لم تكد الحرب بين إيران وإسرائيل تضع أوزارها عقب اتفاق وقف إطلاق نار أعلن عنه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، حتى اندلعت موجات جديدة من العنف في لبنان، بعدما فعلت حكومة بنيامين نتنياهو جبهة استهداف مركز ضد “حزب الله”، وتوسيع نطاقها من ضرب القدرات العسكرية المباشرة إلى تفكيك البنى التحتية المالية التي يستند إليها الحزب في تمويل أذرعه.
اللافت في هذه الجولة الأخيرة أن الهجمات الإسرائيلية لم تكتف باستهداف مخازن الصواريخ أو مواقع الإطلاق، بل امتدت نحو قلب الشبكة المالية للحزب. وظهر ذلك جلياً مع تصفية قيادي إيراني كان يتولى تنسيق عمليات نقل الأموال من إيران إلى لبنان، إضافة إلى تكثيف الضغط على شبكات الصرافة التي يعتمد عليها.
في هذا السياق، كشفت إسرائيل وأجهزة استخبارات غربية عن أسماء صرافين محددين ينشطون في بيروت وضواحيها ويشكلون العمود الفقري لنظام التمويل الموازي لـ”حزب الله”، إلى جانب استمرار الضغوط على جمعية “القرض الحسن” التي تعد الذراع المالية الأبرز للحزب داخل لبنان.
بهذا المعنى تتخذ الحرب أبعاداً مركبة، فمن جهة تصفية القدرات العسكرية الميدانية، ومن جهة أخرى استهداف الشرايين المالية التي تؤمن استمرار هذه القدرات، مما يؤشر إلى أن المواجهة لم تعد تقتصر على جبهات الجنوب أو الحدود، بل انتقلت إلى العمق الاقتصادي والمالي، في محاولة لتجفيف الموارد التي تضمن بقاء “حزب الله” لاعباً فاعلاً في لبنان والمنطقة.
شريان المال
وعلى رغم الإعلان عن وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، فإن نتائج الهجمات الإسرائيلية العميقة على البنية الأمنية والمالية الإيرانية لا تزال تتكشف يوماً بعد يوم، فقد اعترف الحرس الثوري الإيراني أخيراً بمقتل أحد أبرز جنرالاته محمد سعيد يزيدي. وبحسب المعلومات فإن يزيدي كان من أهم حلقات الوصل في شبكة تمويل “حزب الله” منذ تأسيسه، إذ تولى مهمة تنسيق نقل الأموال من إيران إلى لبنان على مدى عقود، وأدى دوراً حاسماً في ضمان استمرار تدفق الموارد المالية إلى الحزب.
وكشفت المعلومات عن أن يزيدي كان قد زار بيروت قبل مقتله بيومين فحسب، حيث أمضى أياماً عدة أجرى خلالها لقاءات مع أطراف مالية وصرافين محليين لتأمين قنوات التحويل النقدي، مرجحة أن تصفية هيثم بكري صاحب شركة “الصادق” للصرافة، الذي اغتالته إسرائيل قبل أيام في جنوب لبنان، ترتبط مباشرة بزيارة يزيدي إلى بيروت، ويعتقد أن الرجلين كانا يعملان ضمن حلقة تنسيق واحدة لضمان عبور الأموال الإيرانية إلى شبكة الحزب.
ويصف مراقبون اغتيال هاتين الشخصيتين البارزتين بأنها “ضربة موجعة”، إذ خسر الحزب اثنين من أهم رجال الظل الذين تولوا لعقود تأمين “شريان المال” القادم من طهران. وتشير التسريبات إلى أن الحزب بدأ بالفعل في البحث عن بدائل لإعادة بناء آلية نقل الأموال، بعد الانكشاف الخطر الذي سببه مقتل يزيدي وبكري في توقيت متزامن.
