شكّلت ملامحُ الأزمة الديبلوماسية بين بيروت ونيقوسيا على خلفية تَدَفُّقِ قوارب الهجرة غير الشرعية للاجئين سوريين إلى الدولة الجزيرة مؤشراً إضافياً إلى تعدُّد «الثقوب» التي تنخر السفينةَ اللبنانيةَ التي تُلاطِمُ منذ أعوام «العاصفة الكاملة»، مالياً واقتصادياً ومصرفياً، والتي زادتْها «التهاباً» الأزمةُ السياسيةُ العاتية التي يشكّلها الفراغُ الرئاسي المتمادي منذ 1 نوفمبر 2022 ثم «رياح الحرب» التي هَبَّتْ من غزة مع فتْح «جبهة المشاغَلة» من الجنوب في 8 أكتوبر الماضي.
وفيما كانت كل أيام الروزنامة اللبنانية، منذ 6 أشهر «محجوزةً» ليوميات الحرب المحدودة جنوباً وآفاقها، عاد ملف النازحين السوريين ليكون أشبه بـ «wake up call» للسلطات الرسمية بأنّ الأزمات التي تعتمل وتفتك بالبلاد على كل المستويات لا تُحلّ بوضع «كواتم صوتٍ» لها أو بإشاحة النظر عنها، وأن الإمعان في ترْك «التايتنيك» اللبنانية لمصيرها والمضيّ في «عصْب العيون» عما يجري حول الوطن الصغير وفيه، لن يؤدي إلا إلى قفْل كل مَسارب «النجاة» بجبال جليد تتراكم في مسارٍ محكومٍ بالارتطام المميت.
ولم يكن عابراً أنه في موازاة الانشغالِ بالمَخاوف التي لا تهدأ من انتقال جبهة الجنوب من الانضباط تحت سقف قواعد اشتباكٍ، وإن كانت تتمدّد بالتماثُل والتناسُب وفق مقتضيات الميدان على مقلبيْ الحدود، إلى الحرب الأوسع على وقع تَعثُّر مسار الهدنة في غزة ومدّ تل أبيب يدها الطويلة وصولاً إلى ضرب إيران «على أرضها» (قنصليتها) في دمشق، خرجتْ قضيةُ النازحين السوريين إلى الواجهة مجدداً مع إعلان رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أمام مجلس الوزراء «فوجئنا صباح اليوم (أمس) بملامح أزمة ديبلوماسية مع قبرص، حيث هاجمتْ بعض الصحف القبرصية لبنان على خلفية ملف النازحين الذين يصلون الى الجزيرة بطريقة غير شرعية عبر المياه اللبنانية»، كاشفاً «أجريتُ الاتصالاتِ اللازمةَ مع السلطات القبرصية وأكدتُ الحرص على أفضل العلاقات مع قبرص ولا نقبل أن نصدّر أزمةً النازحين اليها».
وأضاف: «شددتُ خلال الاتصالات على أننا في ملف النازحين أمام واقع على العالم تفهُّمه. النازحون يدخلون لبنان خلسة ولا أحد من الدول يساعدنا في ضبط الحدود، فاذا قررنا ترحيل السوري الى بلاده نُواجَه بمسألة حقوق الانسان، وبالنسبة للحدود البحرية فنحن نعمل على ضبْطها قدر استطاعتنا».
وتابع ميقاتي: «تواصلتُ مع الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس وتمنيتُ عليه أن يطرح في اجتماع الدول الاوروبية المتوسطية المقبل موضوع الضغط على الاتحاد الاوروبي لمساعدتنا في عملية ترحيل النازحين غير الشرعيين من لبنان».
وجاء كلام ميقاتي غداة تشديد الرئيس القبرصي على أنّه من «المقلق للغاية» أن يتزايد باستمرار وصول النازحين السوريين إلى البلاد في الأسابيع القليلة الماضية، معلناً بعد اجتماع مع رئيسة البرلمان الأوروبي روبرتا ميتسولا «أتفهم تماماً التحديات التي يواجهها لبنان، لكن تصدير المهاجرين إلى قبرص لا ينبغي أن يكون الحل ولا يمكن قبوله».
وقال خريستودوليدس، الذي عبّرت بلاده مراراً عن رغبتها في أن يدرس الاتحاد الأوروبي إعلان أجزاء من سورية مناطق آمنة الأمر الذي سيسمح بإعادة طالبي اللجوء الذين يصلون إلى البلاد المجاورة، إن «هناك أزمة خطيرة بسبب عمليات الوصول شبه اليومية لقوارب اللاجئين السوريين»، كاشفاً أنّه طلب شخصياً من رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين التوسّط لدى السلطات في لبنان كي توقف هذه القوارب «وأن قدرة الجزيرة على استقبال اللاجئين وصلت إلى نقطة الانهيار».
