ندين الحملة على البطريرك الراعي – ليس لمجرّد صفته الدينية وتسنّمه أرفع موقع كنسيّ مارونيّ – بل لمواقفه الوطنية الخالصة أولاً وأخيراً، ووفائه تحديداً لمسيرة اثنين من البطاركة في القرن الأخير: أحدهما وضع لُبنة أساسية لنشوء الكيان، وثانيهما «بطريرك الاستقلال الثاني» الذي فتح بإزميل الكلمة الأنيقة وبالإرادة الحديد كوةً دشَّنت مسيرة دحر الاحتلال.
لم يقُل البطريرك عن «حرب المشاغلة» إلا ما تقوله أكثرية اللبنانيين، وإن تنوّعت طرق التعبير. وإذا كانت الحرب مكروهةً من الأساس، فإنّ قرار السلم والحرب يبقى على الأقل منوطاً بالدولة لا بحزبٍ من الأحزاب ولا بطائفة. ولنفترض أنّ الدولة غائبة والقائمين عليها بلا اعتبار، فمَن استفتى المواطنين أو «المكوّنات» لينتزع تفويضاً بخطوةٍ خطيرة تتعلّق بأرزاق الناس وأرواحهم ووحدة الشعب والأرض؟
«جريمة» البطريرك أنّه نطق باسم أهل القرى الخائفين وأكثرية الحريصين على الدولة والمدركين حجم الانهيار، فعرّى سردية «المشاغلة»، ورفع الصوت الخافت في وجه المحابين المتفجّعين على أطفال غزة. كلّنا نعرف جيداً أن لا خلاف لبنانياً على إدانة وحشية إسرائيل، وأن حقّ الفلسطينيين في أرضهم ووطنهم وفي العيش الحرّ الكريم أصليٌ لا جدل فيه، لكن لا يجوز مزج تأييد الفلسطينيين شعباً وقضية وشرعيةً بشعبوية وديماغوجية الإنضواء تحت لواء «حماس» ويحيى السنوار في عمليةٍ انتحارية شفَت غليلنا لساعات، وتُبكينا منذ ذلك الحين.
ترتفع النبرة ضدّ البطريرك بلسان الجيوش الإلكترونية والممانعين، ليس لمجاهرته برفض الحرب، بل لقوله الحقيقة التي تنفي «شرعية» المعارك المفروضة بقوة الهيمنة والأمر الواقع. أما الأهم فهو أنّ البطريرك وضع الإصبع على شرخ الشراكة والميثاق الوطني.
أهل الممانعة غاضبون أيضاً لإدراكهم أنّ أيّة «مقايضة» ستحيي مطلب بكركي بالحياد، الذي بات بعد أشهرٍ من فتح جبهة الجنوب أقلّ ما يطمح إليه المسيحيّون. وقف البطريرك مع ثورة 17 تشرين رافعاً لواء المواطنية وإصلاح النظام والانتظام فبدا كـ«صارخٍ في البريّة». لعلّه يطلق اليوم آخر إنذار قبل إعلانه بحزنٍ شديد: «لأ. مش ماشي الحال!».