يصادف هذا الشهر أيضاً الذكرى السنوية لحادثة لا يمكن أن تمحى من الذاكرة، ألا وهي انفجار مرفأ بيروت في آب من عام 2020، والذي قتل فيه أكثر من 200 شخص، وجرح أكثر من ستة آلاف، وتسبب بنزوح نحو 300 ألف. بيد أن هذه القضية لم تحقق هي الأخرى أي تقدم في مجال التحقيقات الساعية للكشف عن هوية المسؤولين عن الانفجار الذي حدث بسبب تخزين نحو ثلاثة آلاف طن متري من نترات الأمونيوم دون مراعاة الشروط الملائمة، ما أدى إلى وقوع هذا الانفجار الهائل في العاصمة اللبنانية. فإلى جانب العديد من المسؤولين في الحكومة، كان حزب الله أحد المتورطين في هذه الكارثة، وذلك لأن الحزب لا يسيطر على المرفأ فحسب، بل أيضاً هنالك شكوك كثيرة تدور حول إرساله لكميات من نترات الأمونيوم للنظام السوري، وذلك لدعمه في عملية تصنيع البراميل المتفجرة التي استهدف بها السوريين خلال الحرب، والتي وصلت بخصوصها كل الدعاوي القضائية إلى درب مسدود، أسوة بجارتها لبنان.
عندما نتذكر هاتين الحادثتين، بما أن الذكرى السنوية لهما تصادف هذا الشهر، نصل إلى أن الإدانة التي لم تسمن ولم تغن من جوع لمرتكب عملية اغتيال سياسية ولتفجير مدمر تحيط بها نشأة مريبة تؤكد مواصلة لبنان لنهجه في مجال تبني ثقافة الإفلات من العقاب، وهذا ما جعل البلد يتحول إلى ملاذ آمن لأشهر المجرمين والمطلوبين في الخارج، ومن يدانيهم رتبة في مجال الشهرة ضمن هذا السياق.
يعتبر ذلك جزءاً من مشكلة موجودة منذ أمد بعيد لعبت فيها الحكومة اللبنانية دوراً كبيراً، إذ بعد ثلاث سنوات من تفشي أزمة اقتصادية خانقة، تحول لبنان إلى دولة فاشلة تعتمد على المساعدات الدولية، بيد أن هذا الدعم بات مهدداً بالقطع اليوم بما أن بيروت تربأ بنفسها عن أي مساءلة.
مشكلة عدم تسليم المطلوبين
تحولت مشكلة التعامل مع المشتبه بهم والمجرمين المدانين الذين فروا من الخارج إلى لبنان إلى مشكلة لها طابعها الخاص، إذ يحرم القانون اللبناني تسليم المطلوبين من مواطنيه، على الرغم من تسليمه لمطلوبين في حوادث سابقة. ففي عام 2019، سلمت بيروت للولايات المتحدة مواطناً مزدوج الجنسية يحمل الجنسيتين اللبنانية والأميركية، وذلك لكونه متهماً باختطاف ابنه البالغ من العمر أربع سنوات. وفي الوقت الذي نادراً ما يسلم فيه لبنان من يصفهم بالمجرمين، بوسع هذا البلد مقاضاة هؤلاء الأفراد وإدانتهم داخل لبنان في حال طلبت دولة أجنبية من لبنان القيام بذلك، وسلمت ملفات القضية للقضاء اللبناني. إلا أن ذلك لم يحدث إلا في حالات نادرة، وهذا النهج الفاتر تجاه من يتجاوزون القانون هو من حوّل لبنان للدولة الأولى التي تعتبر ملاذاً آمناً للمجرمين.
رامي عدوان وقضيته المحرجة للبنان
كانت آخر حادثة محرجة بالنسبة للبنان تتصل برامي عدوان سفير لبنان في فرنسا، بما أنه اتهم في حزيران الماضي باغتصاب موظفتين في سفارته. وبعد التحقيق بأمر تلك المزاعم وغيرها من الانتهاكات، طلبت باريس من بيروت رفع الحصانة عن هذا المسؤول الدبلوماسي لتسمح لها بمقاضاته في فرنسا. ولكن، بدلاً من إجبار السفير على مواجهة ما نسب له من اتهامات، استدعاه وزير الخارجية اللبناني وطلب منه العودة إلى بيروت، وبذلك حمى لبنان مبعوثه من عملية التقاضي.
