عودة الديكتاتور السوري إلى مكانه إلى جانب أقرانه من المستبدين العرب وإلى الكرسي المخصص له على مائدة التردي العربي مسألة طبيعية.
انتهت خدعة أن يدعي مستبدون همهم الأساسي خنق الحرية في بلادهم، دعم انتفاضة الشعب السوري من أجل الحرية.
الخدعة انتهت قبل عقد القمة بسنوات عديدة، عندما تم نحر الانتفاضة الشعبية السورية بأموال النفط، التي مولت الخراب الذي صنعته القاعدة وأشباهها من الأصوليين، فسقطت سوريا في صراع وحشي بين استبدادين، وطُرد الشعب من المعادلة.
طرد النظام السوري من الجامعة العربية كان نتيجة الصراع بين أصوليتين: الأصولية الوهابية وأصولية نظام الملالي، وهو صراع قاد المنطقة إلى هاوية الصراعات الطائفية والمذهبية، التي تم إيقاظها من السبات.
ومع المصالحة السعودية-الإيرانية، التي لا تزال غامضة الملامح، انتهى فصل من اللعبة.
وكانت عودة بشار الأسد هي النتيجة المنطقية لهذه التسوية الإقليمية التي أنهت أوهاماً وأكدت أوهاماً أخرى.
هزيمة الشعوب أمام الاستبداد ووحشية الآلات العسكرية التي قمعتها، يجب ألا تقرأ في كتاب الاستبداد العربي الأسود. إنها تعيدنا إلى الأسئلة الكبرى المؤجلة، حول كيفية الخروج من الانحطاط الذي حوله النفط إلى بنى سياسية وثقافية استولت على الفضاءات العربية.
هناك ربيعان:
ربيع الشعوب الذي طحنه القمع، لكن حلمه سيبقى حياً، وسيتجدد من خلال عمل فكري وسياسي جذري جديد.
وربيع المستبدين الذي مات في جدة. فالذين استعجلوا تثمير الغزو الأمريكي للعراق في حروبهم الصغيرة والكبيرة، فهموا أن محاولاتهم لم تقد إلا إلى الخراب، فاستداروا من أجل الدفاع عن بقائهم بوسائل جديدة.
ربيع الشعوب في مكان آخر. فالشعوب تحول ربيعها إلى دم وخراب، ومن الخطأ قراءة حكايتها المأساوية في سياق تحليل الاحتفال العربي بتتويج محمد بن سلمان ملكاً، أو في سياق الحفاوة بانتصار بشار الأسد على الشعب السوري.
والحق يقال، فإن الأمور بدأت تعود إلى نصابها الطبيعي، وأن ارتدادات غزو العراق التي أفقدت المنظومة السياسية العربية توازنها ودفعت بها إلى التخبط قد انتهت. عاد المستبدون إلى صوابهم، وانتهت الكلامولوجيا التي أوحت بأن أنظمة الاستبداد النفطية تدعم الثورات الديموقراطية! أو أن الخلاف بين مستبد مُطبّع ومستبد مُمانع هو على مقاومة إسرائيل؟ وهمد جنون الصراع العربي-الإيراني، الذي فتح أبواب الهاوية الطائفية والمذهبية، وعاد الجميع إلى حظيرة البؤس والقمع.
أخيراً تصالح المتشابهون، بعد أن تم تدمير المراكز السياسية والثقافية في المشرق، بيروت ماتت روحها، ودمشق ابتلعها الظلام، والقاهرة في يد العسكر، وبغداد عاجزة عن تضميد جراحها.
صارت مصالحات المستبدين ممكنة بعدما زال خطر التغيير، وساد اليأس والفقر والهوان.
وفي الوقت الذي احتفل فيه النظام العربي بمصالحاته، وبرهن عن قدرات تكتيكية كبيرة تمثلت في جمع بشار الأسد وزيلينسكي في قاعة واحدة، كانت الأمور على امتداد القارة العربية تتخذ مسارات أخرى، لا علاقة لها بالقمة العربية.
كان القادة العرب مشغولين بترميم صورتهم وعلاقاتهم، فلم يلاحظوا أن ما اعتبروه إعادة صوغ لصورهم الممزقة وبؤسهم السياسي سيبقى مستحيلاً، لأنهم عاجزون عن معالجة المشكلات الثلاث الكبرى التي يتخبط فيها العالم العربي.
المشكلة الأولى اسمها فلسطين، واللافت أن القمة أعادت تذكيرنا بمبادرة السلام العربية التي مزقتها اتفاقيات «أبراهام»، متناسية الدم الذي سال في غزة قبل أيام قليلة من انعقادها، أو مصير القدس التي غطتها مسيرة الأعلام العنصرية.
هل تمعن القادة العرب في معنى الهتاف المركزي الذي هدر في شوارع القدس العتيقة: «اليهودي هو الروح والعربي ابن عاهرة»، هذا من دون أن نتكلم عن الشعارات الأخرى البذيئة التي كانت عبارة عن شتائم لكل ما هو عربي. ثم جاء تصريح بن غفير في ساحة الأقصى معلناً أنهم أسياد القدس وكل فلسطين التي يطلقون عليها اسم «أرض إسرائيل»، لينتهي الاحتفال بالقمة العربية في اجتماع الحكومة الإسرائيلية في النفق، تحت المسجد الأقصى الذي أكد على تهويد القدس، مزدرياً الكلام العربي الذي هو أحد أشكال البُكم.
المشكلة الثانية هي ترميم الخراب الذي صنعوه في السودان، فتحول الشعب السوداني الذي صنع واحدة من أجمل الثورات الشعبية في العالم إلى ضحية بين مطرقة الجيش وسندان قوات التدخل السريع، وتم فتح الباب أمام تمزيق البلاد طائفياً وإثنياً.
أنظمة الخراب العربي كانت معنية بمسألتين في السودان: دعم الانقلابيين ضد الشعب، والتطبيع مع إسرائيل.
وكان لها ما أرادت، لكن انظروا إلى النتيجة.
أما المشكلة الثالثة فاسمها الانهيارات الاجتماعية والإفقار. نرى ذلك بوضوح في سوريا حيث تحول الشعب السوري إلى شعب من اللاجئين، كما نراه في مصر التي تتخبط في أزماتها الاقتصادية، ويتجلى أخيراً في الخراب اللبناني الذي كان على هامش هوامش القمة.
الطبقة السياسية المافيوية اللبنانية تتحمل المسؤولية الأولى عن خراب لبنان الذي دخل في هاوية الاندثار. غير أن هذا الخراب الذي زيّن للبعض أنه قادر على وراثة دور بيروت، وتم له ذلك على أكثر من صعيد، هو المؤشر الأول لدخول المشرق العربي في دورة انحطاط جديدة.
أمام هذا الهول من المشكلات لم تقدم القمة سوى مشهدية إعلامية، أعلنت أن النظام العربي يداوي انحطاطه بمزيد من الانحطاط، ويرمم خرابه بالخراب.