يتعرض لبنان لضغوط دولية متزايدة من أجل تطبيع العلاقة مع إسرائيل. ويُقدم هذا العرض على أنه «فرصة فريدة»، وهي عبارة رددها أخيراً المبعوث الأميركي إلى سوريا ولبنان، السفير توماس برّاك، خلال زيارته على مدى اليومين الماضيين لبيروت، للحاق بمسار دول في المنطقة.
وتكمن وراء هذا التلميح الدبلوماسي، الرسالة الصريحة بأن الوقت ضيق، والزخم إقليمي، وعلى لبنان أن ينسجم مع الوضع الجديد. ويأتي العرض مصحوباً بإنذار نهائي مؤداه أنه يجب على «حزب الله» نزع سلاحه، وإلا سيُواجه خطر الفناء لأن برّاك لم يستبعد استئناف الحرب على لبنان.
وتأتي في قلب هذه المواجهة قضية جوهرية: وجود «حزب الله» كحركة مقاومة مسلحة، وترسانته العسكرية، ورفضه الرضوخ لما يراه أجندة مفروضة عليه من واشنطن وتل أبيب. فبالنسبة إلى الحزب، تضيق الخيارات، لكن الاستسلام ليس من بينها. ففي نظره تعتبر هذه «الفرصة» مشحونة بالتهديدات والعروض المسمومة، إذ مازال الحزب الهدف الرئيسي لإسرائيل والولايات المتحدة.
مطالب «حزب الله» الواضحة
أوضح «حزب الله» موقفه بوضوح تام، فهو لن يقبل بأي محادثات حول نزع السلاح ما لم تُلبَّ مطالب رئيسية عدة، تشمل:
– الانسحاب الإسرائيلي الكامل من كل الأراضي اللبنانية، خصوصاً مزارع شبعا المحتلة، الغجر، وتلال كفرشوبا.
– وضع حد للانتهاكات الإسرائيلية لسيادة لبنان، بما في ذلك وقف التحليق والاغتيالات والهجمات عبر الحدود.
– إطلاق سراح أسرى الحزب من السجون الإسرائيلية.
– الالتزام بمعاودة الإعمار لتغطية الأضرار الواسعة النطاق التي أسفرت عن حرب 2023 – 2024.
– ضمانات قوية وقابلة للتحقق بأن أي اتفاق يتم التوصل إليه سيُنفَّذ فعلياً.
لكن ربما لا تكمن العقبة الأكبر في المطالب نفسها، بل في صدقية الجهات المتوقع الالتزام بها. فالمشكلة الأساسية، من وجهة نظر «حزب الله»، هي غياب ضامن موثوق. في ظل قيادة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، انطلاقاً من إدارته لمفاوضات حرب غزة وخداع إيران بالذهاب إلى الحرب في خضم مفاوضات دبلوماسية، ما يعني أن الولايات المتحدة لم تعد وسيطاً محايداً… إنها أكبر داعم لإسرائيل، وقد أدى تناقض سلوكها الدبلوماسي إلى تعميق انعدام الثقة بها.
ثقة مكسورة
لا يستند هذا التشكك إلى نظرية، بل إلى سابقة. فعندما توسط المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف في اتفاق مع «حماس»، إنهار الاتفاق بعد 42 يوماً فقط، بعدما غير ويتكوف الاتفاق ليفرض شروطاً جديدة.
أصبح هذا النمط من التراجع والازدواجية سمة مميزة للدبلوماسية الأميركية في المنطقة. من قنوات الاتصال الخلفية السرية مع إيران إلى التحولات المفاجئة في السياسة، أثبتت الولايات المتحدة، من وجهة نظر «حزب الله»، أنها مفاوض لا يمكن الاعتماد عليه.
ويُعدّ هذا التآكل في الثقة الآن قضية هيكلية. فالأمر لا يتعلق بمن يتولى السلطة، بل بصدقية المؤسسات.
حتى لو تم توقيع اتفاق، فمن سيضمن الالتزام بشروطه؟ من سيمنع إسرائيل من شن حملة اغتيالات أخرى؟ من سيفرض معاودة إعمار المدن والقرى المدمرة؟ بالنسبة إلى «حزب الله»، لا يوجد جواب يُبدّد هذا القلق الجوهري.
اتفاق الطائف… مصدر خلافي
يستشهد كلٌّ من «حزب الله» والحكومة اللبنانية باتفاق الطائف لعام 1989 لتبرير مواقفهما، لكنهما يعتمدان على أجزاء مختلفة منه. إذ يُشدّد رئيس الوزراء نواف سلام على المادة الثالثة في الدعوة إلى نزع سلاح كل الميليشيات غير الحكومية، إذ يهدف هذا البند إلى استعادة احتكار الدولة للقوة ومنع الفوضى الداخلية.
في الوقت عينه، يعتمد الحزب على الجزء الثاني من المادة الثالثة، الذي يسلم ضمنياً بالمقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأجنبي. وقد أقرّ الاتفاق، الذي وُقّع بينما كانت القوات الإسرائيلية مازالت تحتل جنوب لبنان، بشرعية الجماعات التي تُقاتل من أجل التحرير. وفي هذا السياق، يرى نفسه قوة مقاومة – وهو تمييز جوهري يُغذّي رفضه نزع سلاحه.
