هذا بعض ما ضبطته المخابرات اللبنانية مع “قسورة”، وهو خليفة “أبو سعيد الشامي”، والي لبنان في تنظيم داعش.
داعش يفعل خلايا نائمة في لبنان إذاً.. لكن محامي يترافع عن بعض الموقوفين يقول:
لا تستعجلوا الحكم، القضية كلها رسائل على فيسبوك وملف “بي دي أف” لم يفتحه أحد!
هل ينشط داعش في لبنان بالفعل؟
وهل لبنان أرض خصبة لتجنيد عناصر جديدة وإحياء الخلايا النائمة؟
أم أن داعش حجة جديدة لا أكثر لتبرير بقاء سلاح حزب الله؟
يحدث في البقاع.. وفي دمشق!
بدأت القصة ببيان عن قيادة الجيش اللبناني صدر في 24 يونيو.
وفي التفاصيل أن مديرية المخابرات أعلنت عن توقيف المواطن (ر.ف.)، وقالت إنه تسلّم مهام قيادة داعش إثر اعتقال سلفه المواطن (م.خ.) الملقب بـ”أبو سعيد الشامي”.
الشامي اعتقل في 27 ديسمبر 2024.
والآن، عملية أمنية جديدة أفضت إلى توقيف “قسورة” بعد رصد ومراقبة.
والتوقيت لافت.
قبل العملية الأمنية اللبنانية بيومين فقط، وعبر الحدود، هزّ تفجير انتحاري كنيسة في سوريا.
نسبت السلطات السورية الهجوم إلى “داعش”، فيما سارعت جماعة غير معروفة تُدعى “سرايا أنصار السنّة” لتبنّيه.
التوقيت دفع كثيرين للتساؤل: هل عاد داعش بقوة؟ ولماذا الآن؟
الوالي الجديد، الذي عرف بـ”قسورة”، ما هو إلا مدرس بسيط، يقول المحامي محمد صبلوح، وهو وكيل اثنين من الموقوفين في هذا الملف الأمني.
قسورة أستاذ في الكيمياء، من بلدة كامد اللوز في البقاع، سبق أن عمل في مدارس خليجية، ويقدّم دروساً إلكترونية لطلاب في الخارج، هكذا يعرفه صبلوح.
وعن أي طائرات مسيّرة يتحدث الجيش؟ يتساءل صبلوح، “حتى تنظيم داعش في العراق وسوريا لم يستخدم هذا النوع من الطائرات، فكيف يمكن لأستاذ كيمياء في لبنان تصنيعها؟”.
يكشف صبلوح في حديث لـ”الحرة” أن الجيش اللبناني “عاد ونفّذ قبل أيام مداهمة لمنزله (قسورة) في ساعات الفجر الأولى، وأوقف زوجته (22 عاماً)”.
لكن الجيش أفرج عنها في اليوم نفسه “بعد تبيان عدم ارتباطها بالتنظيم، وأن ما نُسب إليها اقتصر على مشاهدة محتوى مرتبط بداعش عبر الإنترنت”، يقول.
فيديو.. وتهديدات
اعتقال قسورة ليس المؤشر الوحيد على وجود فاعل للتنظيمات الجهادية السنية العنيفة في لبنان.
مؤخرا، انتشر فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، ظهر فيه ثلاثة أشخاص يعلنون تشكيل ما سُمي بـ”لواء الشيخ أحمد الأسير” ويطلقون تهديدات ضد الدولة اللبنانية.
أحمد الأسير هو شيخ سني قاد في عام 2013 مواجهات مسلحة ضد الجيش اللبناني في منطقة عبرا جنوب لبنان، وهو يقبع حالياً في سجن رومية، بعد أن صدر بحقه حكم بالإعدام على خلفية تلك الأحداث.
وقد تواصلت “الحرة” مع مديرية التوجيه في الجيش اللبناني طلباً لتعليق رسمي حول الفيديو، لكننا لم نتلقّ أي رد.
لكن المحامي صبلوح يعلق ويشكك في صدقية الفيديو، ومصدره ودوافعه.
يتساءل: “لماذا لم تكشف حتى الآن هوية الأشخاص الذين ظهروا في الفيديو؟”.
