كلّما اشتدّ الخناقُ حول نظام الرئيس بشار الأسد وضاقَ هامشُ المناورة أمام إيران في ما خصّ مصير قوس نفوذها، ولاسيما في حلقتيْه الأهمّ سورية و«حزب الله»، تَوَسَّع الاقتناعُ بأن وَقْفَ النار في لبنان مرشَّحٌ لمزيدٍ من الصمودِ وإن مع هشاشةٍ تتكثف محاولاتُ ضَبْطِ إيقاعها في انتظار مباشرة لجنة الرقابة والإشراف على تنفيذ الاتفاق مَهمتها الأسبوع المقبل.
وفيما كان «دومينو» انهيار المدن الكبرى في سورية، يُسْقِط حماة بعد حلب لتتركزّ العدساتُ على حمص، شريان الإمداد الرئيسي لـ «حزب الله» (عبر البقاع اللبناني)، ساد انطباعٌ في بيروت بأن الضرباتِ المتلاحقةَ التي يتعرّض لها النظامُ السوري و«حَبْسَ الأنفاس» حيال مصيره الذي بات على المحكّ، يجعلان «تَماسُك» وقْف النار في لبنان أكثر إلحاحاً، في ضوء ما تؤشر إليه التطورات الدراماتيكية في بلاد الشام من أن أحد الأهداف العميقة في الاتفاق وملحقاته والمتمثلة في تجفيف منابع تسليح الحزب تتحقّق مع المتغيرات الجيو – بوليتيكية في سورية.
فهذه الأحداث التي بدا وكأنها تَسَلَّمَتْ «كرةَ النار» من لبنان، وما بات يوصف بأنه «طوفان الجولاني» ضدّ «الغلاف» الإيراني (والروسي) في سورية، خطفتْ الأضواء من وَقْفِ النار واستدعتْ مقاربةَ اتجاهاته المحتمَلة انطلاقاً من مآلات الوقائع المتدحرجة في بلاد الشام ودلالاتِ صورةِ «النمر من ورق» التي ظَهَرَ عليها نظامُ الأسد وجيشه في الأيام الماضية، في ضوء انعدام قدرته «الذاتية» على أي قتالٍ بلا الظَهير الإيراني و«حزب الله»، وهو ما اعتُبر في أحد جوانبه انعكاساً للتحوّلات التي عبّرت عنها «حرب لبنان الثالثة» وأضرارها على الحزب وبنيته العسكرية، كما على «وَزْنِ» إيران الإقليمي، إلى جانب اغتيال السيد حسن نصرالله الذي شكّل مع قاسم سليماني الرافعة التي أنقذتْ، مع روسيا، الأسد من نهاية كانت وشيكة قبل أكثر من 9 أعوام.
ومنذ أن أُعلن اتفاقُ وَقْفِ النارِ في «بلاد الأرز» في 26 نوفمبر، ودَخَلَ حَيِّزَ التنفيذِ فجر 27، أي في اليوم نفسه لاندفاعةِ «هيئة تحرير الشام» (أعلنت أمس إطلاق سجناء لبنانيين كانوا في سجن حماة) وفصائل حليفة لها، أقيم الربطُ بين التطوريْن، والذي فرَضه عاملُ التوقيتِ إضافة إلى ما بدأ يتكشّف تباعاً عن محاولاتٍ جرتْ مع نظام الأسد، حتى حين كانت الحرب بين الحزب وإسرائيل على أشدّها، لدفْعه إلى التعهّدِ بالابتعاد عن إيران وإخراج الحزب من سورية ووقف «اوكسيجين» التسليح عنه، مقابل تخفيف أو رَفْعِ العقوباتِ الأميركية عنه، علماً أن «الهدف» الذي تَضَمَّنه الاتفاقُ حول لبنان، من بوابة الدعوة إلى ضبط المعابر مع سورية ومنْع الحزب من إعادة تكوين مخزونه العسكري، جنوب الليطاني وشماله، يصبح بحُكْم «أُنْجِز» متى قُطع خط الإمداد من «منبعه» في سورية.
قدرات «حزب الله»
وتكتمل هذه الصورة مع ما كُشف عن معلوماتٍ مصدرها الاستخبارات الأميركية مفادها بأن قدرات «حزب الله» العسكرية تراجعت بشدة بسبب الضربات الإسرائيلية لكنه «سيحاول على الأرجح إعادة بناء مخزوناته وقواته ليشكل تهديداً على المدى البعيد للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة» و«سيحاول إعادة ملء مخزونه باستخدام مصانع الأسلحة في الدول المجاورة التي تتوافر طرق نقل منها» وأنه «لطالما استخدم سورية ملاذاً آمنا ومركزاً لنقل المعدات العسكرية والأسلحة».
وأضافت صحيفة «واشنطن بوست»، أنه «قبل تجدّد الحرب السورية كانت إدارة الرئيس جو بايدن وحلفاؤها العرب يعملون بهدوء على صفقة مع دمشق لمنع تسليم الأسلحة الإيرانية إلى الحزب، في مقابل تخفيف العقوبات، ويبدو أن الاتصال عبر القنوات الخلفية خرج عن مساره بسبب هجوم المعارضة واستيلائها على حلب».
