عشية اليوم 250 للحربِ المفتوحة على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية تَدَحَرَجَتْ كرةُ النار على المقلبيْن في أوسع مواجهاتٍ وأكثرها ضراوة بدا معها الصِدامُ الكبيرُ أقرب من أي وقتٍ، في أقسى اختبارٍ لالتزام الطرفين منذ 8 أكتوبر بتبادُل الضربات، تارةً تحت عنوان استعادة الردع وطوراً تحت شعار «تحديثِ قواعد الاشتباك»، ولكن من دون مؤشراتٍ إلى إمكان الخروج في المدى المنظور عن قرارِ ضبْط النفس بإزاء أي ضغطٍ على زرّ التفجير الشامل الذي يبقى التهديدُ به رغم الموجة الأعتى من التصعيد أمس أقرب إلى «مناورة» قد لا ترى النور أبداً وإن كان تحوُّلها حقيقةً أمراً لا يصحّ إسقاطُه من الحسبان.
ومن خلف الدخان الأكثر كثافة الذي لفّ جبهة الجنوب اللبناني على خلفية اغتيال إسرائيل القيادي الكبير في «حزب الله» وأرفع مسؤول يتم استهدافه منذ بدء حرب المشاغَلة، طالب سامي عبدالله (الحاج أبوطالب) في بلدة جويا الجنوبية (ومعه 3 عناصر ميدانيين)، وردّ الحزب بحزامٍ ناري غير مسبوق بأكثر من 220 صاروخاً (رقم قياسي في يوم واحد منذ انطلاق المواجهات) لفّ شمال إسرائيل وسدّد معها ضرباتٍ نوعيةً أبرزها ضد مصنع «بلاسان» للتصنيع العسكري والحربي في مستوطنة سعسع (الجليل الأعلى) لتبلغ «يده» للمرة الأولى طبريا (استهدف قاعدة عسكرية) قرب غور الأردن مع التلويح بـ «إصبعٍ على زنادِ» ضرب حيفا «قريباً»، تطايرتْ الأسئلة والمخاوف عما سيكون على جبهةٍ خَطَفَ التهابُها الأضواء عن المسار الشائك لاستيلاد «مقترح بايدن» حول غزة.
ولم يكن عادياً على وقع هدير الحرب جنوباً، أن يتَكَرَّس واقعُ أن إدارة مساعي وقف «المحرقة» في غزة باتت محكومةً بحساباتِ «حرب لبنان» ومنْع انفجارها. وفيما كان وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن الأكثر تعبيراً عن هذا البُعد بتأكيده من الدوحة أن الاتفاق حول غزة «سيكون تأثيره هائلاً في خفض التوتر بين إسرائيل ولبنان»، معلناً «ليس هناك شك لدي في أن أفضل طريقة أيضاً لتمكين التوصل إلى حل ديبلوماسي للشمال (مع لبنان) هو حل الصراع في غزة والتوصل إلى وقف لإطلاق النار، فهذا سيخفف قدراً هائلاً من الضغط»، جاء على «الموجة نفسها» إعلان البنتاغون أن وزير الدفاع لويد أوستن ناقش في اتصال مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت «الجهود المبذولة لتهدئة التوترات على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية»، وأن اوستن «عبّر عن المخاوف من التوتر على حدود لبنان».
«جاذبية السقوط»
ومع ابتعادِ الاتفاق حول غزة أو أقلّه عدم بروز إشاراتٍ إلى أنه وشيكٌ، تَعَزَّزَتْ المخاوفُ من مدى قدرة جبهة الجنوب على مقاومةِ «جاذبية السقوط» في الحرب الواسعة، ولا سيما بحال استمرّ الاستنزافُ في القطاع لِما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي يُخشى لو فاز فيها دونالد ترمب أن «تذهب مع الريح» وساطة أموس هوكشتاين (موفد جو بايدن) التي تشكّل أحد العوامل «الكابحة» لمغامرةٍ إسرائيلية تجاه لبنان – إلى جانب «التوازن التدميري» القائم على المقلبين – باعتبار أنها قد تكون «سلّمَ النجاة» من اصطدامٍ باهظ التكلفة تتهيّبه تل أبيب ولا يريده «حزب الله» بالتأكيد.
