وبين أكثر من 50 جريدة كانت قد ضمرتها الظروف في معارض الإحتجاب القسري، وقع الإختيار على اسم «نداء الوطن»، الصحيفة التي كان قد أسسها هنري صفير مطلع التسعينات، ثم توقّفت عن الصدور العام 2000 بسبب مشاكل مادية، إلى أن عادت إلى النّور، مع رجل الأعمال (الراحل) ميشال مكتّف، الإنسان الذي قال عنه كل من عرفه إنه لن يتكرّر. كأنه استشرف قبل أشهر من اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، حاجة الوطن إلى نداء يكون صدى لصراخه وأنينه وأوجاعه. أعطى بشرط، وشرطه الوحيد هو ما يفرضه الحبّ، أي من دون مقابل أو غاية شخصية. هدفه كان «الإنتقام» من الذين أوغلوا خناجرهم في بلد الرسالة والجمال والحرية وقتلوا الأحرار والسياديين. أراد المقاومة ولكنه «لم يقاوم الشرّ بالشرّ»، بل واجهه بما يقضّ مضاجعه، أي الكلمة. فكانت «نداء الوطن».
زاملها الأحرار ونبذها السلطان
في الأوّل من تمّوز 2019، صدر العدد الأول. وتمكّنت بفترة قليلة أن تحجز مكاناً بين زميلاتها. لم تغرها أفعال التفخيم والتكبير. ليس همّها أن تكون الأولى أو المتصدّرة ولم تسع إلى ذلك. شغفها كان أن تُزامل الحقيقة رغم صعوباتها، والسيادة رغم أكلافها والنزاهة رغم ندرتها. خرجت إلى الحياة في أحوج مرحلة شهدها اللبنانيون، الذين يولدون من رحم الأزمات. بعد ثلاثة أشهر اندلعت انتفاضة تشرين. وتحوّلت أقسامها ميادين ثورة. رافقت الثوّار وتابعوا عناوينها وأخبارها وكتّابها.
وكمصير كل صحافة حرّة في الأزمنة البائسة، نالت وسام شرفها الأعلى. إذ كانت الجملة التي كتبتها على صدر صفحتها صباح الخميس 12 أيلول 2019 «أهلا بكم في جمهورية خامنئي…» مظللة بصورة لرئيس الجمهورية السابق ميشال عون أثناء قبوله أوراق اعتماد بعض السفراء الجدد، كافية لاستدعاء رئيس تحريرها بشارة شربل والمدير المسؤول جورج برباري من قبل مكتب المباحث الجنائية، في انتهاك صارخ للحريات في لبنان.
لم يتأخر رد الصحيفة على الاستدعاء الأمني والقضائي، فكتبت صباح اليوم التالي تحت عنوان «العهد أساس الملك»، افتتاحية قالت فيها: «لا يجرؤون على مجرد التعليق على إعلان نصر الله أن لبنان بلد يأتمر بحربه وسلمه بأوامر مرشد إيران، ويشربون «حليب السباع» في مواجهة الصحافة». ووصفت الصحيفة الإستدعاء بأنه «انتقاص فاضح من سيادة الدولة»، محذرة من «تحويل مطرقة القضاء أداة ترويض للصحافة وتطويعاً لأقلامها». ما دفع العديد من زملاء ومواطنين وسياسيين ومسؤولين مدنيين وروحيين إلى الإلتفاف حولها.
القضاء: «نداء الوطن»… براءة
وفي 18 كانون الثاني 2022، أصدرت محكمة التمييز حكم البراءة، وبالتالي فشل السلطة في الإعتداء على حريّتها ودفاعها عن السيادة. إذ لم يتبيّن للمحكمة أن المقال المشكو منه تضمّن أي لفظة إزدراء أو سباب بحق فخامة رئيس الجمهورية، كما أن النيابة العامة لم تدلِ بتضمّنه مثل هذه العبارات. وحيث أن ما جاء في المقال المذكور من أن الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله أسقط لبنان بالضربة القاضية في قبضة الولي الفقيه، مطوّباً هذا الأخير ولياً آمراً ناهياً على جمهورية الأرز ومنصّباً إياه قائداً أعلى علـى حرب اللبنانيين وسِلمهم حيث لا طاعة ولا إمرة لـ»فخامة الرئيس»، إنما يدخل ضمن الجدل السياسي الذي يسود المجتمع اللبناني منذ سنوات حول سلاح المقاومة ولمن يعود قرار السلم والحرب في لبنان علماً بأن مقام رئاسة الجمهورية قد رعى في السابق طاولة الحوار الوطني حول الإستراتيجة الدفاعية ومصير سلاح المقاومة».
4 آب: شاهد ومحامٍ
في ذاك اليوم وعند الدقائق الأولى من السّاعة السادسة مساءً من 4 آب 2020، لم تتخيّل مدينتنا، أنه على قدر حبّها للحب، سيطبق عليها سفّاح الحياة بحسده وغيرته. كأنّ أزمات لبنان قد تراكمت وتجمّعت واحتقنت واختنقت لتنفجر كلّها دفعة واحدة، في عنبر الهلاك، «عنبر 12»، ناشراً روائح الدمار والدماء والأشلاء. إحتلالٌ لم يجرؤ عليه أعتى الغزاة والطغاة. ولأن «نداء الوطن» اتخذت من الأشرفية مقرّاً لمسيرتها، كسر عصف تفجير المرفأ زجاج مكاتبها وأبوابها نجا بعض الزملاء المتواجدين في أروقتها من كارثة حتمية، لكنّه زاد بنيانها صلابة ورفعت كما غيرها من الوسائل الاعلامية الزميلة لواء الدفاع عن أهالي الضحايا فاحتضنتهم ورافقت نضالهم وتحرّكاتهم بالصورة والكلمة.
البسمة الدافئة والروح الباقية
في 18 آذار 2022، رحل العصامي والآدمي ميشال مكتف (55 عاماً). وكتبت «نداء الوطن» في عددها الحزين: «رحل وهو في عز العطاء وفي قلب المواجهة، بقي حاملاً راية الحرية ولم ينحنِ أمام العواصف التي هاجمته في سمعته وعمله وسيرته. ولكنه بقي ويبقى نقياً أبيض كالثلج الذي احتضن لحظات حياته الأخيرة سارحاً فوق القمم من دون أن يدري أنها كانت طريقه الأقرب إلى الله وإلى السماء. كان ويبقى أحد رموز ثورة الأرز وأحد أقطاب «لقاء قرنة شهوان» الذي رعاه البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير، وكان له الدور الفاعل في قيادة عملية التغيير والتحرير. إختار أن يذهب إلى حيث لا رياح ولا عواصف بل هدوء كامل شامل وصمت أبدي وبياض ونقاء يشبهه ويشبه ابتسامته الصامتة المعبرة.
وفي 15 حزيران 2024…
لكم كلّ الحبّ. إلى اللقاء…
فالقضية مستمرّة.