رياض سلامة رمز إساءة استغلال المنصب الرسمي
وبالطريقة ذاتها، حمى لبنان رياض سلامة الذي أمضى عمراً وهو يشغل منصب حاكم مصرف لبنان المركزي، من خطر مثوله أمام القضاء في الخارج. إذ في أيار الماضي، أصدرت كل من فرنسا وألمانيا مذكرتي اعتقال دوليتين بحق سلامة بعد اتهامه بالفساد، إذ اتهم سلامة الذي تقاعد من منصبه خلال هذا الأسبوع بعدما بقي فيه لمدة ثلاثين عاماً، باختلاس مبلغ يقدر بنحو 300 مليون دولار أميركي من المصرف المركزي خلال الفترة التي شغل فيها منصبه والتي توجت بانهيار مالي في لبنان. ونظراً لانتشار وتفشي الكسب غير المشروع الذي أفلس الدولة اللبنانية على نطاق واسع، لم يلتفت أحد للجرائم التي اتهم بها سلامة، بل تحول بنظر كثيرين في لبنان وخارجه إلى رمز لإساءة استغلال المنصب الرسمي.
أمر القضاء اللبناني بمصادرة جواز سفر سلامة، وذلك لمنعه من الهرب ظاهرياً، إلا أن السيناريو المرجح هنا هو أن بيروت تريد منعه من السفر إلى الخارج والإدلاء بشهادته في أوروبا، لأنه بذلك يمكن أن يتحول إلى دليل ضد الدولة، فيتورط بسببه العشرات من أرفع السياسيين والمصرفيين في البلد. أما سلامة، فبعد أن شغل هذا المنصب المالي المهم لفترة طويلة من الزمن، بات يعرف أين تدفن الطبقة السياسية وصاحبة النفوذ في لبنان أسرارها، ولهذا من الصعب عليه أن يفكر بمغامرة السفر إلى الخارج.
كارلوس غصن والملاذ الآمن في بيروت
لعل أشهر من استقبلهم لبنان وأمنهم كارلوس غصن، الذي شغل منصب الرئيس التنفيذي لشركتي رينو ونيسان المتخصصتين بصناعة السيارات، إذ اعتقل رجل الأعمال هذا الذي يحمل الجنسية اللبنانية والبرازيلية والفرنسية في اليابان عام 2018 وذلك بتهمة إساءة الأمانة المالية وسوء تصرفه بأصول الشركة. وبعدما خرج من السجن بكفالة في عام 2019، جرت عملية تهريبه خارج اليابان في صندوق كبير مخصص لمجموعة صوتية، ثم وصل إلى الملاذ الآمن في نهاية المطاف: لبنان. وعلى الرغم من أنه مايزال مطلوباً في طوكيو وباريس، يقيم هذا الثري بكل أريحية في بيروت برفقة زوجته وثروة تقدر بنحو 70 مليون دولار.
الجنوب اللبناني والجرائم السياسية
لا يقتصر غياب المحاسبة في لبنان على القضايا التي تحدث خارج البلد أو على مسألة تسليم المطلوبين، إذ هنالك العشرات من عمليات الاغتيال السياسية في لبنان التي يتهم حزب الله بتنفيذ أغلبها، ما تزال كلها بلا مقاضاة، ولهذا تعتبر الإدانة في قضية الحريري أمراً غير معهود وذلك لأن المجرم أدين في نهاية الأمر، حتى لو بقي هارباً من العقاب، إذ لم يفتح أي تحقيق بعمليات قتل نفذت بحق شخصيات مهمة. ففي شباط من عام 2021 على سبيل المثال، اغتيل أشهر معارض لحزب الله، لقمان سليم، على يد عصابة وتمت الجريمة في عقر دار الحزب، ولم يحدث أي تقدم في القضية.
ومؤخراً، وتحديداً في كانون الأول من عام 2022، شنقت عصابة عرفت عن نفسها بأنها تابعة لحزب الله أحد العاملين الأيرلنديين في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وحدثت الجريمة في جنوب لبنان، واتهم بها خمسة أشخاص لم يسجن منهم سوى شخص واحد.
إن سكوت الحكومات المتعاقبة في بيروت على محاسبة حزب الله على جرائمه يمثل ظاهرة محزنة لكن سببها مفهوم، فحزب الله متهم بقتل ضابطين من قوات الأمن الداخلي اللبناني في عامي 2008 و2012، وذلك لأنها قاما بالتحقيق بدور حزب الله في عملية اغتيال الحريري. غير أن ميل حزب الله للتخلص من خصومه لا يعتبر مبرراً للبنان في توانيه عن محاسبه بقية المجرمين.