ويواصل “المستفيد الوحيد من هذه الرسائل هم قوى الأمر الواقع والغرف السوداء، التي قد توظف هذه المشاهد في سياقات أمنية وسياسية معيّنة”.
لكن، هذا كلام المحامي، والمحامي طرف ذو مصلحة!
تاريخ دموي
قبل عام واحد فقط، في يونيو 2024، أطلق مسلح، يحمل الجنسية السورية ويضع شعار داعش، النار في محيط مبنى السفارة الأميركية في عوكر.
كان إطلاق النار إشارة تحذير من أن خطر التنظيم لم ينته.
داعش كان قد انكفأ بالفعل منذ سنوات لكن لم تتراجع التقارير عن تجنيده شبانا لبنانيين.
ففي عام 2021 تكشفت ظاهرة اختفاء شبّان من طرابلس، غالبيتهم من القاصرين، لتتلقى عائلاتهم لاحقاً اتصالات منهم يُبلغونهم خلالها بوصولهم إلى العراق وانضمامهم إلى “داعش”، قبل أن ترد أخبار عن مقتل بعضهم هناك.
كانت سنوات قد مرت على ذروة الحضور الدموي لداعش في لبنان.
التنظيم الذي ظهر في العراق في أبريل 2013، سرعان ما تسللت خلاياه إلى الشمال والبقاع اللبناني.
ومع مطلع عام 2014، نفذ سلسلة تفجيرات استهدفت الضاحية الجنوبية لبيروت.
لكن التهديد بلغ ذروته في الثاني من أغسطس من 2014، حين شنّ مسلحو “داعش” و”جبهة النصرة” هجوماً على بلدة عرسال الحدودية، احتجزوا خلاله عدداً من العسكريين كرهائن، قبل أن ينسحبوا إلى جرود المنطقة عقب اشتباكات مع الجيش.
لاحقاً، شهدت الأراضي اللبنانية هجمات كان أبرزها التفجير المزدوج في برج البراجنة عام 2015.
وفي صيف 2017، أطلق الجيش اللبناني عملية “فجر الجرود”، التي أسفرت عن طرد مقاتلي التنظيم من جرود القاع ورأس بعلبك، كما توصل حزب الله إلى صفقة مع “داعش” في جرود عرسال، قضت بانسحاب أكثر من 600 مقاتل من عناصره من الأراضي اللبنانية.
هل البيئة مواتية؟
تمر سنوات.
يهزم “داعش” عسكريا في سوريا والعراق. وتقتل الولايات المتحدة أبو بكر البغدادي في 2019.
إلا أن التنظيم يحتفظ بخلايا نائمة حول العالم، وفي لبنان، حسب القائد السابق لفوج المجوقل في الجيش اللبناني، العميد الركن المتقاعد جورج نادر.
يتحدث نادر عن خلايا نائمة موجودة حاليا. والأهم الظروف لم تتغير كثيرا.
يقول إن التربة في لبنان “خصبة لانتشار التطرف” وهي “تُغذّى من مشاعر الغبن وانعدام الثقة بالدولة”. ويضيف “الأسباب البنيوية التي ساهمت في صعود داعش لم تعالج حتى اليوم، وعلى رأسها الفقر والنزاعات المسلحة”.
ولبنان دولة جارة لسوريا، وهي “لا تزال دولة غير مستقرة، ما يجعل من حضور التنظيم فيها أمراً واقعياً”.
لكن حضور داعش في لبنان “يبقى محدوداً وهشّاً” تنظيم “داعش”، وفق الباحث في شؤون الجماعات الإرهابية، الدكتور مصطفى أمين.
يقول إن التنظيم “لا يمتلك ما يُعرف بـ”ولاية لبنان”، على غرار “ولاية الشام” أو “ولاية العراق”.
لكن ماذا عن تجنيد اللبنانيين في صفوف التنظيم؟
هو “اختراق محدود لا يعكس قدرة فعلية على التوسع أو الاستقطاب” يقول أمين.
“هي حالات فردية، ولا توجد مؤشرات على توسّع التنظيم في لبنان خلال المرحلة المقبلة”.
ويوضح أمين أن “التنظيم لا يمتلك بنية تنظيمية داخل لبنان، وإن كان يحتفظ ببعض الخلايا النائمة أو الأفراد الذين يدينون بالولاء له، إلا أن هذه الخلايا لم تُفعّل منذ أكثر من سبع أو ثماني سنوات”.
