خلافاً للمألوف وعلى مدى سنوات عدة ماضية، شهد السجن المركزي في لبنان (حبس رومية) أكثر من حادثة تكرر فيها مشهد قبض عدد من السجناء على عناصر من قوى الأمن الداخلي واحتجازهم رهائن، وافتعال حرائق داخل مباني السجن، ما يعكس انسحاب الفوضى التي يشهدها المجتمع اللبناني على داخل السجون.
وفي وقت تعاني البلاد من صعوبة ضبط عصابات التهريب والمخدرات في عدد من المناطق، يبدو أن سجن رومية المركزي هو بدوره أحد أهم “ملاذات” تجار المخدرات، حيث يديرون شبكات داخل السجن وخارجه. وتشير المعلومات إلى أن الخلافات تنشب حول الممنوعات وأساليب توزيعها وإدخالها إلى السجن بين السجناء.
واندلع في الآونة الأخيرة إشكال كبير بين عشيرتين من آل “علاوه” وآل “جعفر” على خلفية خلاف في شأن حبوب مخدّرة، واحتُجز عناصر من قوى الأمن لممارسة الضغط ومحاولة السيطرة على المبنى وسوق المخدرات داخله، حيث يعترف بعض السجناء والأمنيين بانتشار واسع للمخدرات لا سيما في مبنى “الأحداث” والمبنى “دال”، وكذلك في مبنى “المحكومين”، والسجن “ج” التأديبي، الأمر الذي حول السجن الى “كارتيل المخدرات”، حيث يتصارع التجار والمروّجون في ما بينهم، لفرض سيطرتهم وجني الأرباح.
أساليب معقدة
وبحسب مصدر أمني داخل سجن رومية، فإن طرق إدخال المخدرات إلى السجن متنوعة ومعقدة، موضحاً أنه بعد مراقبة دقيقة تبين أن بعض المرضى استلموا مواد مخدرة داخل المستشفى الخارجي أثناء المراجعة الطبية، وهربوها إلى داخل السجن لدى عودتهم، وفي عدة حالات أكثر خطورة، كان السجناء الذين يراجعون المستشفى يبتلعون المخدرات، وبعد وصولهم إلى السجن يقومون بالتغوط ويسحبون المخدرات.
وكشف المصدر ذاته أن عمليات التهريب لا تقتصر فقط على الرجال، فهناك العديد من السيدات المتورطات في تلك العمليات خلال الزيارات، حيث يعتمدن على أجسامهن لإدخال المواد المخدرة إلى السجن، فتوضع المخدرات في “واقٍ ذكري”، وتضعه تلك السيدات داخل أجسادهن إلى حين عودتهن إلى السجن.
عصابات ومخدرات
وتشير شهادات من مصادر عدة داخل سجن رومية إلى أن بعض السجناء يشكلون عناصر فاعلة في شبكات تهريب المخدرات، بما في ذلك أولئك الذين يتحدرون من عائلات لها تاريخ طويل في تجارة الممنوعات.
وأشار أحد المسؤولين الأمنيين في سجن رومية (طلب عدم كشف اسمه) إلى أن “التنافس بين عصابات تجار المخدرات المختلفة في السجن أصبح له طابع خاص، حيث تتجول عصابات ترويج المخدرات بأريحية تامة داخل السجن وتفرض خوات على السجناء خلال فترة سجنهم، تبدأ بتقاضي مبالغ مالية كبيرة مقابل الحصول على أسرّة للنوم وطعام وسجائر وغيرها تحت ستار الحماية”.
وغالباً ما يتعرض أولئك الذين يرفضون الامتثال لأنظمة العصابات للضرب، حيث يكشف المصدر أن معظم المعارك التي تحدث بين “عصابات السجون” والسجناء الآخرين سببها خلافات مالية متعلقة بالمخدرات أو بسبب رفض الانصياع لقرارات هذه العصابات.
عشائر وطوائف
وللتخفيف من المعاناة تحاول منظمات مدنية عدة مد يد العون للسجناء، من بينها جمعية “نضال لأجل الإنسان” التي أكدت رئيستها ريما صليبا أن “أوضاع السجون في لبنان وصلت أخيراً إلى حد الكارثة الكبيرة، إضافة إلى المشكلات المختلفة التي يعانيها السجناء، وآخر مظاهرها الانتفاضة التي شهدها سجن رومية بعد الإشكال الذي حصل بين سجناء من عشيرتين مختلفتين. وهذا يؤكد أن العشائر تنتشر في سجن رومية، الذي يشكل ملخصاً ومثالاً واضحاً عن المجتمع اللبناني الذي يحتوي على كل أطياف الناس ومشكلاتها التي يجب أن تُحلّ، كآفة المخدرات مثلاً التي تنتشر أيضاً داخل المجتمع اللبناني. فسجن رومية يضم العديد من المدمنين الذين يحتاجون إلى رعاية صحية مناسبة لحالتهم ولإعادة تأهيلهم بعد الخروج من السجن، وهذا غير موجود للأسف”. وتابعت صليبا، “ليس غريباً تقسيم العنابر وفق الطوائف فهو واقع حال وليس قانوناً ولا عرفاً متّبعاً في رومية ولا في أي سجن آخر، فموضوع النظام الطائفي في لبنان ألقى بثقله على كل المجتمع اللبناني وجميع مؤسساته. وبطبيعة الحال عندما تقسّم العنابر بحسب الطوائف فهذا يشعر المساجين بالأمان”.
