لطالما اعتبر مصرف لبنان واحداً من الجهات المالية المركزية في منطقة الشرق الأوسط التي تحتفظ بكميات كبيرة من العملات الأجنبية كجزء من احتياطاتها النقدية.
وكان الغرض الرئيسي من هذه الاحتياطات ضمان استقرار الليرة اللبنانية، ودعم النظام المالي اللبناني في مواجهة التحديات الاقتصادية والمالية.
ولكن في السنوات الأخيرة وتحديداً منذ بداية الأزمة المالية التي ضربت لبنان في نهاية 2019، سجّلت هذه الاحتياطات تراجعاً كبيراً إثر قيام المصرف المركزي اللبناني بقيادة الحاكم السابق للمصرف رياض سلامة، باستخدام جزء من هذه الاحتياطات، لدعم الاقتصاد وتأمين السلع الأساسية والدواء والمحروقات، ما أدى إلى تراجع حجم الاحتياطات الأجنبيّة بشكل ملحوظ، وصل إلى 8.5 مليار دولار أميركي في بداية شهر أغسطس 2023، انخفاضاً من 34.73 مليار دولار أميركي في شهر أكتوبر 2019 بحسب بيانات مصرف لبنان.
إنجاز كبير يعزز الاستقرار
في الوقت الذي كانت تجمع فيه آراء المراقبين على استمرار نزيف “العملات الصعبة” من احتياطات لبنان، تمكن المركزي اللبناني منذ شهر أغسطس 2023 وحتى منتصف شهر يونيو 2024، من رفع هذه الاحتياطات بأكثر من 1.4 مليار دولار أميركي، وهو ما يعد إنجازاً كبيراً ومفاجأة إيجابية.
هذه الزيادة أتت رغم أجواء الحرب التي يعيشها لبنان مع إسرائيل منذ أكتوبر 2023، وفي ظل استمرار الأزمة المالية الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وسط عدم قدرة الساسة اللبنانيين على الشروع في تنفيذ أي من الإصلاحات الاقتصادية، أو التوافق على إرساء الاستقرار السياسي وانتخاب رئيس جديد للبلاد، أو غيرها من الإجراءات التي يُمكن أن تساعد في تحسين الوضع.
ورغم أن مصرف لبنان لم يكشف رسمياً عن أسباب تسجيل الاحتياطات الأجنبية، لنمو مستمر مع اقترابها من مستوى 10 مليارات دولار، إلا أن ما حصل من شأنه أن يعزز الاستقرار النقدي في البلاد، وذلك بعد 3 سنوات من تراجع العملة الوطنية بشكل دراماتيكي.
وفقدت الليرة اللبنانية أكثر من 95 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي، لتنخفض من 1530 ليرة لبنانية للدولار الواحد في أكتوبر 2019 إلى قرابة الـ 90 ألف ليرة للدولار حالياً، وقد تسبب هذا التراجع في تدمير القوة الشرائية للبنانيين الذين عاشوا تحت وطأة مستويات غير مسبوقة من ارتفاع أسعار الاستهلاك.
قرارات ساهمت بوقف نزيف “العملات الصعبة”
وتقول الكاتبة والمحللة الاقتصادية، محاسن مرسل، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إنه قبل الدخول في الأمور التقنية المتعلقة التي أدت إلى ارتفاع حجم الاحتياطات الأجنبية في لبنان، يجب إدراك أن هذا المسار بدأ يتحقق مع تولي حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري مهام الحاكمية في شهر أغسطس 2023.
وأضافت: “منصوري ونوابه اتخذوا حينها قراراً بالتوقف كلياً عن إقراض الدولة اللبنانية، وهم مستمرون بهذا القرار حتى يومنا هذا”، لافتة إلى أن الجميع يعلم أن عملية إقراض الدولة التي كان يقوم بها الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة كانت تتم من خلال اللجوء إلى الاحتياطات الإلزامية للمصرف.