ويضيف “لم ينجح داعش، منذ ظهوره، في ترسيخ وجود فعلي على الأرض اللبنانية، حيث اقتصر نشاطه على مناطق حدودية أخرج منها لاحقاً بموجب صفقة نقل خلالها مقاتلوه إلى جنوب سوريا”.
وإن كان التنظيم لا يزال يحتفظ بوجود محدود داخل لبنان، مدفوعاً بعوامل تساعد على البقاء، لكنها كما يقول أمين “لا تمكّنه من التمدد والانتشار”.
رسالة على فيسبوك
يحافظ داعش على حضور عابر للحدود، ويعتمد على الإنترنت للتسلل إلى لبنان.
هذا ما تكشفه رواية المحامي صبلوح حول ما حدث لموكله أبو سعيد الشامي.
في 27 ديسمبر 2024، أوقفت مديرية المخابرات في الجيش ثلاثة شبان، أحدهم يعرف باسم “أبو سعيد الشامي”.
كان الشامي قد أوقف في عام 2021 قبل أن يُفرج عنه لاحقاً.
“التحقيقات أفادت بأن الشامي تلقى رسالة عبر فيسبوك من حساب مجهول يزعم الانتماء إلى داعش، عارضاً عليه تولي “إمارة لبنان” باسم التنظيم” يروي صبلوح.
الشامي، وفق روايته، رفض العرض، لكنه “وافق على توزيع مساعدات مالية، قبل أن يرفض لاحقاً تنفيذ أي نشاطات، من بينها محاولة سرقة مصرف”.
ويشير إلى أن موكله، المنحدر من مدينة طرابلس، تلقى ملفاً بصيغة PDF، لم يتمكن من فتحه، وعُثر عليه لاحقاً في هاتفه أثناء التحقيق.
الملف تضمّن، بحسب التحقيقات، اعترافات من أحد عناصر التنظيم حول مخطط لثلاث محاولات اغتيال في لبنان، ويؤكد صبلوح أن موكله أنكر علمه بمحتوى الملف، وأبلغ قاضي التحقيق بأنه تعرّض للتعذيب بهدف انتزاع اعترافات قسرية منه.
أما المتهم الثاني، وهو أيضاً من طرابلس، فاتهم بالانتماء إلى التنظيم نتيجة تحويل مبلغ مالي بقيمة 500 دولار إلى سوريا.
ووفق صبلوح، فإن موكله برّر التحويل بأنه كان دعماً لأبناء شقيقه المتوفى هناك.
أما المتهم الثالث، وهو من البقاع، ويعمل في شركة لتحويل الأموال، فأوقف على خلفية تحويل مبلغ بقيمة 100 دولار لأحد الزبائن إلى سوريا، وقد أفرج عنه بعد ستة أشهر من التوقيف.
خلايا فردية وعمليات نوعية!
هناك مناطق لبنانية قد تكون عرضة للاختراق من داعش، يقول أمين.
يتحدث عن “المخيمات الفلسطينية حيث تتواجد بعض الجماعات المتشددة، والمناطق ذات الغالبية السنية، إضافة إلى جيوب الأقليات السنية ضمن الكتلة الشيعية في الجنوب”.
والأسلوب أيضا مصدر خطر. يقول إن فالتنظيم “يعتمد على خلايا فردية نائمة قد تتحرك في لحظة مناسبة”، وهو يتّبع استراتيجيات متنوعة تشمل “الاستنزاف، والحرب الاقتصادية، إضافة إلى التحريض الطائفي، خصوصاً من خلال استهداف المسيحيين ومحاولة زرع الفتنة”، وقد يلجأ لتنفيذ عمليات نوعية لجذب الانتباه.
من جانبه، يحذّر نادر من الطبيعة غير المركزية لخلايا التنظيم، مشيراً إلى أن “الخلية الموجودة في منطقة لبنانية معينة لا تعرف شيئاً عن خلية أخرى في منطقة مختلفة، حتى لو كان مشغلهما واحداً. وهذا ما يصعّب على الأجهزة الأمنية تتبّع الشبكة كاملة عند توقيف إحدى الخلايا”، لافتاً إلى أنه “تم ضبط أجهزة إلكترونية تستخدم في الاتصالات والتشويش لإخفاء تحركات الخلايا”.