وتشير المعطيات الأخيرة إلى أن الحرب على شبكة تمويل “حزب الله”، برزت أيضاً من خلال اغتيال قائد الوحدة 190، وهي وحدة مسؤولة عن شبكة مالية ضخمة تمويل “حزب الله” عبر دول ثالثة، تتهمها إسرائيل بأنها تتولى تخزين وتحويل الأموال بتمويل وتوجيه من “فيلق القدس الإيراني” لتغطية نفقات عسكرية ورواتب “حزب الله”، وصفها الجيش الإسرائيلي بأنها “فصل جديد في الحرب غير التقليدية ضد الحزب”.
إلا أن مصادر مقربة من “حزب الله” اعتبرت أن هذه الاستهدافات ليست جديدة وكثيراً ما فشلت سابقاً بقطع إمدادات الحزب المالية، إذ لفتت إلى أن إسرائيل زعمت خلال الحرب أنها استهدفت مخابئ يرجح أنها تحوي ملايين الدولارات وقطعاً ذهبية. كذلك شنت ضربات جوية على معظم فروع جمعية “القرض الحسن” – الصندوق المالي الرئيس للحزب – في محاولة لتجفيف مصادر تمويله. في حين تشير بيانات الجيش الإسرائيلي إلى أن هذه العمليات تكمل سلسلة طويلة بدأتها إسرائيل منذ 2020، حين استهدفت في سوريا شاحنات وكبائن نقل أموال قادمة من إيران إلى لبنان كان يرافقها حرس إيراني، واستخدمت تل أبيب مسيرات للقضاء على هذه الحمولات.
نشاط دولي
ويبدو أن الحرب المالية على “حزب الله” تشمل الجانب الأميركي، إذ كثفت واشنطن منذ أشهر ضغوطها على تمويل “حزب الله” عبر عقوبات وحوافز استخباراتية. ففي الـ15 من مايو (أيار) الماضي أعلنت وزارة الخزانة الأميركية تجميد أصول أربع شخصيات ورؤوس شبكات مالية بارزة للحزب في لبنان وإيران.
آنذاك صنف البيان الأميركي هؤلاء الأشخاص بأنهم أدوا “أدواراً محورية في تسهيل تحويلات مالية ضخمة من مانحين خارجيين – ولا سيما إيران– إلى داخل لبنان، وإدارة هذه الأموال لدعم أنشطة الحزب داخل لبنان وخارجه، بما في ذلك الجماعات التابعة له في أفريقيا”. ويتولى المعنيون تنسيق تحويلات نقدية من إيران إلى مسؤولين كبار بالحزب في لبنان، كما شاركوا في إيصال تمويلات إلى “الحركة الإسلامية في نيجيريا” (جناح موال لـ’حزب الله‘) بمئات آلاف الدولارات.
بالتوازي، عرضت الخارجية الأميركية مكافأة تصل إلى 10 ملايين دولار مقابل معلومات حول شبكات التمويل السرية لـ”حزب الله” في أميركا الجنوبية، وبخاصة في منطقة “المنطقة الحدودية الثلاثية” بين الأرجنتين والبرازيل وباراغواي.
وشملت العقوبات الأميركية شركات وهمية في أوروبا وغرب أفريقيا يمتلكها بعض الممولين البارزين، وحظرت أنشطتها في بلجيكا وغامبيا ولبنان. وخلف هذه العمليات يقف هدف مشترك هو تجفيف مصادر التمويل.
تقاطع مصالح مع “الدولة”
وتشير المعلومات إلى أن “حزب الله” لجأ للمعاملات النقدية بصورة كاملة منذ حرمانه من القطاع المصرفي اللبناني، حيث تعطلت المصارف التقليدية أمامه في لبنان منذ 2011، تنفيذاً للشروط الأميركية، وبات عبر اتفاق ضمني مع “الدولة” وشبكة المصالح السياسية اللبنانية التي تضم سياسيين وأحزاباً ورجال أعمال، يعتمد آلية التمويل على ما يعرف بـ”الحوالة”، فالمال يتحرك من إيران إلى شبكات صرافة في دول عربية (تركيا والعراق وسوريا) ثم يعوض عبر تحويلات مماثلة في لبنان.