وقالت صليبا إن “وضع الطبابة في السجون لامس منذ ما يزيد على السنة الخط الأحمر، وقبل شهرين تخطاه، المعاناة كبيرة، منها صعوبة تأمين فواتير المستشفيات التي أصبحت تفرض الدفع مسبقاً وبالدولار قبل إعطائنا الإذن بنقل أي سجين إليها، في وقت لا يمكن لكافة الجمعيات أن تحل مكان السلطة السياسية في هذه المهمة، نتيجة عدد السجناء الكبير، ففي سجن رومية وحده ما يزيد على الـ 3700 سجين، كما أن الموازنة المخصصة لمديرية قوى الأمن الداخلي لا تسمح لها بتحمّل كل هذه الأعباء”.
وكشفت أن “الملف الاستشفائي في لبنان يقترب من الارتطام الكبير، في ظل رفض العدد الأكبر من الأطباء الوفاء بقسمهم وتأدية رسالتهم الإنسانية كونهم مؤتمنين على حياة الناس، إذ نواجه رفضاً من غالبيتهم الحضور إلى المستشفيات لمعاينة السجناء قبل التأكد من تأمين بدل معاينتهم الذي لا يقل عن 50 دولار، ومن دون أن تضع إدارات المستشفيات حداً لجشعهم”.
وبحسب صليبا، فرضت الظروف الراهنة على الجمعيات “غربلة” المرضى من بين السجناء، بمعنى تأمين طبابة واستشفاء الحالات الخطرة أولاً ثم الأقل خطورة، أما وزارة الصحة فتتحجج “بعدم قدرتها على تقديم المزيد لإنهاء هذه المعاناة، على رغم أن عدم تلقي المريض للعلاج يؤدي إلى تدهور وضعه الصحي ومن ثم الوفاة، وبدلاً من تسريع المحاكمات للتخفيف من اكتظاظ السجون، فإن القضاء لا يتحمّل مسؤولياته، وذلك على عكس القوى الأمنية التي تقوم بدورها على أكمل وجه”.
الصراعات السياسية
من ناحيتها، ترى المتحدثة باسم أهالي السجناء، رائدة الصلح، أن “واقع السجون في لبنان غريب ومريب والأحداث متجددة فيها كل يوم، وقد يكون الأقل غرابة أن نجد صورة مصغّرة عن الخارج المتعدد في الداخل الضيق المكتظ”، لافتةً إلى أن “عالم السجون الخاص هو صورة مصغرة عن الواقع في الخارج. والتعدد الطائفي والانقسام السياسي ينعكس أيضاً على حال السجناء”، ولذلك برأيها “ليس غريباً أن نجد أبناء العشائر يتجمعون في أماكن محددة، والتقسيم الطائفي كذلك يفرض صبغته، وكذلك الأمر وجود إسلاميين منفردين عن غيرهم في مكان مخصص لهم، فهذا الواقع نعيشه خارج القضبان والسجناء يعيشونه داخل القضبان وتزداد المعضلة مع اكتظاظ قد يصل إلى ثلاثة أضعاف القدرة الاستيعابية لمباني رومية. ونتائج ذلك كثيرة على كل الأصعدة، وأهمها حالة السجناء النفسية والجسدية وكثرة الأمراض والهموم عليهم، مما يجعلنا أمام حالة إنسانية مطلبية لا بد من إيجاد حل لها قبل تفاقم الأوضاع وخروجها عن سيطرة الإدارة المنهكة والمتعبة ايضاً، والتي أصبح حالها كحال السجناء أسيرة للظروف”.
وتعتبر الصلح أن “الحل الأمثل هو العفو العام الشامل وطي صفحة الماضي أو أقله اتمام قانون التخفيض وتحديد السنة السجنية بستة أشهر، وتحديد المؤبد 20 سنة سجنية، والإعدام 25 سنة سجنية، مما سيؤثر بتغيير كبير للواقع في الداخل وراحة للأهل والإدارة الحاكمة في الخارج”.
وعن انتشار المخدرات داخل السجون تقول إن “هذه الآفة والسم المتنقل داخل أجساد منهكة ومتعبة ليزيد من مرضها، ويستغل البعض حاجة السجين ليهرب من واقعه فيصبح مدمناً، غالباً ما تكون نهايته المرض أو الموت. كنا ولا نزال نرفع الصوت لإيقاف تجار الموت وعزلهم، وهم فئة قليلة منتفعة لا يهمها حياة الآخرين وسلامتهم، فلا بد من قطع الطريق عليهم لوقف دخول السموم إلى السجون”.