ورغم ضعف داعش، لا يزال يحتفظ بهيكلية مركزية بقيادة ما يُعرف بـ”الخليفة”، إلى جانب مجلس عسكري وآخر للشورى، وأذرع إعلامية نشطة، من أبرزها مجلة “النبأ” الأسبوعية. ويقوده حالياً “الخليفة الخامس”، المعروف بلقب “أبو حفص الهاشمي”.
تضخيم متعمد؟
على النقيض، يقول صبلوح إن ما يجري ما هو إلا نتاج “شباب غشيم ومخطط لئيم”.
يعتبر أن الملف الأمني المرتبط بداعش يشهد “تضخيماً”، تستثمره “الدولة العميقة في لبنان” لتوهم المجتمع الدولي بأنها في حالة حرب مفتوحة مع الإرهاب، وبالتالي “تبرّر عدم نزع سلاح حزب الله حتى الآن”، وفق رواية صبلوح.
موقف لا يتفق معه بالضرورة العميد الركن المتقاعد جورج نادر، لكنه يقدم تحليلا يلفت أيضا إلى قضية سلاح حزب الله.
يعتبر نادر أن “السبب الجوهري الذي يساهم في توسع التطرف في لبنان هو استمرار وجود سلاح خارج سلطة الدولة، وبالتحديد سلاح حزب الله، الأمر الذي يشعر شريحة من اللبنانيين بالخذلان، بعد أن صدّقوا أن السلاح سيُجمع من الجميع، ليكتشفوا لاحقاً أن الدولة قوية على فئة وضعيفة أمام أخرى”، معتبراً أن هذا التفاوت يخلق فراغاً تستغله التنظيمات المتطرفة مثل داعش لتمرير أفكارها.
وفي هذا السياق، يشير إلى تصريح للنائب اللبناني السابق خالد الضاهر قال فيه “إذا استمر استهداف المكون السني في لبنان سوف نلجأ للرئيس السوري أحمد الشرع للدفاع عنا”، ويشدد نادر على أن “استمرار واقع السلاح غير الشرعي هو ما يغذي التطرّف، ويوفر لداعش فرصة للتسلل والتمدد”.
دعوة إلى التحصين
تزدهر التنظيمات المتطرفة في بيئات الفوضى والأزمات، كما يشير أمين “حيث تستغل الانقسامات والصراعات لتوسيع نفوذها”، مشدداً على أن تجاهل هذه العوامل قد يتيح لـ”داعش” فرصة للتوسع داخل لبنان.
ويخلص أمين إلى “ضرورة تشديد الرقابة على الحدود مع سوريا، وملاحقة التحركات المشبوهة للعناصر المتطرفة، إلى جانب مراقبة الخطاب الديني المتشدد ووقف مصادر التمويل المشبوهة”.
كما يوصي “بتعزيز دور القوى الأمنية في ضبط السلاح غير الشرعي، وتكثيف الجهود لترسيخ خطاب الاعتدال والتسامح وتعزيز الوحدة الوطنية، كوسيلة أساسية لمواجهة الفكر المتطرف ومنع تمدده في الداخل اللبناني”
وعلى الرغم من وجود خلايا لتنظيم “داعش” في لبنان، كما يقول نادر، إلا أنه لا يخشى على السلم الأهلي، مشدداً على أن “لبنان ليس بيئة حاضنة لهذا التنظيم”، ويوضح أن “بعض التفجيرات قد تحصل، لكن الغالبية الساحقة من أبناء الطائفة السنية ترفض فكر داعش، وتؤمن بالدولة والمواطنة، وترفض العنف والإرهاب. نعم، هناك أقلية متطرفة، لكنها لا تمثّل المزاج العام”.
ويختم نادر بالتشديد على أهمية الجاهزية الأمنية، لافتاً إلى وجود “تنسيق فعّال بين مختلف الأجهزة الأمنية التي تدرك حجم التهديد جيداً”، داعياً في الوقت نفسه البلديات إلى التحلّي باليقظة، باعتبارها “خط الدفاع الأول، القادرة على رصد أي تحركات مشبوهة في محيطها ونقلها إلى الجهات المختصة، بما يسهم في حماية المجتمع”.