طوال ولاية الرئيس السابق للجمهورية العماد ميشال عون لم يخُض «حزب الله» أيّ حرب مباشرة مع إسرائيل على الحدود الجنوبية. منذ 13 آب 2006 تاريخ صدور القرار 1701 بعد حرب تموز، لم يقاتل وبقيَ ملتزماً بقرار وقف الاشتباكات وابتدع مع إسرائيل قواعد سمّاها قواعد الاشتباك في تفاهم غير معلن وغير مكتوب بين الطرفين اللذين وجدا أن من مصلحتهما إبقاء التوتر عند درجات دنيا منخفضة.
الرئيس الذي يريده «الحزب»
بينما كانت إسرائيل منصرفة للحدّ من تدفّق الأسلحة إلى «الحزب» عبر الأراضي السورية، وتقصف بالطائرات بعض مخازنه وقوافله التي تنقلها، كان الحزب منصرفاً إلى القتال في سوريا وإلى زيادة ترسانته الصاروخية وتحويلها إلى صواريخ ذكية، وتطوير طائراته المسيّرة التي اعتبر أنّه بات يمتلك عدداً كبيراً منها إلى درجة أنّ أمينه العام السيد حسن نصرالله أعلن استعداده لبيعها لمن يرغب.
من 31 تشرين الأول 2016 إلى 30 تشرين الأول 2022، لم يشذّ الرئيس السابق ميشال عون عن قاعدة تحالفه مع «حزب الله» وتنازله عن سيادة الدولة وموقعه كرئيس للجمهورية من أجل البقاء في السلطة والتمهيد لانتخاب صهره الوزير السابق جبران باسيل خلفاً له في بعبدا. ولكنّ المحاولة لم تنجح.
عام 2006 عندما حصلت حرب تموز كان في قصر بعبدا الرئيس إميل لحود الذي يعتبره «الحزب» مثلاً في الولاء له والطاعة لمحور الممانعة، بل واحداً منه، مقتنعاً بهذا الخط ومزايداً في الدفاع عنه. عام 2004 خاض «الحزب» مع رئيس النظام السوري بشار الأسد معركة حياة أو موت في التمسّك بالتمديد للحود، وتحدّي قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 الذي صدر في 2 أيلول 2004. ومنذ ذلك التاريخ أسر «الحزب» نفسه في مواصفات الرئيس الذي يعتبر أنّه يجب أن يكون نسخة مطابقة للحود.
كان اسم سليمان فرنجية مطروحاً كأحد الاحتمالات الممكنة في تلك المرحلة. ولكنّ القرار كان ملك النظام السوري في الدرجة الأولى بينما كان «حزب الله» في المرتبة الثانية. كان رأي بشار الأسد أنه لا يمكنه أن يثق إلّا بلحود الذي تمّت تجربته، ولا يمكن المجازفة مع أي اسم آخر حتى لو كان سليمان فرنجية. تصوُّر الأسد المعركةَ التي كان يواجهها في تلك المرحلة جعلَه أسير هذا الخيار مع تبدّل المعطيات الدولية تجاه نظامه في المنطقة. وكان «حزب الله» مثله أسير هذا الخيار، ولذلك عمل منذ ذلك التاريخ على التحضير لاغتيال الرئيس رفيق الحريري بعد اتّهامه بأنه «كتب» القرار 1559، وبعدما كان نصرالله أعلن أكثر من مرّة أنّ حزبه سيقطع يد وعنق من يريد أن يأخذ سلاحه .
مع لحود عرف «الحزب» تجربة حرب «تصفية الحساب» في تموز 1993. إختبره عندما كان لا يزال قائداً للجيش بينما كان الياس الهراوي رئيساً للجمهورية. يومها، يقول لحود إنّه تصدّى، مع من كانوا معه في الجهاز الأمني، لمحاولة إرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب لضرب المقاومة وأنه لاقى نتيجة هذا التصرّف تقدير رئيس النظام السوري حافظ الأسد الذي اختار منذ ذلك التاريخ أن يمدّد للحود في قيادة الجيش مع التمديد للهراوي في رئاسة الجمهورية عام 1995 وأن يكون لحود خليفة الهراوي في تشرين الثاني 1998.
