بين مغادرة الموفد الفرنسي جان – إيف لودريان بيروت وعودته الرابعة المفترَضة أوائل الشهر المقبل، بدا أن الملف الرئاسي دَخَلَ مرحلةً انتقاليةً ستشهد أكثر المحاولات جدّية لإنضاج تَفاهُم داخلي بدفْع إقليمي – دولي لإنهاء الشغور في قصر بعبدا هذا الخريف وقبل أن يحلّ شتاءٌ قد يجرف البلاد برمّتها إلى القعر الذي لا قعر تحته ما لم يكن تمّ تغيير مسار «التايتنيك» وحرْفها عن المصير… المميت.
وفي هذا الإطار، ومن خلف الالتباسات التي ولّدها الحديثُ عن ربْط لودريان «ساعته الديبلوماسية» على موعدٍ جديد لعودةٍ مرتقبة إلى لبنان بين أواخر الشهر الجاري وأوائل أكتوبر، بالتوازي مع انتظارٍ في بيروت لبدء موفدٍ قطري تحركاً في الملف الرئاسي بمؤازرةٍ من شركاء الدوحة الأربعة الآخَرين في «مجموعة الخمس»، فإن أوساطاً مطلعة تؤكد ألّا تَعارُض بين استمرار مهمة الموفد الفرنسي وبين الدور القطري المنتظَر، تماماً كما ألّا تَضارُب بين ما تقوم به باريس وبين ثوابت الرياض في ما خص الاستحقاق الرئاسي آلياتٍ وخلاصات وهو ما حرص الجانبان على تظهيره من خلال اللقاء في دارة سفير المملكة وليد بخاري بحضور لودريان ومفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان و21 نائباً سنياً.
وفي رأي الأوساط المطلعة أن الموفد القطري يُفترض أن يسعى لإزالة الألغام المانعة حتى الساعة بلوغ تسوية رئاسية، عبر محاولة انتزاعِ توافُقٍ داخلي يلاقي «مناخاً مؤاتياً» إقليمياً على انتخاب «خيار ثالث» (غير سليمان فرنجية وجهاد ازعور) هو قائد الجيش العماد جوزف عون الذي باتت عواصم الثقل الخارجي تزكيه، باعتبار أن هذا سيكون أقصر الطرق ليطرق قصر بعبدا الشاغر منذ الأول من نوفمبر 2022 رئيسٌ لا يشعر معه أي طرف محلي أو إقليمي بأنه انكسر أو… انتصر.
وتتوقف هذه الأوساط في هذا الإطار عند مسألتين بارزتين:
* الأولى أن «الخيار الثالث» الرئاسي كان السِمة الأبرز التي شكلت نقطة تقاطُع بين كل المعلومات حيال حصيلة زيارة الأربعة أيام التي قام بها لودريان لبيروت، وهي بدت النقطة الأوضح على عكس «الشيء وضدّه» الذي طَبَع قسماً كبيراً من التقارير والاستنتاجات بإزاء مهمة الموفد الفرنسي.
واستوقف الأوساط عيْنها أن حتى إعلام قوى «الممانعة» بدأ «يُجَرِّع» بيئته أن المرحلة باتت تقتضي الذهاب إلى خيار غير فرنجية، وهو ما عبّر عنه تقرير إحدى الصحف البارزة القريبة من هذه القوى التي اعتبرت «أن أبسط استنتاج لفحوى التقارب الفرنسي – السعودي – بعدما فرّق بينهما موقفاهما في الاجتماع الأول للدول الخمس في باريس، ثم تقاربا قليلاً في الاجتماع الثاني في قطر – ان مرشحيْ جلسة 14 يونيو الماضي (أي فرنجية وأزعور) أضحيا من الماضي».
– والمسألة الثانية أن «حزب الله» الذي وضع فرنجية في أجواء أن طريقه الرئاسي ليس سالكاً لهذه الانتخابات، بدا وكأنه يُظْهِر «الأسباب الموجبة» لتراجُعه خطوةً في هذا الاستحقاق لن يكون ممكناً عزْلها بأي حال عن مقتضيات اللحظة الإقليمية وما تفرضه من «تخبئة الأنياب» في «المشروع الكبير» وإطفاء بعض الحرائق، وهو ما بدأت تشهده ساحاتٌ مثل اليمن.
وإذ وُضع «تكبير حَجَر» المخاوف من «مؤامرة» ومحاولات لجرّ البلاد إلى صِدامات وتفتيت لبنان وإعلاء عنوان «وحدة لبنان» و«الصبر»، في إطار عُدّة تحضير الأجواء لانتقال «حزب الله» إلى «الخطة ب رئاسياً» وتفادي الانجرار الى رئيسٍ على خط انقسام عمودي، لم يكن عابراً ما اعتُبر دعوة ولو لمجرّد «الحوار من أجل الحوار» أي حتى من دون أن يكون ذلك مربوطاً بنتائج، وفق ما عبّر عنه نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم.
فالشيخ قاسم أعلن أمس أن «الطريق الوحيد الإيجابي والمفتوح اليوم أمام انتخاب رئيسٍ هو الحوار، وهذا هو طريق حوار ليس مرتبطاً للوصول إلى نتيجة، وإن كان الأفضل أن يصل إلى نتيجة. فقط أن نجلس معاً لنتحاور لأننا سنعيش في البلد معاً، ألا يمكن أن نتحدث مع بعضنا؟ وهذا يفتح الطريق أمام انتخاب الرئيس.
