يبدو أن سيناريو عرقلة تحقيقات تفجير مرفأ بيروت يتكرر من جديد في قضية ملاحقة حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، حين برز من جديد استخدام دعوى “مخاصمة الدولة” بوجه الهيئة الاتهامية في بيروت برئاسة القاضي ماهر شعيتو، التي كانت تتجه لإصدار مذكرة توقيف وجاهية أو غيابية بحق سلامة، ما أدى إلى قطع الطريق على ملاحقته.
بالتالي دخل الملف مرحلة الجمود تماماً كما حصل مع المحقق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت طارق البيطار، بفعل غياب التشكيلات القضائية وعدم تشكيل أعضاء الهيئة العامة لمحكمة التمييز المعنية بالبت في دعاوى “الرد” و”المخاصمة”، حيث أوقف مرسوم تشكيلها وزير المالية يوسف خليل بضغط سياسي، تحت ذريعة أن المرسوم مخالف للتوازنات الطائفية بعدما أضيفت غرفة إلى غرف محكمة التمييز، فبات عدد المسيحيين ستة مقابل خمسة للمسلمين.
ووفق مرجع قضائي، كان بإمكان مجلس القضاء الأعلى تجاوز انتظار البت بدعوى المخاصمة وتعيين محكمة اتهامية أخرى تجنباً لتجميد الملف، كاشفاً أن الضغوط السياسية على القضاء تحول حتى دون إمكانية اجتماع مجلس القضاء الأعلى لاتخاذ هكذا قرار، إضافة إلى أنه بإمكان سلامة ايضاً رفع دعوى مخاصمة في حق كل هيئة اتهامية تتناوب على ملفه في ظل استسهال هذا النوع من الدعاوى واعتماده كوسيلة “قانونية” لعرقلة التحقيقات.
تعديل القانون
وفي هذا السياق يوضح الخبير الدستوري سعيد مالك، أن سلامة بهدف إعاقة سير المحاكمة لجأ إلى نص المادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية التي تنص على أنه “باستطاعة أي متقاض أو أي متخاصم لمجرد تقديمه دعوى مخاصمة للدولة أمام المحكمة المتخصصة، فوراً ترفع يد القاضي الناظر عن هذه الدعوى إلى حين تبت الهيئة العامة لمحكمة التمييز بهذا الطعن”، بالتالي اليوم طالما الهيئة العامة لمحكمة التمييز معطلة وغير مشكلة بانتظار تشكيلات قضائية شاملة أم جزئية ستبقى كافة النزاعات المقدمة والمقامة بحق سلامة مجمدة إلى أجل آخر.
هذا الموضوع وفق مالك بحاجة لمعالجة لناحية التشريع وتعديل المادة 751، لافتاً إلى وجود عديد من اقتراحات القوانين في هذا الخصوص، معتبراً أنه يقتضي على مجلس النواب القيام بواجبه لناحية تعديل هذه المادة كي لا تبقى مطية يعتليها كل متخاصم أو متقاض يقصد الإساءة في استعمال الحق، ويقصد بالتالي إعاقة عمل القضاء، لا سيما إن كان مدعى عليه ظنياً (أي في حالة الظن) أم مرتكباً.
وأضاف، أنه سيتعذر الاستمرار بملاحقة سلامة، بانتظار أمر من اثنين “إما تشكيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز، وهذا أمر مستبعد في الوقت الحالي لا سيما أن التشكيلات متعذرة مع عدم وجود رئيس للجمهورية، وإما تعديل نص المادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية، وهذا أمر مستبعد أيضاً مع عدم إمكان مجلس النواب الاجتماع من أجل التشريع كونه هيئة نافذة”، مؤكداً أن كل هذه التفاصيل هي بانتظار الاستحقاق الرئاسي ومن بعده يبنى على الشيء مقتضاه.
التعسف بالقانون
بدوره يؤكد المحامي أمين بشير، أن المشترع أراد من المادة 751 من قانون أصول المحاكمات أن تكون حماية لأي مدعى عليه من إمكان تجاوز القاضي صلاحياته، إلا أن تسييسها وسوء النية في تفسيرها من قبل السياسيين أدى إلى استخدامها تعسفاً لعرقلة مسار العدالة.
ورأى أن استخدامها في الإطار السياسي، بات يسمح لكل مرتكب يتم الادعاء عليه أن يلجأ إلى دعاوى مخاصمة الدولة، “ما يعني أن أحداً لا يمكن ملاحقته نظراً لعدم اكتمال النصاب في الهيئة العامة لمحكمة التمييز المقصود عن سابق تصور وتصميم”.