ومع معلوماتٍ عن وصول أكثر من 600 سوري إلى قبرص على مدى الأيام الأربعة الأخيرة في قوارب صغيرة بدفعٍ من الطقس المعتدل (ليتجاوز العدد في الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام 2600)، عقد مجلس الأمن الوطني القبرصي اجتماعاً الثلاثاء برئاسة خريستودوليدس.
وأوردت صحيفة «فيليليفتيروس» نقلاً عن مصادر حكومية أن نيقوسيا كانت تريد أن تتبنى في بروكسيل وجهة نظر لمصلحة التوصل لاتفاقٍ مع لبنان لمواجهة تزايد أعداد اللاجئين.
وبلْور وزير الداخلية القبرصي كونستانتينوس إيوانو الواقع المعقّد بإعلانه «ان الوضع يزداد سوءاً تدريجياً، وفي الأيام القليلة الماضية شهدنا تدفقاً من قوارب بالية ولاجئين يعرّضون حياتهم للخطر»، مشيراً «إلى أن الأمر يتفاقم بسبب تراجع تركيز السلطات اللبنانية على وقف الهجرة من سواحلها في الأشهر القليلة الماضية وسط تصعيد على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية»، ولافتاً إلى أن تجار البشر «يعطون المهاجرين فقط بوصلة مضبوطة على 285 درجة وطعاماً ومياها ليوم واحد ثم ينطلقون».
وإذ قال إيوانو إن قبرص تريد أيضاً أن تكون مساعدات الاتحاد الأوروبي للبنان مشروطة بوقف تدفق المهاجرين، فإن هذا الكلام لاقى قراءاتٍ كانت أخذت على لبنان تَعَمُّده التراخي في مكافحة الهجرة غير الشرعية عبر شواطئه، والتي باتت متشابكةً مع خط تهريب مفتوح براً من سورية إلى «بلاد الأرز»، وذلك بهدف الضغط على الاتحاد الأوروبي من أجل توقيع اتفاقاتٍ شبيهة بتلك التي أبرمها مع عدد من الدول لزيادة المساعدات أو لتخفيف القيود عن إمكان إعادة النازحين غير الشرعيين.
ومعلومٌ أن المفوضية السامية لحقوق اللاجئين في لبنان تقول إن عدد النازحين السوريين المسجّلين (قبل 2015) يناهز 800 ألف، في حين أن السلطات اللبنانية تتحدث عن نحو 2.1 مليون نازح، بينهم غير قانونيين، من دون احتساب مَن يستمرون بالدخول خلسة، وسط تحوُّل هذا الملف منذ أشهر مادة سجال سياسي في بيروت تحت عنوان«إعادتهم إلى بلادهم»- وهو ما يرفضه المجتمع الدولي بحزم – ومحاولاتٍ رسمية لتنظيم وجود النازحين غير الشرعيين، وفي ظلّ تقديرات بأن تكلفة النزوح على الاقتصاد اللبناني تناهز مليار و700 مليون دولار سنوياً في حين أن الخسائر على الاقتصاد وعلى خزينة الدولة تُقدر بما لا يقلّ عن 40 مليار دولار منذ 2011 في حين أن«المساعدات الدولية للبنان بلغت نحو 9 مليارات دولار وغطت جزءاً بسيطاً من الخسائر المباشرة».
وفي موازاة هذا العنوان الشائك، كان بارزاً أن «ملفاً شقيقاً» فَرَضَ نفسه على طاولة مجلس الوزراء ويتمثل في النزوح اللبناني من الجنوب بفعل المواجهات على الحدود، حيث قال ميقاتي: «نعقد جلستنا على وقت استمرار العدوان الاسرائيلي على جنوب لبنان موقعاً شهداء وجرحى ودماراً هائلاً. وقد عقدنا قبل الجلسة اجتماعاً مع منظمات الأمم المتحدة وسفراء الدول المانحة والمعنية، وأجرينا نقاشاً مستفيضاً حيال ما يحصل في الجنوب وطلبنا المساعدة السريعة، خصوصاً أن هناك نحو 100 ألف نازح من قرى الجنوب و313 شهيداً ونحو 1000 جريح».
وأضاف «الكارثة الكبرى هي في الأضرار الحاصلة في القطاع الزراعي حيث هناك 800 هكتار تضرروا بشكل كامل، و340 ألف رأس ماشية فقدوا ونحو 75 في المئة من المزارعين فقدوا مصدر دخلهم النهائي. وأرى وجوب أن نعلن منطقة الجنوب منكوبة زراعياً خصوصاً أن هذه المشكلة ستنسحب على السنوات المقبلة».