غاز لبنان.. و«الاستثمار الجيوسياسي»
بقلم : عدنان كريمة - بعد مرور 11 شهراً على توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في 27 أكتوبر 2022، والذي وقّعه الرئيس السابق ميشال عون قبل ثلاثة أيام فقط من انتهاء ولايته، تتكثف حالياً الجهود الدولية والإقليمية، على وقع حفر بئر استكشافية في البلوك رقم (9) جنوب العاصمة بيروت، لإيجاد تسوية سياسية تؤدي إلى انتخاب رئيس للجمهورية، على أساس أن تحقيق ذلك يشكل الثقلَ الإستراتيجي لاستكمال موقع لبنان في المعادلة الإقليمية، حيث ينتظر أن يشهد دوراً مميزاً بعد دخوله نادي الدول المنتجة للنفط.
وإذا كان لبنان بأزماته السياسية والمالية والاقتصادية، المتعددة والمتنوعة، لم يكن قبل عملية حفر البئر الاستكشافية التي بدأت الخميس الماضي، ضمن أولويات المجتمع الدولي، فإن الوضع سيتغير بعد انتهاء مرحلة الحفر، والمتوقعة بنهاية أكتوبر المقبل، لاسيما إذا جاءت النتائج إيجابية لجهة وجود كميات تجارية من الغاز، وفق تقارير الخبراء التي تتوقع ثروة لا تقل قيمتها عن 100 مليار دولار.
وتبلغ حصة لبنان 62% مقابل 38% للشركات المتعاقدة. وقد وصف البلوك 9 بأنه «واعد»، نظراً لتطابق الطبقات الجيولوجية والجيوفيزيائية فيه مع حقل «كاريش» الإسرائيلي الذي تبلغ احتياطات الغاز فيه 1.75 تريليون قدم مكعب.. الأمر الذي يشجع الشركات الملتزمة على حفر مزيد من الآبار الاستكشافية.
وهكذا دخلت منصة الحفر والتنقيب «ترانس أوشن» الأميركية بثقلها المشهدَ السياسي اللبناني، وفي تقاطع مصالح مشتركة مع شركة «توتال» الفرنسية التي تقود كونسورتيوم يضمها مع شركتي «إيني» الإيطالية و«قطر للطاقة». وهذا مع العلم بأن الإستراتيجية الفرنسية ترتكز على ثلاثة مستويات: الأول سياسي وفقاً لاتفاق الترسيم، والثاني اقتصادي ربحي، والثالث استراتيجي يتعلق بحاجة القارة الأوروبية إلى تأمين استهلاكها من النفط والغاز بديلاً عن المصدر الروسي خصوصاً بعد حرب أوكرانيا.
وتبرز أهمية الرهان على الدور الأميركي، الذي انتقل من دور «الرعاية» بإنجاز اتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي وصفه الرئيس جو بايدن بـ«الفتح الكبير»، إلى دور «الوصاية» على تنفيذه، وفقاً للبنود الواردة في الاتفاق، وذلك بتفويض شامل وصلاحيات واسعة، وبمرجعية وحيدة لحسم أي خلاف قد ينشأ، سواء حصل ذلك بين الحكومات، أو بينها وبين الشركات المتعاقدة معها، حتى أن الاتفاق يفرض على «أي شركة تريد الاستثمار في الغاز والنفط اللبنانيين، أن تعرف أنها خاضعة لشروط الولايات المتحدة ولوصايتها وإشرافها. كما يؤكد «الوصي» الأميركي على الشركة المشغلة، أي «توتال» حالياً، أو أي شركة أخرى، أن «لا تكون خاضعة للعقوبات». ولذا يفتح هذا الاتفاق الباب أمام واشنطن لتعزيز نفوذها في منطقة شرق المتوسط، واحتلال موقع متقدم في سياق التنافس الإقليمي والدولي على استثمار النفط والغاز.
ويحصل ذلك، في وقت تشهد فيه المنطقة تطورات ترتبط بملفات إقليمية، تقتضي عمليات خلط للأوراق، ولعل أبرزها العودة الأميركية العلنية، من خلال تعزيز الحضور العسكري في الخليج العربي، ومحيط مضيقي هرمز وباب المندب، وإعادة تحريك قطعات عسكرية أميركية في العراق وصولا إلى الحدود السورية، إضافة إلى تعزيز الوجود الأميركي العسكري في شرق سوريا، حيث يوجد النفط والغاز، مع تداول معلومات حول نوايا أميركية لإحداث تغيير جوهري في خارطتها العسكرية بالمنطقة.
وتبقى أخيراً الإشارة إلى مفارقة كبيرة من نتائج اتفاق ترسيم الحدود البحرية، وهي أن إسرائيل كانت الأسرع في «حصاد الأرباح»، حيث أطلقت أول شحنة من حقل «كاريش» في 13 فبراير الماضي، بينما سينتظر لبنان حتى العام 2027، ليبدأ «حصاده»، إذا لم تحصل أي مشاكل تقنية في تطوير الحقل.