ورغم أن «حزب الله» قسا على إسرائيل باستهدافاته (نفّذ نحو 11 عملية في ساعات نهار أمس) التي تَسببت بأضرار مادية ومعنوية إلى جانب استنفار 21 فريق إطفاء و8 طائرات لإخماد الحرائق التي اندلعتْ جراء صواريخه، فإن مؤشرات عدة عكستْ تريثاً في «حرق المراكب» على جبهة الجنوب وتمديداً للعب على حافة الهاوية، وإن كان هامش المناورة عليها يضيق أكثر فأكثر، وسط تآكُل هيبة إسرائيل ونجاح «حزب الله» في تحويل شمالها أقرب إلى «حقل تجارب» ما يجعل تجرُّعها المزيد من «دفعات السمّ» بمثابة «موت بطيء»، في الوقت الذي فشل الحزب حتى الساعة في وقف الاغتيالات لقادة وكوادر فيه وفي فرْض معادلة «القائد بالقائد» لأن دون ذلك إضافة إلى المعطيات الاستخبارية والأمنية الفائقة الدقة إدراكاً بأن هذا سيكون شرارة حربِ «يا قاتل يا مقتول».
ومن هذه المؤشرات:
– إعلان مسؤولين في الجيش الإسرائيلي «أنهم لا يتوقعون رداً انتقامياً من حزب الله يصل إلى حيفا، لأن استهدافَ أبو طالب وقع في قضاء صور وليس في بيروت أو أي موقع إستراتيجي آخر»، مشيرين إلى «أن الحكومة لم تقرر بعد إطلاق عملية عسكرية موسعة ضد حزب الله، وأنها تفضل بدلاً من ذلك مواصلة تنفيذ عمليات قتْل مستهدَفة».
– دخول طهران مجدداً على خط التحذير، الذي بدا «موصولاً» لواشنطن، من أي حرب واسعة على لبنان، وفق ما عبّر عنه تكرار وزير الخارجية بالوكالة علي باقري كني أن «طهران لن تسمح لإسرائيل بتحقيق أهدافها في لبنان وننصحها بعدم السقوط من حفرة غزة إلى بئر لبنان».
حيفا والمعادلة الجديدة
ومن قلب غبار هذا الاحتدام، ارتسم سؤالٌ برسم الأيام المقبلة ومحوره: هل تكون حيفا (تبعد 40 كيلومتراً عن الحدود اللبنانية) المعادلة الجديدة التي يقوم «حزب الله» من خلالها بمحاولة فرض ردْعٍ على إسرائيل عن المضيّ في استهداف قادته، علماً أن «ابو طالب» هو ثاني قيادي يَعترف الحزب بسقوطه بعد وسام طويل، وعكستْ المواقف التي صدرت في تشييعه ونعيه الدور الكبير الذي يضطلع به، واستطراداً هل ستسلّم تل أبيب بمثل هذه المعادلة أم تكون بمثابة «عود الثقاب» لإشعال الحرب الضروس.
ولم يكن عابراً في هذا الإطار، أن يتداول ناشطون مؤيّدون لـ«حزب الله»، عبر قنوات «تليغرام» مؤيّدة للحزب، صورة لانفجار ضخم في حيفا مرفقة بتعليق: «حيفا قريباً».
وقوبلت هذه الصورة بمخاوف في صفوف المستوطنين الذين وجدوا فيها تهديداً مباشراً من احتمال تعرّض المدينة للقصف، فقرّرت بلديّة حيفا فتح الملاجئ العامّة المحصّنة.