وسرب الجيش الإسرائيلي أخيراً أسماء بعض محال الصرافة اللبنانية المعروفة بقربها من الحزب. وتؤكد هذه الوقائع أن هناك حرباً شاملة على التمويل، تنسجم خلالها جهود إسرائيلية مع إجراءات دولية مثل إغلاق بعض المعابر ومراقبة المطارات، في محاولة لكسر حلقة المال القادمة من إيران.
أزمة مالية
وبحسب مصدر دبلوماسي غربي، فإن الضربة التي استهدفت هيثم بكري رئيس شركة “الصادق” للصرافة، لم تكن مجرد تصفية لصيرفي متعاون مع “حزب الله”، بل حلقة حاسمة في سلسلة متكاملة لتفكيك شبكة التمويل التي تربط إيران بالحزب داخل لبنان وخارجه. ويؤكد المصدر أن التدخل الإيراني العميق في البنية المالية اللبنانية ما زال أحد أبرز العوائق أمام أي محاولة حقيقية لإنقاذ الاقتصاد والقضاء على الخطر البنيوي الذي يمثله “حزب الله”.
وبرأي المصدر، فإن الضرر الاقتصادي الذي بدأ يصيب إيران بفعل الضربات الإسرائيلية والعقوبات الأميركية انعكس فعلياً على “حزب الله”، واضطرت جمعية “القرض الحسن” إلى إعلان تعليق دفع التعويضات حتى إشعار آخر، في مؤشر غير مسبوق إلى عمق الأزمة النقدية، لا سيما أن الحزب عمد منذ سقوط نظام بشار الأسد في سوريا إلى محاولاته تهريب الأموال الإيرانية إلى لبنان عبر شبكات صرافة محلية وإقليمية، تدار بمعظمها من خلال الوحدة 190 التابعة لفيلق القدس الإيراني، التي كان يترأسها القيادي الإيراني بهنام شهرياري قبل اغتياله أخيراً.
ويكشف عن أن شهرياري كان يدير حصرياً تدفق مئات الملايين من الدولارات سنوياً نحو وحدات فيلق القدس و”حزب الله”، معتمداً على شبكات المقاصة بين الصرافين في دول إقليمية منها تركيا والعراق من جهة، ونقاط التحويل والصرف داخل لبنان من جهة ثانية. وتشير المعطيات إلى أن شركات الصرافة باتت اليوم الوسيلة الوحيدة تقريباً أمام اللبنانيين لجلب أو إخراج العملات الأجنبية، في ظل انهيار النظام المصرفي التقليدي، مما جعل الحزب يستغل هذه البنية ويحولها إلى قناة تهريب مالي منظم لمصلحة إيران.
ويلفت الانتباه إلى أن هذا الاستغلال يتقاطع مع عجز الدولة اللبنانية عن ضبط هذا القطاع الحساس، مما يعرض البلاد لأخطار تصنيفات دولية قاسية، ويعقد جهود التفاوض مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. حتى فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية (أف أي تي أف) كانت قد وضعت لبنان منذ عام على “القائمة الرمادية” نتيجة هذه الأنشطة المشبوهة، من دون أن يحرز أي تقدم ملموس للخروج منها. في المقابل، تظهر دمشق مؤشرات إلى التعافي النسبي، بعدما رفعت عنها بعض العقوبات وأعلن عن خطوات لربط مؤسساتها المالية مجدداً بشبكة المدفوعات العالمية “سويفت”.
وفي ضوء ذلك، يرى المصدر أن الكرة اليوم في ملعب المسؤولين اللبنانيين وفي طليعتهم وزير المالية ياسين جابر، وحاكم مصرف لبنان كريم سعيد، والرئيس جوزاف عون، الذين ينتظر منهم التحرك بحزم لتفكيك هذه الشبكة المالية وسحبها من قبضة “حزب الله” وإيران معاً. فالمعادلة واضحة، ما لم يفكك “حزب الله” مالياً وعسكرياً في آن واحد، سيظل الاقتصاد اللبناني عالقاً في دائرة الانهيار، وسيفقد الثقة الدولية وفرص الاستثمار والدعم وحتى السياحة.
