حاول ابن بلدة إيزال الضنية في شمال لبنان كثيراً الصمود في وجه الأزمة الاقتصادية التي أدت إلى توقف عمله في مجال البناء، اعتقد بداية أن الأمر لن يطول، لكن مرّت كما يقول لموقع “الحرة” “ثلاث سنوات من دون أي مدخول” ويشرح “انهارت أحلامي مع كل يوم مرّ من دون العثور على عمل، ومع كل شهر لم أتمكّن من تأمين بدل إيجار المنزل، لأجد نفسي في النهاية ألملم خيباتي في حقيبة، وأسلّم مفتاح البيت إلى مالكه وأعود أدراجي مع أسرتي للسكن مع عائلتي”.
وضع الموظفين في لبنان ليس أفضل حالاً من وضع العاطلين عن العمل، فقد تراجعت قيمة رواتبهم إلى الحد الذي لم تعد تكفي لتأمين احتياجاتهم الأساسية، لاسيما رواتب العاملين في القطاع العام، منهم رامي، الرقيب أول في قوى الأمن الداخلي، الذي تراجعت قيمة راتبه من 1200 دولار إلى 70 دولار نتيجة انهيار قيمة العملة المحلية”.
منذ الأزمة الاقتصادية ورامي كما يصف “يعمل بالسخرة”، ويشدد “إن كان الراتب يكفي فقط لتأمين لقمة العيش يكون الإنسان عبداً وليس موظفاً فكيف إن كان لا يكفي لذلك حتى؟”، ويشرح “إضافة إلى السبعين دولارا أحصل على المساعدة الشهرية من الولايات المتحدة الأميركية لقوى الأمن الداخلي، البالغة مئة دولار، أي أن راتبي يصل إلى 170 دولارا، في حين أن بدل إيجار منزلي مئتي دولار، وفاتورة المولد 120 دولارا، أما بالنسبة للطعام فكيلو اللحم بمليون ليرة وربطة الخبز بـ 60 ألف ليرة، في حين شارف سعر صفيحة البنزين على المليوني ليرة”.
وفقاً للمعايير الدولية، يعتبر عاطل عن العمل، بحسب ما يشرح الباحث في الدولية للمعلومات، محمد شمس الدين، “كل شخص يفوق عمره الـ16 سنة ويقل عن 64 سنة تقدم بطلب للحصول على وظيفة من دون أن يتمكّن من ذلك خلال 15 يوما، لكن في لبنان قد يبحث الشخص عن وظيفة على مدى سنوات ومن ثم يتوقف عن ذلك، وعند سؤاله عما إن بحث عن وظيفة خلال 15 يوما سيكون جوابه بالنفي، بالتالي وفقاً للمعايير الدولية هو غير عاطل عن العمل لكن فعلياً هو كذلك، مما يعني أن هذه المعايير لا تطبّق في لبنان”.
وصلت نسبة البطالة، وفق ما يشير شمس الدين لموقع “الحرة” إلى “38 في المئة من حجم القوى العاملة اللبنانية، مما يعني أن نحو 430,000 لبناني من دون عمل، ولولا هجرة عدد كبير من الشبان للعمل في الخارج لكان الرقم أكبر، في وقت ارتفعت فيه كلفة المعيشة منذ الأزمة الاقتصادية 3900 في المئة، أما الرواتب فلم تلحق بارتفاع الأسعار، حيث ارتفعت 700 في المئة”.
أما رئيس الاتحاد العمالي العام، بشارة الأسمر، فيلفت إلى أن “نسبة البطالة لدى الذكور تناهز الـ 40 في المئة في حين تصل إلى 50 في المئة لدى الإناث، وهي تتركز في القطاع الخاص وناتجة عن عدم التوظيف في القطاع العام بقرار من مجلس الوزراء”.
الأسمر شدد في حديث لموقع “الحرة” على البطالة المقنعة كون “رواتب موظفي القطاع الخاص لا تكفي لعدة أيام من الشهر رغم أن بعض القطاعات الخاصة تمكنت من الوصول إلى نوع من التوازن مع ازدهار أعمالها، كما أن رواتب القطاع العام متدنية إلى أقصى حد، خاصة رواتب العسكريين”.
اعتراف رسمي.. سخرة وجبر
الوجع كبير كما يشدد مصطفى، “فعلى الرغم من أن أقصى أحلامنا بسيطة، بل لا تتعدى كونها حقاً من حقوق الإنسان، فإنها في بلدنا صعبة المنال، فأنا لا أطلب سوى مدخول أحصل عليه من تعبي لأعيش مع عائلتي ولو في غرفة خاصة وأتمكّن من تأمين طلبات طفلتي المحرومة من كل شيء”.