وأشار إلى أن المشكلة ليست في التشريع الذي ينادي به معظم النواب، إنما المشكلة هي في تطبيق القانون، لافتاً إلى أن خلاف السلطة السياسية التي تعرقل اكتمال نصاب الهيئة العامة لمحكمة التمييز وتبرز الخلاف بشكله الطائفي لتوسيع الشرخ وتعقيد الأمور أكثر فأكثر، يؤكد أن هذه السلطة السياسية شلت البلد ومؤسساته وتعتبر أن هذا القضاء “غبّ الطلب” وتحركه كما تشاء، كي لا تسير في تحقيق انفجار مرفأ بيروت.
كل ذلك يعني وفق بشير أن ملف سلامة دخل مرحلة الجمود شبه الكامل بفعل غياب التشكيلات القضائية وعدم تشكيل أعضاء الهيئة العامة لمحكمة التمييز، لينضم بذلك إلى دعاوى أخرى طمسها القضاء لا سيما حادثة انفجار مرفأ بيروت بسبب تعديلات ضرورية تستلزمها القوانين، معتبراً أن طلبات الرد والتنحي ومخاصمة القضاة وسائر الطلبات، تكون في أحيان كثيرة في سبيل إعاقة العدالة ومسار التحقيقات التي تكون جارية في لبنان سواء في قضية المرفأ أو قضايا أخرى على رغم الحفاظ على حقوق الدفاع، ولكن في الوقت نفسه يجب ألا يتم استخدام هذا الحق في إطار تعسفي.
تدخل المشترع
من ناحيته اعتبر رئيس مؤسسة “جوستيسيا” الدكتور بول مرقص، أنه كان يجدر بمجلس النواب أن يتدخل على الأقل منذ تفجير المرفأ لتعديل مواد عدة متعلقة بهذه الطلبات.
معتبراً أن ما يحصل هو تعسف باستعمال الحق تكرر مرات عديدة، فيستدعي ذلك تدخل المشترع لكبح تماد كهذا مع عدم تجاوز حق الدفاع المشروع بالأساس الذي يجب ألا يتحول الى جنوح أو تجاوز وصولاً إلى عرقلة سير عمل العدالة.
ولفت إلى أنه استباقاً للتعديلات التشريعية المرجوة وإلى هذا الحين، يمكن للمحاكم أن تقضي بغرامات عالية جداً نتيجة التعسف في استعمال حقوق الدفاع إذا ثبت فعلاً أن ليس هناك من أسباب جديرة بتقديم هكذا طلبات تعرقل سير عمل العدالة تحت مظلة أو بحجة الدفاع عن النفس أو التظلم.
خلل قضائي
بدوره أشار رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق القاضي غالب غانم، إلى أن دعوى المخاصمة التي تقدم بها سلامة، ضد القضاة العدليين تؤدي بفعل قانون أصول المحاكمات المدنية إلى رفع يد الهيئة الاتهامية في بيروت عن متابعة النظر والتوقف عن اتخاذ أي تدبير بحقه، بانتظار بت الهيئة العليا لمحكمة التمييز المؤلفة من 10 قضاة بما فيهم الرئيس الأول التنفيذي، ومع عدم اكتمال نصاب هذه المحكمة، يتوقف البت بهذه المخاصمة ما ينسحب على عمل الهيئة الناظرة في الدعوى الجزائية.
وأوضح أن الخلل في الانتظام القضائي في لبنان ينعكس على كل القضايا من هذا المستوى، مشيراً إلى أن استعمال الحد يجب أن يكون بحسن نية وإلا تحول إلى تعسف مع التمادي في استعماله من دون أي مبرر، لافتاً إلى ضرورة وضع الحلول التشريعية باعتبار الشكليات والأصول الموجودة في القانون تجبر القضاء على التوقف عن متابعة أعماله، ليصار إلى إصدار تشريع يحافظ على هيبة الهيئة العليا لمحكمة التمييز وعلى الحقوق.
تفجير مرفأ بيروت
ويرى الصحافي المتخصص في الشؤون القضائية يوسف دياب، أن سلامة ربح جولة قضائية في وجه القضاء، بالتالي استطاع الإفلات من التوقيف، بعد أن تقدم بدعوى أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز، لمخاصمة الدولة على “الخطأ الجسيم الذي ارتكبه القضاة الذين تناوبوا على الهيئة الاتهامية خلال العطلة القضائية منذ منتصف يوليو (تموز) الماضي حتى الآن”.
وبرأيه فإن وكلاء سلامة قد استفادوا من جولات المواجهة القانونية التي خاضها سياسيون مدعى عليهم بجريمة انفجار مرفأ بيروت ضد المحقق العدلي طارق البيطار، ونجاحهم في وقف كل إجراءات التحقيق بانفجار المرفأ على مدى سنتين.