وبذلك برزت «غيرة» خبراء الصندوق للحفاظ على الليرة اللبنانية، وهي «رمز» السيادة النقدية، مع العلم أن «الدولرة» منتشرة بشكل واسع، وتشمل نحو 80% من الحركة التجارية والاستهلاكية للاقتصاد اللبناني.
لكن بسبب «الافتقار إلى الإرادة السياسية لاتخاذ مجموعة قرارات صعبة»، انتقدت بعثة الصندوق التي اختتمت مباحثاتها في بيروت يوم 14 سبتمبر الجاري، في بيان «شديد اللهجة»، تأخيرَ لبنان بدءَ مسار التعافي المالي، بتنفيذ الإصلاحات المتفق عليها منذ أبريل 2022، رغم وجود فرصة لإصلاحات شاملة، تهدف إلى تعزيز حوكمة مصرف لبنان، وعمليات تداول العملات الأجنبية وفقاً لأفضل الممارسات الدولية، وتوحيد سعر الصرف. وبسبب هذا التأخير، يُترك لبنان (وفق رأي الصندوق، ويؤيده في ذلك وزير المالية يوسف خليل) في وضع ضعيف للقطاع المصرفي والخدمات العامة، وبنية تحتية متدهورة، وتفاقم في ظروف الفقر والبطالة، وتوسيع أكبر لفجوة الدخل، وعدم المساواة.. على أمل أن تنجز الحكومة الإصلاحات قبل عودة البعثة إلى بيروت في صيف العام المقبل، لمناقشة التطورات الاقتصادية والمالية.
وفي سياق مسار «الدولرة» والضغوط السياسية التي يتعرض لها مصرف لبنان لتمويل نفقات الدولة، يشعر حاكم المصرف بالإنابة وسيم منصوري بقلق شديد نتيجة انسداد الأفق السياسي أمام انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة كاملة الصلاحيات، تستطيع تعيين حاكم أصيل يتولى شؤون السياسة النقدية الجديدة قبل نهاية العام الحالي، خصوصاً أنه يتمسك بموقفه لجهة «وقف تمويل الدولة» بعد تراجع احتياطي العملات الأجنبية إلى نحو 8.5 مليار دولار، وهي أموال المودعين لدى المصارف التجارية في «الاحتياطي الإلزامي»، وذلك حرصاً منه على توفير الاستقرار لسعر صرف الدولار، ليبقى على مستوى 90000 ليرة. ومع استمرار الوضع المالي المتدهور، تواجه الحكومةُ كلَّ أول شهر مشكلةَ تمويل الدولة بمبلغ 100 مليون دولار، لدفع رواتب موظفي القطاع العام البالغة نحو 80 مليون دولار، إضافة لتغطية نفقات أخرى منها دعم الأدوية.
ومن هنا تبرز مسؤولية مصرف لبنان في تحديد آلية الدفع بشكل يحافظ على توازن الاستقرار النقدي والحد من تأثير الضغوط التضخمية، مما يضطره أحياناً إلى دفع الرواتب بالدولار بدلا من الليرة، لتجنب زيادة الكتلة النقدية البالغة حالياً نحو 60 تريليون ليرة. ويمكن التحذير من استمرار خطورة هذا الوضع في غياب سياسة نقدية منتظمة، حيث تكون «الدولرة الشاملة» الهروب المنطقي الوحيد. وعلى هذا الأساس، يكون طبيعياً أن تحاول الدولة استيفاء رسومها وضرائبها بالدولار، كما تحاول أن تفعل أساساً في موازنة العام 2024.
وسيكون طبيعياً أن تشرّع وزارة الاقتصاد تسعير السلع بالدولار، أو أن يمتنع المصرف المركزي عن بيع الدولارات للدولة بحجّة «رفض تمويلها»، طالباً منها تأمين دولاراتها بنفسها. هذا مع العلم بأن «الدولرة» ستسحق جزءاً من المقيمين من أصحاب الرواتب المقوّمة بالليرة، وستكرّس فقدان سيادة الدولة على اقتصادها.. لكنّها الحل الأخير المتاح خارج إطار الإصلاحات الشاملة.