قبل الأزمة الاقتصادية استبعد مصطفى (30 سنة) فكرة الهجرة، لكن منذ أن قطع الأمل بالعثور على فرصة عمل أصبح كل همّه كيفية مغادرة وطنه، ويقول “حتى تحقيق هذه الأمنية أمر مستحيل، فأنا لا أملك المال للحصول على جواز سفر فكيف ببقية الخطوات المطلوبة. لم أعد أحتمل، أشعر أني مكبل وأكاد أختنق من ضيق العيش”.
أما رامي فلا يزال يستبعد فكرة الهجرة، “أولاً كون مؤسستي ترفض طلبات التسريح وثانياً كوني مسؤولاً عن والدتي، مع العلم أنه حين انضممت إلى قوى الأمن الداخلي قبل 17 سنة كان كل هدفي تأمين استشفاء وطبابة والدتي التي ربتني وأشقائي الأربعة أيتاماً منذ طفولتنا، لكن الآن بالكاد تغطي المؤسسة العسكرية جزء بسيطاً من هذه الفواتير”.
خلال مؤتمر منظمة العمل الدولية في جنيف، الشهر الحالي، ألقى وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال، مصطفى بيرم، كلمة أشار فيها إلى أن “بلدي كله قد تحول إلى عمل السخرة والعمل الجبري سواء على مستوى الدولة وإداراتها التي باتت تفتقد لأدنى المقومات اللوجستية لتسيير مرافقها أو على مستوى غالبية الناس الذين أصبحوا تحت خط الفقر”.
ولفت إلى “إجراءات حاسمة وتنفيذية أخذت طريقها إلى أرض الواقع”، لخصها بإقرار الحكومة لخطة استراتيجية لوزارة العمل (2022 – 2025) ومما تتضمنه “التدريب المهني المعجل، وقد أطلقنا مساره من المناطق النائية والمهملة تاريخياً، والرفع المتكرر للحد الأدنى لأجور العمال”.
والشهر الماضي أشار الاتحاد العمالي العام في بيان لمناسبة عيد العمّال إلى أنه “لا يُحسد العامل والعاملة والموظف والموظفة في لبنان على ما آل إليه وضعهم في السنوات الثلاث الماضية من تدهور مريع في أجورهم وضماناتهم وخسارة مواقع عملهم ومثلهم المزارع الصغير والسائق العمومي وموظفو القطاع العام ومعلمو المدارس وأساتذة الجامعات وموظفو وعمال المصالح المستقلة والمصالح العامة والخاصة، وكذلك القطاعات العسكرية والأمنية والعاملون والمتقاعدون واللائحة لا نهاية لها، حيث تشمل العمال المياومين واللانظاميين وسواهم”.
عبودية مقنّعة
منذ صرفها من العمل قبل سنتين، تبحث، حياة، عن وظيفة لمساعدة والدها في تأمين حاجيات أسرتها، لكن كما تقول “معظم المؤسسات التي تطلب موظفين تحدد رواتب بالكاد تغطي تكلفة المواصلات، مستغلة الأوضاع المعيشية للمواطن وحاجته الملحة للعمل، فتعرض عليه راتبا بخساً لا يتجاوز المئتي دولار، وهذا قمة “الاستغلال”، وتشدد “لم أنل شهادة في إدارة الأعمال وخبرة لثلاث سنوات لكي أقبل بشروط مجحفة تصل إلى حد العبودية المقنّعة كما حال شقيقتي التي لا تزال مستمرة بالعمل رغم أنه لا يتبقى لها من راتبها سوى مئة دولار إذا حسمت منه بدلات النقل”.
كما أن “حقوق الموظف مهدورة” تقول، حياة، في حديث لموقع “الحرة”، “من سهولة الاستغناء عنه عند أول اعتراض يبديه، إلى التأخر بدفع مستحقاته وتسجيله بالضمان الاجتماعي، لتضاف قضية تدني الرواتب، من هنا لا بد من أن نجيب أنفسنا قبل القبول بأي وظيفة عن هذا السؤال: ما الفائدة من عمل لا نستطيع من خلاله تأمين حاجياتنا الأساسية من سكن وطعام وشراب وكساء وطبابة واستشفاء؟”.
أصبح كل أفراد العائلة في اضطرار للعمل برواتب متدنية من أجل مدخول شهري كان يحصل عليه فرد واحد منهم سابقاً، رغم أن معظم شركات القطاع الخاص تأقلمت كما تقول حياة مع الأزمة، إذ “حوّلت كل تعاملاتها المادية إلى الدولار، باستثناء الرواتب وإن خصصت جزءا بسيطاً بالعملة الخضراء فإنها تمنن موظفيها بذلك”.
“تنعكس البطالة سلباً على مجمل اليد العاملة وعلى المستوى المعيشي للبنانيين” بحسب الأسمر، و”تلعب دوراً في الإخلال بالأمن الاجتماعي وارتفاع نسب الهجرة لا سيما لدى فئة الشباب، حيث تشير الأرقام إلى أن ما بين 75 و100 ألف جامعي غادروا لبنان منذ بداية الأزمة”، والأمر لا يختلف حين لا يكفي الراتب الموظف أو العامل.