تُبرز هذه القراءة المزدوجة للوثيقة عينها الواقع السياسي المنقسم في لبنان. إذ يُريد أحد الجانبين، ضمّ المقاومة إلى سيطرة الدولة؛ بينما يُصرّ الجانب الآخر على أنه من دون قوة ردع قوية، سيبقى لبنان كأعزل في مواجهة العدوان الإسرائيلي.
خيارات محدودة وضغوط متزايدة
على الأرض، الوضع كارثي بعدما تعرضت الضاحية الجنوبية لبيروت وجنوب لبنان والبقاع لقصف جوي إسرائيلي متكرر في الحرب الأخيرة. وبعد أعوام من المواجهات والانهيار الاقتصادي، تفتقر هذه المجتمعات إلى الوسائل اللازمة لاستيعاب صراع شامل جديد.
فالنزوح لم يعد خياراً، ويُمنع تمويل معاودة الإعمار عمداً لإضعاف قاعدة دعم «حزب الله». فقد اتخذت الحكومة اللبنانية إجراءات لمنع وصول المساعدات المالية الإيرانية إلى الحزب، إذ وجّهت الولايات المتحدة تهديداً إسرائيلياً بقفل مطار وميناء بيروت بالكامل، إلى جانب تطبيق عقوبات دولية وزيادة العزلة الاقتصادية، وكل ذلك بهدف الحد من وصول الدعم الإيراني للحزب.
ولكن حتى لو فكر «حزب الله» في التخلي عن ترسانته الصاروخية، فإن قدرته على الردع ستظل موضع شك، وبعدما أظهرت الحرب الأخيرة التي استمرت 12 يوماً مع إيران قوة أنظمة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية رغم الإصابات القاسية والمدمرة التي حلت بإسرائيل. فقد تم اعتراض جزء كبير من المقذوفات القادمة. علاوة على ذلك، فإن التفوق الجوي الإسرائيلي – المدعوم من الجيش الأميركي – يبقى حاسماً. ويُدرك الحزب أن أي حرب مُستقبلية تُخاض جواً ستُلحق أضراراً كارثية بقواعد دعمه.
هذا التقويم يترك للحزب سيناريو مُفضّلاً واحداً في ساحة المعركة، وهو حصول غزو بري، حيث يُمكن أن تكون تكتيكات حرب العصابات والحرب غير المُتكافئة أكثر فعالية. القتال وجهاً لوجه هو ما يُدرك «حزب الله» قوته – وليس في مُبارزة جوية لا يُمكنه الفوز بها. وهذا ما تدركه إسرائيل التي لن تختار ما يفضله الحزب.
في خضم ذلك، تراقب قيادة «حزب الله» عن كثب ما يحدث في سوريا. إذ قصفت الطائرات الإسرائيلية ودُمِّرت مستودعات عسكرية ومنشآت بحرية واحتلت مواقع عدة جديدة في جنوب سورية، من دون مُقاومة.
هذا السيناريو هو ما يخشاه الحزب وسيعاند حصوله بأي ثمن في لبنان. فحرية الحركة الكاملة لإسرائيل ستُمثل نهاية السيادة اللبنانية ولا يستطيع أحد منعها ما دامت القوانين الدولية قد فقدت.
إعادة تقويم إقليمية
منذ عملية «طوفان الأقصى» في أكتوبر 2023 وتداعياتها في غزة، تغير الشرق الأوسط. وامتدت ارتداداتها إلى سوريا والعراق ولبنان وإيران. وأشار الدمار في غزة إلى المدى الذي بلغته العلاقة المتينة بين إسرائيل والولايات المتحدة الآن. فمن الواضح للحزب أن الإستراتيجية الأميركية في المنطقة تُصب في مصلحة خطط إسرائيل طويلة المدى. وسواء كان ذلك يعني إعادة ترسيم الحدود، أو عزل إيران، أو إجبار لبنان على التطبيع، فإن الهدف الأوسع واضح وهو نزع سلاح «حزب الله»، وإضعاف دعمه، وتغيير التوازن العسكري في شكل دائم.
ولهذا السبب، تُعتبر الأشهر المقبلة حاسمة. فحكومة بنيامين نتنياهو عازمة على شن هجوم طالما الظروف مؤاتية وما دامت الولايات المتحدة في صفها، وما دامت المعارضة الإقليمية مُنهكة بسبب إرهاق الحرب والعقوبات والانقسامات السياسية.
لذلك، يقف «حزب الله» عند مفترق طرق. إن رفضه نزع سلاحه متجذر في المبدأ والخبرة والحسابات الإستراتيجية. فهو يعلم أنه بمجرد تسليم أسلحته، لن يتمكن أي طرف من حماية لبنان من الهيمنة الإسرائيلية. لكن تكلفة التمسك بهذا السلاح آخذة في الارتفاع مع احتمال حقيقي لحرب مدمرة أخرى.
وتعتقد قيادة الحزب أن استسلام المقاومة ليس خياراً – لأنه لا يوجد ضامن موثوق. لقد تلاشت الثقة في الدبلوماسية الأميركية. والضمانات الإسرائيلية لا تعني شيئاً والدولة اللبنانية، التي أضعفتها الأزمة، لا تستطيع حماية البلاد بمفردها.
في هذه المواجهة عالية المخاطر، يراهن «حزب الله» على حقيقة واحدة: الردع، مهما كان هشاً، أفضل من الاعتماد على وعود كاذبة. وفي الوقت الحالي، مازالت مطالبه ثابتة. لكن مجال المناورة آخذ في التقلص، والمعركة على مستقبل لبنان لم تنتهِ بعد.