يومها أيضاً اتُّهم الرئيس رفيق الحريري بأنّه كان يقود مؤامرة على «الحزب» تمّ إفشالها في المهد، بينما كانت المنطقة تعيش أجواء ترقّب مفاوضات السلام. ففي 13 أيلول 1993 وقّع ياسر عرفات اتفاقات أوسلو مع إسرائيل. وفي اليوم نفسه سقط نحو 13 قتيلاً من المتظاهرين المؤيّدين لـ»حزب الله» تحت جسر المطار وكان يُتَّهم الرئيس الحريري بأنّه جاء إلى رئاسة الحكومة وهو يراهن على السلام في المنطقة.
تجربة فاشلة وثلاثية ساقطة
يعتبر «الحزب» أنّ تجربته مع الرئيس ميشال سليمان كانت قاسية ولا يجب أن تتكرّر. بعد انتهاء حرب تموز وصدور القرار 1701 الذي أكّد نزع سلاحه جنوب الليطاني ومساعدة الدولة اللبنانية على استعادة سيادتها على كامل حدودها ومراقبة المعابر البرية والجوية والبحرية، اتّهم الحزب قوى 14 آذار وحكومة الرئيس فؤاد السنيورة بالتآمر عليه وبالخيانة.
ومنذ ذلك التاريخ، امتنع السيد حسن نصرالله عن الظهور المباشر إلا في مناسبات قليلة ولدقائق معدودة. قبوله بانتخاب سليمان جاء نتيجة غزوة 7 أيار 2008 وتفاهم الدوحة وبعدما كانت قطر والمملكة العربية السعودية أدتّا دوراً أساسياً في محو آثار الحرب والدمار وإعادة الإعمار. ولكن التحوّل الأساسي الذي طرأ على حسابات «الحزب» وقتها كان تفاهمه مع العماد ميشال عون في 6 شباط في كنيسة مار مخايل. يومها اعتبر أنّه كسر الحصار الذي كان يمكن أن يتعرّض له وأنه يمكن أن يقبل بوصول قائد الجيش إلى سدّة الرئاسة الأولى. ولكنّ نهاية الولاية كانت مخيِّبة له بعدما أعلن سليمان سقوط ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، واعتبر أنّها ثلاثية خشبية.
كما فرض «الحزب» الفراغ بعد انتهاء ولاية لحود، فرضه بعد انتهاء ولاية سليمان. لم يكن عنده خيار محدّد ولم تكن لديه أكثرية نيابية. لذلك اعتبر نصرالله أنّ عون هو مرشحه الوحيد، وأنّ له ديناً في رقبته إلى يوم الدين بعد تأييده له في حرب تموز. ولذلك فضّله على فرنجية. كان فرنجية قد التقى الرئيس سعد الحريري في باريس وأيّد الحريري ترشيحه للرئاسة. ولكنّ «الحزب» لم يكن مرتاحاً لخطوة فرنجية الذي لم يطلعه عليها إلا قبل سفره. كان «الحزب» يعرف مسبقاً أن قوى 14 آذار لا يمكن أن توافق على انتخاب عون وأنّ الرئاسة ستظلّ فارغة حتماً. ولكنّ المعادلة كُسِرت بعد تفاهم معراب بين «القوات اللبنانية» وعون، وبعدما أيّد الرئيس الحريري انتخابه.
ستة أعوام من عهد عون انتهت إلى كوارث سياسية واقتصادية ومالية. بعد انتهائها أخذ عون يحمّل «الحزب» مسؤولية التقصير في دعم قيام الدولة مقابل دعمه في المقاومة. اعتبر عون أنه ضحّى بنفسه وبعهده وأنّ «الحزب» ضحّى به. لم يوافق نصرالله على التمديد لعون من خلال باسيل وتمسّك بترشيح فرنجية. اعتبر أنه الشخص الذي يؤمّن له الضمانة بعدم طعنه في الظهر. لم يكن عنده خيار آخر غير فرنجية إلا الفراغ بسبب تعذّر انتخابه.