وكان تقرير لـ”الدولية للمعلومات” كشف أن 257,852 شخصاً غادر لبنان خلال الأعوام 2017- 2022، أما العدد الأكبر سنويّاً خلال هذه الفترة فكان في العام 2021، إذ بلغ 79,134، يليه 67,884 شخصاً في العام 2011. وكان لافتاً أن نحو 100 ألف شخصٍ غادروا خلال الأعوام الثلاثة 1992-1994 التي تلت انتهاء الحرب، وكذلك سجّل العدد ارتفاعاً، ووصل إلى 205,237 شخصاً في الأعوام 2011- 2015.
زيادات وهمية
تمكّن الاتحاد العمالي العام “بقوّة العمال والعاملات والنقابيين والنقابيات ومثابرتهم” أن يساعد كما جاء في بيانه في الأول من مايو الماضي “في انتزاع القليل من حقوقهم المهدورة ومكتسباتهم الضائعة، فاستطاع أن يرفع الحد الأدنى الرسمي للأجور، إلى تسعة ملايين ليرة شهرياً ورفع بدل النقل عن كل يوم عمل إلى 250 ألف ليرة، ويسعى لاحقاً إلى رفعها الى 450 ألف ليرة مساواةً في القطاع العام”.
وساهم الاتحاد “برفع رواتب جميع العاملين في الإدارة العامة إلى سبعة رواتب والمتقاعدين ستة رواتب وزاد من مداخيل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مبالغ إضافية كبيرة تمكّنه من زيادة التقديمات، إضافةً الى تعزيز مداخيل الهيئات الضامنة الأخرى”.
ويشدد الأسمر: “زيادة سبعة رواتب للقطاع العام لا تحل أزمة العاملين فيه، كونها تحتسب على أساس راتب عام 2020 كما أنها غير محتسبة في تعويضات نهاية الخدمة ولا تدخل في صلب الراتب”، فإذا كان أساس راتب الموظف مليون ونصف المليون ليرة يعني أنه سيحصل على عشرة ملايين ونصف المليون ليرة أي ما يعادل حوالي مئة دولار”.
أياً تكن زيادة الرواتب فإنها بحسب رامي “وهمية لا تحرر الموظفين من العبودية ما لم تكن بالدولار، لاسيما أن كل الأسعار أصبحت مدولرة، فما نفع الحديث عن مضاعفة مدخولنا سبع مرات والمبلغ الذي سنحصل عليه بالكاد يصل إلى مئة دولار بالتالي لا يمكّننا من العيش الكريم من دون أن نضطر إلى الاستدانة لشراء الطعام والدواء واستجداء أهل الخير لتأمين فاتورة الاستشفاء” ويشدد “الأمر المستغرب هو اعتياد اللبنانيين على الأزمة وما ترتب عنها من ارتفاع سعر صرف الدولار وغلاء الأسعار”.
وفقاً لتقرير المرصد الاقتصادي للبنان، الصادر عن البنك الدولي الشهر الماضي، بعنوان “التطبيع مع الأزمة ليس طريقاً للاستقرار”، فإنه بالرغم من ظهور علامات تطبيع مع الأزمة، “لا يزال الاقتصاد اللبناني في حالة تراجع حاد، وهو بعيد كل البعد عن مسار الاستقرار، ناهيك عن مسار التعافي. وقد أدى فشل النظام المصرفي في لبنان وانهيار العملة إلى تنامي ودولرة اقتصاد نقدي يُقدّر بنحو نصف إجمالي الناتج المحلي في عام 2022”.
ولا تزال صناعة السياسات بوضعها الراهن تتسم بحسب التقرير “بقرارات مجزأة وغير مناسبة لإدارة الأزمة، مقوضةً لأي خطة شاملة ومنصفة، مما يؤدي إلى استنزاف رأس المال بجميع أوجهه، لا سيما البشري والاجتماعي، ويفسح المجال أمام تعميق عدم المساواة الاجتماعية، بحيث يبرز عدد قليل فقط من الفائزين وغالبية من الخاسرين”.
وتعليقاً على ذلك، قال المدير الإقليمي لدائرة الشرق الأوسط في البنك الدولي، جان كريستوف كاريه، “ما دام الاقتصاد في حالة انكماش وظروف الأزمة قائمة، سيزداد تراجع مستويات المعيشة، وستستمر معدلات الفقر في الارتفاع. إن التأخير في تنفيذ خطة شاملة للإصلاح والتعافي سيؤدي إلى تفاقم الخسائر على صعيد رأس المال البشري والاجتماعي ويجعل التعافي أطول أمداً وأكثر تكلفة”.
ما يواجهه اللبنانيون اليوم يستدعي، بحسب الأسمر “دراسة شاملة لواقع الرواتب والحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص، وواقع الرواتب والزيادات في القطاع العام، وهو ما نتابعه بشكل دائم مع الهيئات الاقتصادية”.