«شو أخبارك قلي، بعدك بتحنلي» ما إن بدأت بغنائها، حتى كانت الصالة تردّد معها. الحماسة تشتد مع الأغنية الثانية التي هي أكثر شهرة من الأولى «بصراحة، هيدي أول مرة بحب» ويزداد الصوت ارتفاعاً من القاعة حين تكمل: «بصراحة هيدي كذبة كل شب بيقلّي إني الأحلى والبنت اللي بيرتحلا بيطلع كذاب وما بينحب».
هكذا بدأ الحفل الذي افتتحت به عبير نعمة الدورة الحادية عشرة لـ«مهرجانات جونية الدولية» حاراً وحميماً، في صالة على كبرها تحتفظ بحنو الصوت ورهبة الحضور.
الفنانة نعمة هي مؤلفة موسيقية وباحثة، ولا بدّ أنّها حرصت على أن يكون الصوت في الحفل شديد النقاء بشكل لافت، والموسيقى مضبوطة بقيادة عازف البيانو البارع جان قسيس، الذي أدار الفرقة بعنايته، كما حرصت على أن تشكر موسيقييها فرداً فرداً، وكل منهم بالاسم.
غنت من أغنياتها «كل شي بيذكرني فيك»، و«ودعت الليل الطويل»، و«شو صاير يا ترى» وأظهرت خلال أدائها هذه الأخيرة قدرات تلوينية عالية، وتحكّماً لافتاً في الحنجرة.
منذ وقت طويل لم تغنِّ عبير نعمة في لبنان، حالها من حال مغنيات لبنانيات موهوبات عديدات، أبعدتهن الأزمات المتلاحقة عن مسارح الوطن. العودة ميمونة، والجمهور متعطش ونعمة الحريصة على شروط فنية لا تتنازل عنها، بدت وقد تحضّرت لليلة العمر. «لن أنسى»، «لن أنساكم أبداً، صدقوني»، قالت لجمهورها الذي لم يتوقف عن مناداتها، وعن القول إنّه يحبها. «بحبك» كلمة كانت تصدر بين الحين والآخر من هنا وهناك، من حضور من كل الأعمار.
الفنانة عبير نعمة موهوبة وتشتغل على صقل موهبتها، وهي ليست جديدة على الساحة، لكن الظروف السابقة لم تكن تترك كبير متسع لهؤلاء الموهوبين العارفين في الموسيقى وأصولها، الذين تعملوا الغناء كما يجدر، ولا يؤدّون فقط كما يتفق.
بين الأغنيات كانت عبير نعمة تتوجه لجمهورها. قالت إن مهرجانات جونية «عملت شيئاً من الأمل، بعد أن عشنا انكسارات وصعوبات، وخذَلَنا الواقع تكراراً. ومع هذا نحن لا نملك غير أن نتأمل».
طلبت الفنانة من الجميع أن يغنّوا معها: «كل ما تقلي إنك جاي. بصير بشوف الوقت مراية» من ألبومها «حطاية»، وتحوّل كما مرات عديدة الحضور إلى كورس. كما غنت «اعمل ناسيني» و«تلفنتلّك»، لكن الهدوء ساد القاعة، وساد وجوم حين تحدثت نعمة عن انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) عام 2020، قالت إن «غراباً خيّم فوق بيروت. وصارت المدينة كامرأة عجوز تلبس أحلى ثيابها قبل أن تموت، لكنها لا تموت». وعلى الشاشة الخلفية بدت صور العاصمة اللبنانية المكتظة بأهلها وبيوتهم كأنها في انتظار مقلق، فيما يلوح علم لبناني كبير فوق أحد المباني، ويسرق البصر. الكاميرا تعبر فوق المرفأ المحترق، المدمر، المتشح بسواد دخان النار، وصوت عبير نعمة يصدح: «بيروت قومي… لماذا أراك حزينة…؟! حبيبتي هيا تعالَي نطير؟ جناحاك كونٌ فكيف نسير؟ مشينا كثيراً لكي نبتدي حلمنا كثيراً لكي ننتهي، حبيبتي، لا لا تضيق الدروب، وعند المساء بك نهتدي، فأنت البيوت وأنت السفينة، وأنت الفتاة وأنت المدينة، فبيروت قومي، لماذا أراك حزينة؟ فأنت الكتاب وأنت الحكاية، وأنت الوصول وأنت البداية».
لكن عبير نعمة، المهجوسة بالتحدي والاشتغال على الصوت، والأساليب، كعادتها لم تكتفِ بأغنياتها الخاصة، وخصصت الجزء الثاني من الحفل تقريباً لمجموعة من الأغنيات المختارة من الريبرتوار اللبناني والعربي. وملاحظ أنها ذهبت إلى الصعب؛ إلى الأغنيات التي تحتاج إلى جهد وتلاوين، وطبقات. غنت من الموشحات: «لما بدا يتثنى»، وقصيدة «يا ليل الصّب متى غده»، وأغنية ليلى مراد الشهيرة «أنا قلبي دليلي»، وأغنيات للكبير ملحم بركات بينها «شباك حبيبي» وأخرى لوديع الصافي، ومن أغاني زكي ناصيف أدَّت واحدة من أجمل ما قدمه: «نقيلي أحلى زهرة يا فراشة نقيلي»، بينما كانت الشاشة الخلفية تعرض شريطاً مصوراً لحقل يمتد فيه زهر الأقحوان الأحمر على مد النظر. وأقامت عبير نعمة حواراً فيما يشبه التحدي الفني بينها وبين موسيقى القانون التي عزفها جهاد أسعد من الفرقة، وهي تصدح: «يا ليل، يا ليل»، و«أمان أمان».
أسعدت عبير نعمة، وأجادت وأطربت جمهورها في تلك الليلة الأنيسة بالموسيقى والصوت العذب الذي كرمه وزير السياحة وليد نصار وكان حاضراً. سلّم الفنانة الكبيرة شهادة تقدير، قالت إنها تكريم مختلف للفنان حين يأتيه من بلده، وحين يغني في حضرة مواطنيه.
وختمت الفنانة المحبة للفرح بأغنية «اشتقنا كثير يا حبايب» من الريبرتوار اللبناني طالبةً من الحضور أن يؤدوا الدّبكة حيث هم في الصالة كلٌ بقرب مقعده، وهكذا كان، لينتهي الحفل بالبهجة والرقص والاحتفال بالحياة.