في لبنان الذي يعاني أزمة كهرباء منذ سنوات، بدأت خلال الحرب الأهلية ولم تنتهِ، تنتشر المولدات الكهربائية التي حلت مكان الدولة من أجل تأمين الكهرباء للمواطنين.
إلا أن خدمات تلك المولدات التي تحولت إلى ما يشبه شبكة “احتكارات” غمرت اللبنانيين بمرض صامت.
فقد سلطت دراسة أعدتها الجامعة الأميركية في بيروت، الضوء على أزمة تلوّث الهواء في العاصمة اللبنانية جرّاء استخدام مولّدات الكهرباء، وخلصت إلى أن الاعتماد المفرط على مولّدات الديزل أثّر بشكل كبير على نسب السرطان. بحيث سجّلت بورصة الإصابات أرقاماً مرتفعة بالتشخيص الإيجابي بالمرض الخبيث.
القاتل غير الصامت
وشكل هذا البحث الذي من المقرر أن ينشره علماء في الجامعة الأميركية في بيروت في مدة أقصاها ثلاثة أشهر، صدمة للبنانيين الذين يعانون أصلاً من أزمات مالية واقتصادية وسياسية معقّدة منذ خريف 2019، لاسيما لجهة الأرقام التي أوردها حول نسب خطر الإصابة بالسرطان بالإضافة إلى خريطة توزّع مولّدات الكهرباء، القاتل غير الصامت الموجود داخل الأحياء السكنية وعلى الطرقات.
وفي السياق، أشارت النائبة بالبرلمان نجاة صليبا، عالمة كيمياء الغلاف الجوي في الجامعة الأميركية، والتي قادت الدراسة، إلى “أن خطر الإصابة بالسرطان ارتفع بنسبة 50% تقريباً، وهذا أمر مقلق وخطير”.
وقالت في تصريحات لـ”العربية.نت” إن أكثر من 9500 مولّد ديزل موجود في المدن اللبنانية منذ الانهيار الاقتصادي عام 2019، ويمكن رؤية المولدات في الشوارع وسماع صوتها وتنشّق سموم انبعاثاتها، من دون أن تخضع لمعايير السلامة العامة لجهة تحديد ساعات تشغيلها ووضع فلاتر”.
إلى ذلك، أوضحت أنه “قبل عام 2019 كان الاعتماد على المولدات الكهربائية في لبنان لخمس ساعات كحدّ أقصى لسدّ فجوة انقطاع التيار من الشبكة الوطنية، لكن الوضع تغيّر بعد هذا العام، لاسيما مع بدء الأزمة الاقتصادية والنقدية، حيث بات الاعتماد كبيراً على المولّدات الخاصة بمعدّل 17 ساعة باليوم، وهو ما ساهم في مضاعفة أرقام الإصابات بالسرطان وارتفاع خطر الإصابة بنسبة 50%”.
قطاع خارج عن القانون
ولفتت صليبا إلى “أن السلطة السياسية أوجدت قطاع المولّدات الخاصة من خارج القانون، لأن إنتاج الكهرباء وبيعها حق حصري للدولة فقط”.
كما أضافت أن “هذه السلطة تُمعن بالفساد وترتكب إبادة جماعية بحق شعبها، وهي سمحت بنمو قطاع المولّدات الخاصة على حساب القانون وصحة اللبنانيين”.
من جهته، أوضح وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ناصر ياسين لـ”العربية.نت” أن الوزارة تعمل على إعادة تأهيل وتشغيل محطات رصد الهواء بشكل تدريجي، والتي كانت قد توقفت عن العمل منذ منتصف 2019، وذلك بعد أن تمكنت من الاستحصال على هبة من مرفق البيئة العالمي بالتعاون مع البنك الدولي”.
ولفت إلى “أن الوزارة وضعت إعفاءات جمركية وتخفيض رسوم على السيارات الكهربائية والهجينة في موازنة 2024 بهدف التخفيف من تلوث الهواء الناتج عن قطاع النقل”.
خطر جدّي
رغم ذلك، أكد ياسين “أن هذا الوجود الكبير للمولدات الكهربائية بين المنازل والمؤسسات وفي المراكز التجارية واستخدامها في معظم الأوقات، يُشكّل خطراً جدّياً على البيئة والصحة العامة”.
كما أشار إلى “أن وزارة البيئة أصدرت في الخريف الماضي إرشادات محدّثة وأكثر صرامة بشأن وضع فلاتر للمولدات الكهربائية، وطلبت من المحافظين والإدارات المحلية تطبيقها على المولدات الكبيرة والمتوسطة الحجم العاملة في نطاقها، وقد عمم بعض المحافظين، خصوصاً في بيروت، هذه الإرشادات للتقيد بها، كما تجري وزارة البيئة ورش عمل مع كل المعنيين في وزارة الطاقة والمياه، ووزارة الداخلية والمدّعين العامين من أجل حسن التطبيق”.
ومنذ عام 2017، وهي المرّة الأخيرة التي أجرت فيها الجامعة الأميركية في بيروت هذه القياسات، تضاعف مستوى الملوّثات المسببة للسرطان، المنبعثة في الغلاف الجوي في ثلاث مناطق في بيروت.
أرقام مُخيفة
وأوضح هاني نصّار، رئيس “جمعية بربارة نصّار لدعم مرضى السرطان” لـ”العربية.نت” “أن أرقام منظمة الصحة العالمية بالنسبة لارتفاع معدّلات الإصابة بالسرطان في لبنان، مُخيفة، والأمر نفسه بالنسبة لمعدّلات الوفيات”.
كما أشار إلى “ارتفاع بمعدّلات الإصابة بسرطان الرئة والثدي، والمفارقة أننا نُسجّل ارتفاعاً بمعدّلات الإصابة بسرطان الثدي لدى نساء ما دون الثلاثين عاماً”.
وناشد نصّار الدولة اللبنانية القيام بواجباتها واتّخاذ إجراءات تساعد في الحدّ من انتشار أمراض السرطان على أنواعها في مناطق عدة، وتطبيق القوانين ذات الصلة”. وقال “طالما أن الدولة حرمت العديد من المصابين بالسرطان من الأدوية الضرورية نتيجة الأزمة المالية، فلماذا لا تضع ضريبة على الدخان تعود عائداتها لدعم مرضى السرطان ودفع كلفة علاجهم، كَون الدخان من المسببات الأساسية لمرض السرطان”.
جرح اللبنانيين النازف
وأعادت هذه الدراسة تذكير اللبنانيين بالجرح النازف الذي يعانون منه منذ أكثر من عشرين عاماً، وهو الكهرباء، الذي اتهمت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها العام الماضي السلطات اللبنانية بالتقاعس عن ضمان الحق في الطاقة بسبب سوء إدارتها للقطاع على مدى عقود.
كما أشارت إلى “أن السياسيين والأشخاص المرتبطين بهم، استخدموا قطاع الكهرباء لتعزيز أهدافهم السياسية، بما في ذلك من خلال توزيع الوظائف في هذه الشركة التي تُديرها الدولة لجني أرباح هائلة من العقود المُربحة، غالباً على حساب خزينة الدولة، وجني الأرباح من قطاع المولّدات الخاصة”.
وتفاعل اللبنانيون مع تلك الدراسة المخيفة داعين السلطة السياسية إلى التحرّك فوراً لوضع حدّ للقاتل غير الصامت الذي يفتك بصحتهم ومستقبل أولادهم.