عوامل و ظروف كثيرة تجمعت أفقدتهم قدرتهم على الحركة و الفعل ، منها ما هم مسؤولون عنه و منها ما لا علاقة لهم بها ، كأوضاع الإقليم المضطربة و المتغيرات الهائلة و السريعة و التي عاكستهم و عاكست سياساتهم و طموحاتهم في معظم الأحيان .
الأكيد و بعد كل ما حصل أن طموح الموارنة كان كبيراً تعجز منطقة مضطربة كمنطقة الشرق الأوسط عن تحمله ، هم حلموا بإنشاء وطن مثالي يتمتع أبناءه بالحرية و العدالة فيما بينهم و يعيشون فيه بطريقة متساوية مع الآخرين ، الأمر الذي ليس متوفراً في البلدان المحيطة ، وطن ديمقراطي يحتكم أبنائه الى صناديق الإقتراع فقط لحسم خلافاتهم ، هذه الأحلام اصطدمت بواقع المنطقة المر المحكوم من أنظمة توتاليتارية دينية و قمعية لا تعترف بالآخر المختلف و تعمل على الغاءه بشتى الوسائل فساهم هذا المحيط من خلال امتداداته العضوية الداخلية في لبنان ، بقصد أو عن غير قصد بتدمير الوطن الوليد الذي صنعه الموارنة يوماً .
لقد جلد الموارنة أنفسهم طويلاً ، هم بالطبع يتحملون المسؤولية عن جزء كبير مما وصل اليه حالهم و لكن و لكي نفهم جيداً ماحصل علينا معرفة الأسباب الاي أدت الى بعض الخيارات السيئة لدى هؤلاء .
السبب الأساسي هو تعب الموارنة من واقعهم المعاش في هذه البقعة من العالم ، ربما لم يشهد مجتمع آخر هذه الكمية من الإضطهاد المتواصل على مدى مئات السنين كما حصل مع الموارنة ، و ربما لم تكن كثيرة المجتمعات التي حيكت المؤامرات ضدها للإيقاع بها و تدميرها من الداخل كالمجتمع الماروني ، هذه العوامل وحدها ترهق أي شعب و أي مجتمع في مرحلة ما من تاريخه و هذا الإرهاق حتماً سيدفعه لتبني خيارات غوغائية و قاتلة خاصة إن شهد صعوداً سريعاً كما حصل عند نجاحه بتأسيس الكيان اللبناني أولاً ثم انتصاره المدوي لاحقاً زمن بشير الجميل و الذي أعقبه هبوط أسرع مع استشهاده ما تسبب في اهتزاز الوجدان الكلي للمجتمع و تشتته و ضياعه كفقدان العائلة للمنزل و الأب المعيل في وقت واحد و بسرعة البرق .
غير صحيح أن جموح الموارنة نحو السلطة هو سبب هزيمتهم ، ربما هذا الجموح كان أحد الأسباب الثانوية لما وصلوا اليه لكن الأساس يبقى في نبذ المحيط الذي يعيشون فيه للفكرة الأساسية التي أنشأ هؤلاء لبنان من أجلها و هي الحرية و المساواة و العمل الديمقراطي الفعلي و الصحيح ، هذا النبذ من المحيط لتلك الأفكار أتى خوفاً من تمددها نحو بلدانهم و شعوبهم و بالتالي تهديد عروش حكامها و سلطاتها القمعية و الشمولية فعملت تلك الأنظمة بشكل دائم إما على محاولة إفشال الصيغة اللبنانية ذات النكهة المارونية أو على تدمير الوطن الصغير مرة بتلزيمه لمن لم بعترفوا به يوماً و مرة بتحويله الى ورقة في أيديهم يستعملونها على طاولات المفاوضات بحسب مصالحهم و أهوائهم و كل ذلك نتيجة عدم انتماء بعض المجموعات اللبنانية النهائي للكيان و تفضيلها ارتباطاتها الدينية و القومية على الهوية التي تحملها .
لقد أتعبوا الموارنة حتى وصلوا الى مرحلة العجز الكلي كما يحصل اليوم ، فحتى ردود الفعل الكلامية عندما يتم استهدافهم بشكل مباشر تأتي مدروسة و تحت سقف معيّن رسمه الآخرون لهم بحجج تافهة و سخيفة كدرء الفتنة و غيرها ، لقد أصبح موضوع الفتنة كمتلازمة عند الموارنة يستعملها الآخرون ليكموا أفواههم و يشلوا قدراتهم على الفعل و المبادرة فيضبطونهم على الإيقاع الذي يريدونه .
لقد وصل الموارنة اليوم الى مرحلة من العجز الجماعي و الكلي لم يعيشوا مثيلاً لها في تاريخهم كله و هنا مكمن الخطر الحقيقي ، ربما تجمعت كل الظروف المحيطة بهم و المصالح المشتركة بين أخصامهم لتوصلهم الى ذلك و ربما لم يعد لديهم خيارات كثيرة ، و ربما نجح أخصامهم في اختراقهم من الداخل و بالتالي إضعافهم و تشتيتهم أكثر و أكثر و ربما تعبو و أُرهقو و لم تعد لديهم القدرة على إكمال مسيرة المقاومة و الصمود ، لذا عليهم أن يختاروا ، إما حزم حقائبهم و الرحيل نهائياً من أرض الأجداد و نسيان كل ما فعلوه هنا للبدء من جديد في أرض الله الواسعة أو محاولة اجتراح حلول قد يعتبر البعض انها غير منطقية في الوضع الراهن لكنها تضع أسساً لمقاومة مستقبلية متجددة علّ الظروف تتبدل و المصالح تتغير فسيتفيدون يوماً ما منها لمحاولة تأسيس كيان آخر بشروط أكثر ملائمة لحضورهم من الكيان المنتهي الصلاحية الذي قتله محيطهم و شركائهم و دفنوه ووضعوا على قبره حجراً كبيراً لئلا يقوم مرة أخرى .