تكبر لبناني على المانحين
إن النهج الغريب الذي اتبعته بيروت بالنسبة للعدالة أصبح مزعجاً للدول المانحة، إذ بعد مرور ثلاث سنوات على الأزمة المالية التي خسرت فيها الليرة اللبنانية 98% من قيمتها، مع تخلف لبنان عن سداد ديونه السيادية، صارت هذه الدولة تعتمد بشكل أكبر على المساعدات الإنسانية والمالية الأجنبية، ولهذا فإن حماية لبنان لعدوان وسلامة وغصن يعتبر ازدراء مباشراً لأكبر دولتين أوروبيتين مانحتين، وهما فرنسا وألمانيا، على الرغم من أنه لا عواقب قد ترتبت على ذلك حتى الآن.
وإن لم تكن المحاسبة أولوية في العواصم الأوروبية، فهي مشكلة كبيرة بالنسبة لواشنطن التي تقدم دعماً لبيروت أكبر من الذي تقدمه باريس أو برلين. ولهذا وخلال السنوات القليلة الماضية، صنفت وزارة الخزانة الأميريكة حفنة من طبقة النخبة بلبنان ضمن قائمة الفساد بموجب قانون ماغنيتيسكي العالمي، وقانون الصلاحيات الاقتصادية في حالات الطوارئ الدولية، وقد أيد الحزبان: الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس فرض عقوبات على تلك الشخصيات، إلا أن ما أثار سخطهم أكثر هو عدم تحقيق أي تقدم في بيروت. ولهذا دعا بعض النواب الأميركيين لوقف المساعدات الأميركية المخصصة للبنان بسبب الفساد المستشري فيه ولتسامحه مع حزب الله.
في الوقت الذي تعتبر فيه العقوبات الأميركية أداة ناجعة، نجد بأنها لا تستطيع حل مشكلة الإفلات من العقاب في لبنان بنهاية المطاف، فلقد تجاهلت الحكومات اللبنانية المتعاقبة، سواء أكانت تابعة لواشنطن أم لدمشق أم لطهران الضغوط الأميركية والأوروبية مرات كثيرة، وهذا ما أضعف الأمل بتمكن أي رئيس لبناني جديد منتخب أو أي حكومة جديدة يتم تشكيلها من قيادة أي تغيير في هذا النهج.
وبالرغم من كل ذلك يجب على واشنطن أن تواصل تأييدها ودعمها لحكم القانون، إذ خلال الشهر الماضي، اجتمعت كل من الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية وقطر ومصر، ضمن ما يعرف باجتماع اللجنة الخماسية في الدوحة حتى يضغطوا على لبنان ليقوم بإجراء انتخابات رئاسية مع تشجيعه على الإصلاح الاقتصادي، وهدد المؤتمرون في هذا الاجتماع بفرض عقوبات على أفراد يقفون في طريق إجراء الإنتخابات، دون أن يتطرقوا لأي عواقب وتبعات قد تطول من يمنعون الإصلاحات وتطبيق حكم القانون في البلد. ولكن في الوقت الذي كانت فيه تلك المبادرة القائمة على التنسيق مفيدة، ظهر خطأ واضح تمثل في التركيز على الانتخابات الرئاسية.
إذ بدل التركيز على الانتخابات التي ستأتي بلا شك برئيس ضعيف آخر، ينبغي على واشنطن وشركائها التركيز على المحاسبة، والبدء بسلامة في هذا المضمار. كما يجب أن يأتي اليوم الذي يحاسب فيه حاكم مصرف لبنان في محكمة أوروبية، والتي في حال مثوله أمامها بوسعه أن يفصح عن السياسات وأن يفضح الأشخاص الذين تسببوا بظهور أزمة مالية في لبنان. كما يجب للقمة الخماسية أن تشترط على الوفد اللبناني قبل سفره لحضور جلسة للجمعية العمومية في شهر أيلول القادم تسليم سلامة لفرنسا.
لقد عانى الشعب اللبناني طويلاً بسبب هبوط توقعات شركائه الدوليين بما يمكن لهذا البلد أن يقدمه، إلا أن المشكلة هنا هي ليست قانون عدم تسليم المطلوبين، بل بالنفور الدائم من الإصلاح والمحاسبة. لذا حتى ولو كانت مقاضاة عناصر من حزب الله في لبنان عملية خطرة في الوقت الراهن، فإنه بوسع حتى حكومة تصريف الأعمال الحالية في بيروت تسليم المجرمين من غير عناصر حزب الله بل يتعين عليها أن تفعل ذلك، لأن في ذلك -على صغره وضآلته- خطوة أولى مهمة في الطريق الذي يسلكه لبنان نحو المحاسبة.