اليوم كل مَن يرفض الحوار مسؤول عن الخلل والتدهور وتأخير انتخابات رئيس الجمهورية. قد يكون الحوار لمجرّد أن نتحاور وقد لا نصل إلى تفاهم، أما بالعناد والتحدي والتعطيل فلن يكون لبنان لكم ونحن لا نريد لبنان لنا وحدنا بل لكل أبنائه (…) ومحاولة الاستحواذ على السلطة لا يمكن أن تؤدي الى انتخاب رئيس».
ومن هنا تَعتبر الأوساط المطلعة عيْنها أن «تجميع بازل» الاتصالات والمبادرات والمواقف يقود إلى أن لبنان دخل مرحلة «الخيار الثالث» بإقرار ضمني من الجميع، وأن مَهمة الموفد القطري تتمحور حول إنضاج توافُق على هذا الخيار، وإذا حصل ذلك قد يتحوّل الحوار أو «النقاش» وفق ما يقترحه لودريان «الإطارَ الشكلي» الذي يحفظ للمتخلّين عن فرنجية ماء الوجه، ويكسر من رجحان كفّة خصوم «الممانعة» الذين كانوا رفضوا أي كلامٍ ضمن صورة جامعة مع هذه القوى وحالوا دون وصول مرشّحها.
وإذ نقل زوار السفير بخاري أمس عنه تأكيده «وقوف المملكة الى جانب لبنان وسعيها الدائم من أجل استقرار الأوضاع في هذا البلد الشقيق»، متمنياً «توافق القوى السياسية اللبنانية لإنجاز انتخاب رئيس للجمهورية وبدء مسيرة التعافي والنهوض»، تتجه الأنظار لِما إذا كانت نيويورك ستشهد بعد غد اجتماعاً لمجموعة الخمس حول لبنان (تضم الولايات المتحدة، السعودية، فرنسا، قطر ومصر) على هامش اجتماعات الدورة 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة وعلى أي مستوى.
كما تترقّب بعض الدوائر كيف سيتعاطى رئيس البرلمان نبيه بري مع ما بعد مغادرة لودريان الذي أفرزتْ زيارتُه تقاطعاً بينه وبين بري على مسألة «الحوار» وإن مع اختلاف التسميات، وهل سيوجّه دعوةً للأطراف اللبنانيين الى لقاءٍ قبل عودة الموفد الفرنسي وانقشاع الرؤية حيال المَهمة القطرية، وهل يكون ذلك من باب «التحفيز» على توافقٍ في اللقاءات الثنائية يَسبق موعد الحوار المفترض، أم أن «النقاش» الذي نُقل أن الموفد الفرنسي سيدعو إليه عند عودته سيكون «الشبكة» التي تلتقط الجميع بحال أصرّت غالبية المعارضة على القفز فوق دعوة بري؟
وقد نُقل عن بري تأكيده «أننا متمسّكون بمبادرة الحوار، وهي الوحيدة الموجودة على الطاولة»، مشيراً في حديث تلفزيوني إلى «أن الموفد الفرنسي تبنّى هذه المبادرة ودعَمها، وهي المدخل الضّروري لمعالجة المأزق الرّئاسي»، معلناً «سأوجّه الدّعوة للحوار وفق الأصول، وآمل في أن تتحلّى كلّ القوى والكتل بالمسؤوليّة الوطنيّة وأن تتّقي الله».
في موازاة ذلك، برز طلب قبرص، الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي، إنهاء وضع سورية كدولة غير آمنة لا يمكن إعادة اللاجئين إليها.
ولفت وزير الداخلية كونستانتينوس يوانو الى أنه «سيحاول إقناع الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بإنهاء وضع سورية كدولة غير آمنة لا يمكن إعادة اللاجئين إليها»، مؤكداً «ضرورة اعتراف الاتحاد الأوروبي بوجود مناطق آمنة في سورية، ما يسمح لنا بترحيل الأشخاص أو إعادتهم إليها. لأنه في الوقت الحالي، لا يمكن لأي دولة أن تفعل ذلك».
وشدد على «الحاجة الملحة لمساعدة لبنان الذي لجأ إليه نحو 2.5 مليون سوري».
وأضاف: «المعلومات المتوافرة لدينا من السلطات في لبنان هي أن هناك زيادة في عدد السوريين الذين ينتقلون إلى لبنان، ولبنان حاجز. إذا انهار لبنان، فستواجه أوروبا بأكملها مشكلة».
ويأتي هذا الموقف وسط موجة ثانية من «النزوح الاقتصادي» لآلاف السوريين الذين يدخلون لبنان أو يحاولون التسلل أسبوعياً، في ظلّ تحذيراتٍ في بيروت من أن «تنفجر هذه القنبلة» فوق برميل بارود الانهيار المالي وتَسبُّبها بمزيدٍ من «رحلات الموت» إلى ما وراء البحار في عمليات هجرة غير شرعية تكافح السلطات الرسمية بصعوبة بالغة لاحتوائها، ناهيك عن المخاطر الأمنية التي تترتّب على انفلات النزوح الذي تتحمّل «بلاد الأرز» أعباءه منذ نحو 12 عاماً باستضافتها نحو مليونيْ نازح.