ولذلك حصل انخفاض غير مسبوق في حجم هذه الاحتياطات، بحسب تعبيرها، والتي تم استخدامها أيضاً في سياسات الدعم غير المنظم لبعض السلع والمواد الأساسية، كما أنه تم استخدام هذه الاحتياطات في عمليات بيع الدولار في السوق لمحاولة إيقاف انهيار الليرة.
وشددت مرسل على أن حاكم مصرف لبنان بالإنابة أوقف استخدام العملات الأجنبية التي يمتلكها المصرف، كاحتياطات لوضعها وبيعها في السوق، بل أن حصل هو العكس، إذ بات يقوم حالياً ببيع الليرة اللبنانية للتجار مقابل الدولار الأميركي وذلك حتى يتمكن هؤلاء من إيفاء الرسوم المتوجبة للدولة اللبنانية بالعملة المحلية، كاشفة أن مصرف لبنان يقوم شهرياً ببيع ما بين 18 إلى 20 الف مليار لبنانية للتجار، إضافة إلى قيامه بتنظيم المالية العامة للدولة ما ساهم في جعلها مدركة لما تمتلكه من عملات أجنبية وعملة محلية.
وبحسب مرسل فإن السياسة الجديدة لمصرف لبنان اعتمدت على مبدأ تنظيم ضخ الليرة اللبنانية في السوق وهذا الأمر حافظ على سقف الكتلة النقدية المتوفرة في السوق، ما منع المضاربين من استخدام فائض الليرة في عمليات المضاربة.
وأشارت أيضاً إلى أن ما ساعد مصرف لبنان برفع حجم احتياطاته من العملات الأجنبية إلى ما يقرب من 10 مليارات دولار، هو حصوله على كميات من الدولارات من السوق بشكل شهري، فبحسب القانون اللبناني للنقد والتسليف، يحق للمصرف القيام بعمليات بيع وشراء لليرة والدولار من السوق، كونه ملزماً بحسب القانون المحافظة على الاستقرار النقدي.
المتحكم الوحيد بالسوق
من جهته يقول المحلل الاقتصادي جوزف زغيب، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن مصرف لبنان عمل على تجفيف الليرة اللبنانية من السوق، بحيث تقلص حجم الكتلة النقدية إلى نحو 50 ألف مليار ليرة في نهاية أبريل 2024، مقارنة بنحو 80 ألف مليار ليرة لبنانية، وهذا ما ساهم في أن يصبح المصرف المتحكم الوحيد بسعر الصرف في السوق، فهو بات يمتلك قرار شراء الدولار أو بيعه، ما عزز من احتياطات العملة الصعبة لديه، حيث قضى بذلك على فائض العملة الذي كان يستخدم في رفع الطلب على شراء الدولار الأميركي، لافتاً إلى أن البنك المركزي اللبناني استفاد أيضاً من قيام وزارة المالية بدولرة العديد من الرسوم والضرائب.
وشدد زغيب على أن الزيادات التي تسجلها الاحتياطات الأجنبية لمصرف لبنان المركزي، هي خطوة إيجابية وسط التخبط الذي يعيشه لبنان، ولكنها غير كافية لعودة اقتصاد لبنان إلى مسار النهوض والتعافي، وسط تجاهل السلطات السياسة لأي خطوة إصلاحية، وخصوصاً لناحية التوصل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي، والالتزام بالإصلاحات التي يطلبها.
في حين تبقى الإجراءات الإيجابية التي يتخذها المركزي، معرضة للاهتزاز وسط عوامل ضغط يواجها لبنان، تتمثل باستمرار التوترات العسكرية على حدوده الجنوبية، واحتمال أن تتوسع إلى حرب أوسع، الأمر الذي يتطلب الإسراع في الوصول إلى تفاهم سياسي، يمهّد الأرضية لتحقيق استقرار اقتصادي ومالي ذات قواعد ثابتة.