وكان رئيس المكتب التنفيذي في «حزب الله» هاشم صفي الدين توعّد في تشييع «ابو طالب» أمس في الضاحية الجنوبية بأنّه «سنزيد من عملياتنا شدّة وبأساً وكمّاً ونوعاً، ولينتظرنا العدو في الميدان»، معتبراً «أن العدو مازال على حماقته ولم يتعلّم من كلّ التجارب التي مضت حين يعتقد أنّ اغتيال القادة يضعف المقاومة لكنّ التجربة أثبتت أنّه كلما استشهد من القادة ازدادت المقاومة ثباتاً ورسوخاً»، ومضيفاً: «إذا كان العدو يصرخ ويئنّ مما أصابه في شمال فلسطين فليجهّز نفسه للبكاء والعويل».
ووصف نائب «حزب الله» حسن فضل الله «أبو طالب» بأنه «صاحب القلب الشجاع لم يكن يوماً في الصفوف الخلفية، بل كان على الدوام في مقدمة الميدان، وهو قائد لم يترك جبهة للمقاومة تعتب عليه، وكان في حرب يوليو 2006 قائد محور بنت جبيل الذي هُزم على أعتابه جيش العدو، وتعرفه المقامات ومدن سورية وقراها (…) وكان الشهيد يحرص في هذه الحرب أن يكون مع المقاومين في الخطوط الأمامية، وكان المقاومون يرونه أمامهم في الجبهة، ويتابع على الأرض المجريات، وعلى مدى ثمانية أشهر كان يقود إخوانه على خط الحدود لتوجيه ضربات قاسية للعدو شلت جيشه وغيرت معادلات في الصراع مع هذا العدو».
«ردّ كمي ونوعي»
وفي حين أعلن الجيش الإسرائيلي أنّ «القيادي في حزب الله طالب عبدالله قام بالتخطيط وتنفيذ العديد من الأعمال ضدّ (مواطني دولة إسرائيل)»، فإن مصادر بارزة في محور الممانعة قالت لـ «الراي» إن «الردّ الكمي والنوعي» الذي قام به «حزب الله» غداة اغتيال قائده الميداني انطوى على 3 رسائل دفعة واحدة هي:
• ان «حزب الله» لن يتسامح مع الغدر الذي مارستْه إسرائيل باغتيال «ابو طالب» في بيته وخارج الميدان، وأنه في ضوء ما يضمره هذا السلوك من تصعيدٍ فإن الحزب اختار الرد بقسوة لإرغام تل أبيب على الانضباط تحت سقف قواعد الاشتباك المعمول بها، إذ سبق لإسرائيل أن استهدفتْ قادةً بمواقع مشابهة لمكانة «أبو طالب» ولكن في الميدان، كوسام الطويل ونجل عضو المجلس الجهادي في الحزب ورئيس كتلته البرلمانية النائب محمد رعد، من دون أن يحظى الأمر بعاصفة من الردّ الواسع على غرار ما حدث أمس.
– ان الحزب يدرك أن إسرائيل اختارتْ في التعاطي مع جبهتها الشمالية منزلةً بين منزلتيْن في خضم المناقشات التي لم تُحسم حيال مجريات الحرب مع الحزب، أي الذهاب بالمواجهة إلى تصعيد أكبر من دون الانزلاق الى حرب واسعة، ولذا فإنه في عملياته غير المسبوقة أراد القول لتل أبيب إنه على استعداد للذهاب بعيداً وعلى نحو غير محدود حتى ولو استدعى الأمر صِداماً كبيراً.
– ان الحزب وَجَدَ في الضربة التي تلقّاها باغتيال قائده الميداني ومعه 3 آخَرين فرصةً لمزيدِ من إسناد المُفاوِض الحمساوي عبر تذخير موقفه بضغطٍ عسكري على إسرائيل لدفْعها الى القبول بردّ «حماس» على مقترح بايدن وخصوصاً بعدما كشفت المقاربات الدولية والإقليمية لِما يجري أخيراً أن رعاة التسوية عيْنهم على غزة ولكن قلبهم على جبهة لبنان.