وجاء ما نقلتْه الصحيفة عن جيمس جيفري، الدبلوماسي الذي شغل منصب المبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى سورية بين 2018 و2020، عن أن «هذه جبهة أخرى في انهيار الإمبراطورية الإيرانية بالوكالة»، ليعزّز حال الترقّب لِما ستؤول التطورات في سورية بارتداداتها الأكيدة على الواقع اللبناني ومسار وقْف النار ولا سيما بنوده الأكثر تعقيداً، لجهة وضعيّة سلاح «حزب الله» في كل لبنان ووجوب إنهائه، وفق التفسير الإسرائيلي للاتفاق الذي انضمّ اليها مستشار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب للشؤون العربية والشرق الأوسط مسعد بولس، الذي أكد أن «الاتفاق يشمل البلد بأكمله، ويتناول مسألة نزع سلاح كل المجموعات المسلحة، سواء الميليشيات أو الجماعات شبه العسكرية».
لجنة الرقابة الخماسية
وفي انتظار انقشاع الرؤية حيال الحَدَث السوري، وسط اعتقادٍ بأن «بازل» النظام الإقليمي الجديد في المنطقة باتت «قِطَعه» أكثر وضوحاً وأن «ترويضَ الأسد»، بحال أفضتْ الوقائعُ اللاحقة إلى ترتيبٍ لسورية يُبْقيه في الحكم بصيغة أو أخرى، سيكون عنصراً مساعِداً في تدعيم مرتكزات وقف النار في لبنان، خصوصاً أن إيران ستجد نفسها في موقعٍ تراجُعي كلّما ضَعفت أذرعها أو «شُلّت»، تترقب بيروت أن تباشر لجنة الرقابة الخماسية على الاتفاق عملها الثلاثاء المقبل بعدما اكتمل عقدها.
وفي وقت زار رئيس اللجنة الجنرال الأميركي جاسبر جيفيرز رئيس البرلمان نبيه بري، أمس، في ظل تقارير عن أن «الرئيس الشريك» معه بقبعة مدنية الموفد آموس هوكشتاين سيزور بيروت للمشاركة في أول اجتماع لها، أطلّ ممثل فرنسا في اللجنة الجنرال غيوم بونشان من السرايا الحكومية حيث التقى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، الذي أكد أن «أولويات الموقف اللبناني هي وقف النار والخروق الإسرائيلية وانسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية وتعزيز انتشار الجيش في الجنوب».
وبعدها، شدد ميقاتي خلال اجتماع في وزارة الخارجية مع أعضاء السلك الدبلوماسي والإداري «أن وقف النار وانسحاب الجيش الإسرائيلي من أي أراضي لبنانية تَقَدَّمَ اليها في الفترة الماضية هو الاساس لنبدأ بالعمل الصحيح لاعادة السلام الى جنوب الليطاني ولكل الأراضي اللبنانية»، مؤكداً «ان التفاهم على وقف النار هو نوع من الآلية التنفيذية لتطبيق القرار 1701. وأولويتنا الوصول الى استقرار طويل المدى وانتخاب رئيس للجمهورية».
وأضاف أن «موضوع سحب السلاح يحتاج الى وفاق وطني. ونحن نسعى للوصول الى استقرار طويل الأمد، وان تكون المرجعية للدولة وحدها وان يتولى الجيش السلطة الفعلية على الارض وأن نحميه».
تعزيز قوات الجيش
في موازاة ذلك، تواصلت الخروق الإسرائيلية لوقف النار، وأبرزها أمس تعرّض فرق من الدفاع المدني في الناقورة، لقصف مدفعي خلال عملها على رفع الأنقاض والبحث عن ضحايا، فيما أعلن الجيش اللبناني أنه «يواصل تعزيز انتشاره في الجنوب بعد بدء تطبيق اتفاق وقف النار بالتنسيق مع قوة اليونيفيل ضمن إطار القرار 1701، وذلك في أعقاب العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان».
وأفاد في بيان «تتابع قيادة الجيش مع المراجع المختصة الخروق المستمرة التي يقوم بها العدو الإسرائيلي، فيما تستمر الوحدات العسكرية في تنفيذ مهماتها، بما فيها عمليات دهم في مختلف المناطق اللبنانية بحثاً عن مطلوبين، إضافة إلى تعزيز انتشار وحدات المجوقل على الحدود الشمالية والشرقية (مع سورية) تحسباً لأي طارئ، خصوصاً خلال هذه المرحلة الاستثنائية التي تتطلب من جميع الفرقاء التعاون من أجل المصلحة الوطنية».
نعيم قاسم
من جانبه، تحدث الامين العام لـ «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم، في كلمة أمس، عن الانتصار، قائلاً «انتصرنا لأن مقاومتنا باقية ومستمرة وستتألق أكثر ولأن العدو لم يحقق اهدافه ولأن الوحدة الوطنية تجلت». وأضاف أن «المقاومة استعادت بنية السيطرة التي ساعدت على إدارة معركة أولي البأس» بشكل متناسب».
كما تعهد ان الحزب سيقف الى جانب الحكومة السورية.