لقاء بنشعي والأجوبة المطلوبة
يوم جمع نصرالله فرنجية وباسيل على فطور رمضاني قبل انتهاء ولاية عون، كان يريد أن يوافق باسيل على انتخاب فرنجية. ولكنّ باسيل تمسّك بنفسه مرشّحاً وحيداً وهاجم فرنجية بقوة ووصفه بأنّه فاسد ولا يتمتّع بأي حيثية مسيحية تمثيلية ولا يمكنه أن يقبل به. رغم كل ذلك لم يجد فرنجية مانعاً من استقبال باسيل في دارته في بنشعي مساء الأربعاء 25 تشرين الأول الماضي.
إذا كان باسيل أعلن الإتفاق على مواجهة الخطر الكبير الذي يتهدّد لبنان وأبدى حرصاً على عدم خلق الذرائع أمام إسرائيل لشنّ الحرب على لبنان، فإنّ فرنجية الذي لا يزال مرشّح الحزب الأول والأخير، اعتبر أنّ الزيارة بقيت بعيدة عن موضوع رئاسة الجمهورية وأنّ حرصه على البلد لا يوازي حرص السيد حسن نصرالله والرئيس نبيه بري، وأنّ نصرالله كان يمكنه أن يجرّ الحرب على لبنان لو تصرّف كما فعلت «حماس» في غزة و»فات على إسرائيل، وما فينا نزايد عليه».
غير الاتفاق مع باسيل على رفض انتخاب قائد الجيش العماد جوزاف عون أو التمديد له في القيادة، يغيب فرنجية في الإجمال عن إطلاق المواقف. يكتفي بأنّه مرشّح «حزب الله» و»الخط» والرئيس نبيه بري الوحيد، ويلوذ بالصمت منتظراً أن تحصل تطوّرات تقلب المعادلات وتوصله إلى قصر بعبدا. منذ اتفق مع الحريري عام 2015 لم يعش في الأحلام الكاذبة ويتصرّف بواقعية عدم الرهان على المستحيل. دائماً اعتبر أنّ الظروف هي التي تأتي به رئيساً وهو لم يغادر هذه المعادلة. لا يتقدّم ولا يبادر ولا يتراجع أو يعتذر.
ثمّة متغيّرات تحصل ولا يمكنه أن يبقى غائباً عنها. يعتبر أنّ صمته يفيده والكلام قد يضرّ به، بينما عليه أن يطلق مواقف تتعلّق بكيفية مقاربته أموراً كثيرة كونه مرشحاً للرئاسة. لو انتخب رئيساً مثلاً كيف كان سيتعاطى مع موضوع احتمال جرّ لبنان إلى الحرب؟ هل كان ليكتفي بحرص السيد نصرالله «ما يفوت» على إسرائيل؟ وماذا مثلاً لو غيّر نصرالله رأيه ودخل الحرب بطريقة تتخطّى حدود قواعد الاشتباك التي لا يزال يلتزم بها؟ لو كان رئيساً هل كان ليجعل من الجيش قوة مساندة للحزب؟
هل يضع موقع الرئاسة تحت تصرّف الحزب؟ ماذا يقول للناس؟ وهل يقبل أن يشهد عهدُه تدمير لبنان مقابل حماية ظهر المقاومة؟ وكيف سيتمكّن من إعادة إعمار الخراب الذي يمكن أن ينشأ عن هذه الحرب؟ وهل يتحمّل مسؤولية تدمير المنشآت العامة وربّما مراكز الجيش ومقرّ قيادته والقصر الجمهوري؟ هل عليه أن يتصدّى لهذه الاحتمالات كمرشّح قبل أن يكون رئيساً؟ أي خيارات يتركها للبنانيين وهل رهانه هو فقط على تزكية الحزب له؟ وإذا حصلت الواقعة فأي بلد سيحكم؟ وأي شعب؟