وكان «حزب الله» وسّع عملياته ضد إسرائيل مستهدفاً للمرة الأولى مصنعاً للتصنيع العسكري والحربي في مستوطنة سعسع، وهو ما اعتُبر ضربةً نوعية، في ضوء ما سبق أن نشره موقع «تايمز أوف إسرائيل» عن أن مصنع «بلاسان» يعمل «بجهد أكبر من أي وقت، ويُكثّف من إنتاج صفائح الدروع الواقية للبدن التي تشتّد الحاجة إليها في أعقاب اندلاع معركة(طوفان الأقصى)، وهو المنتج الأساسي لشركة(بلاسان)عندما تأسست في عام 1985».
الدروع
ونقل عن نير خان، مدير التصميم في الشركة، إنّه تلقّى الأوامر من الجيش ووزارة الدفاع «وقالا إنّهما بحاجة إلى أكبر قدر، وفي أسرع وقت، من مجموعات الدروع المثبتة بمسامير للسترات الواقية من الرصاص للمركبات العسكرية، بالإضافة إلى توفير المصنع الآن خدمة قطع الغيار والصيانة، ضمن أنشطة لوجيستية قد تتأثر بشكل أو بآخر من استهداف المقاومة للمصنع».
وفي «سيرة ذاتية» للمصنع، أنه في نهاية الألفية بدأ في حماية مركبات «الهامر» للجيش الذي كان يحتل جنوب لبنان، وبحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين «أصبحت الشركة تعمل مباشرةً مع الشركات المصنعة للمركبات المدرعة وغيرها داخل إسرائيل وخارجها، إلى جانب تصنيعها الدروع الواقية للبدن ومجموعات دروع المركبات للجيش الإسرائيلي».
كما استهدف «حزب الله» بعشرات صواريخ «الكاتيوشا» مقر قيادة الفيلق الشمالي في قاعدة عين زيتيم، والمقر الاحتياطي للفيلق الشمالي في قاعدة تمركز احتياط فرقة الجليل ومخازنها في«عميعاد»، ومقر وحدة المراقبة الجوية وإدارة العمليات الجوية على الاتجاه الشمالي في قاعدة ميرون، وغيرها من مواقع إسرائيلية.
وترافقت اندفاعة الحزب مع تقارير في وسائل إعلام إسرائيلية عكست ما يشبه «حال الاستنفار»، إذ أوردت أنه في ضوء الوضع الأمني فإن المحمية الطبيعية «ناحل عامود» البعيدة 25 كلم عن حدود لبنان سُتغلق، وأنّها المرّة الأولى تدوّي صفارات الإنذار في طبريا، ناقلةً أنّ الجيش الإسرائيلي لا يستبعد إمكان أن يوجّه الحزب أسراباً من المسيّرات في مواجهة موسّعة باتجاه أهداف قيّمة في عمق إسرائيل رداً على عملية جويا، طالباً من مستوطنات الجليل الأعلى إلى السكان البقاء في مناطق محمية.
حرائق في إسرائيل
وفيما أعلنت الشرطة الإسرائيلية أن «الحرائق الناجمة عن إطلاق صواريخ من لبنان ألحقت أضراراً بمبانٍ في كاديتا وأخلينا مناز»، أفيد عن محاولات للسيطرة على عدة حرائق اندلعت في عين زيتيم وعميعاد نتيجة القصف الصاروخي لـ«حزب الله» وأن النيران تتوسع في صفد.
في المقابل، أعلن الجيش الإسرائيلي استهداف منصات إطلاق صواريخ تابعة لـ«حزب الله» في ياطر وحانين، وسط تقارير عن استهداف سيارة بين بليدا وعيترون وعن غارة على أطراف زبقين، شيحين وقصف واسع وفوسفوري لبلدات جنوبية عدة.