هندسة الدعم المالي
في السياق يشير النائب في البرلمان اللبناني في كتلة “حزب الله” علي فياض، إلى أن اغتيال اللواء محمد سعيد يزيدي المعروف بالحاج رمضان، على رغم رمزيته الكبيرة ودوره الحيوي في هندسة الدعم اللوجيستي والمالي لـ”حركات المقاومة”، لن ينجح في قطع خطوط الإمداد المالي للحزب أو الفصائل الفلسطينية.
وأوضح فياض أن “الحاج رمضان كان أحد أهم الحلقات النادرة التي تربط إيران ميدانياً ومالياً بمحور المقاومة من غزة إلى بيروت”، مؤكداً أن إسرائيل كانت تعتبره هدفاً استراتيجياً منذ سنوات، واغتياله ترافق مع عمليات مركزة استهدفت شخصيات مثل هيثم بكري، في إطار حرب متكاملة على الشبكة المالية التي يعتمد عليها “حزب الله”.
وقال، “صحيح أن خسارة الحاج رمضان ضربة قاسية على مستوى الخبرة والتاريخ الشخصي، لكن من الخطأ الرهان على أن قطع هذا الجسر سيوقف خطوط التمويل أو الدعم. هذه البنى لم تكن مرهونة بفرد، بل هي عقيدة عمل وآليات متجددة تطورت منذ تأسيس المقاومة”. وشدد على أن “إسرائيل وأميركا تحاولان منذ فترة ضرب هذه البنى التحتية، من خلال استهداف الصرافين وشبكات التحويل وجمعية القرض الحسن، لكن المقاومة لديها من البدائل والخبرات ما يكفي لإعادة بناء أي مسار يتم استهدافه”.
وأكد أن “محور المقاومة يدرك أن الحرب اليوم لم تعد عسكرية فحسب، بل حرب مالية وتجفيف للموارد، لكن هذه الحرب ستفشل كما فشلت رهانات كثيرة قبلها، لأن منطق المقاومة أقوى من أي حصار مالي أو أمني”.
“رأس الأفعى”
في المقابل، كشف الباحث السياسي مكرم رباح، أن الوضع المالي لـ”حزب الله” لم يعد كما كان في السابق، مؤكداً أن الحزب يمر حالياً بمرحلة ضغوط غير مسبوقة على مستوى تنوع مصادر تمويله ومسارات إدخال الأموال. وأوضح رباح أن الحزب حاول خلال الفترة الأخيرة تنويع طرق حصوله على العملة الصعبة، سواء عبر تجارة الذهب مع تركيا أو من خلال عمليات تهريب الأموال عبر مطار بيروت الدولي، إلا أن هذه المسارات باتت تواجه تضييقاً رسمياً بعد تشديد الدولة اللبنانية قبضتها على هذا المعبر الحيوي.
وأضاف أنه “كثيراً ما روج ’حزب الله‘ لصورة نظيفة أمام جمهوره بأنه بعيد من الفساد والسرقة داخل مؤسسات الدولة، لكن الحقيقة أن الحزب كان مستفيداً بصورة أساسية من بنية الاقتصاد اللبناني، وأسهم بصورة مباشرة في الانهيار المالي وسقوط عدد من المصارف. اليوم، ومع استهداف شخصيات مثل هيثم بكري بات واضحاً أن الضربات لم تعد تستهدف فقط عمليات شراء السلاح، بل تستهدف الحلقة الأعمق، وهي العلاقة العضوية بين الذراع المالية والهيكل العسكري للحزب، وما يربطه بفيلق القدس الإيراني”.
وأشار إلى أن إسرائيل وصلت إلى “رأس الأفعى” الذي يدير الربط بين التمويل الخارجي والأنشطة العسكرية داخل لبنان، لافتاً إلى أن الشركات والصرافين ووكلاء التحويل المالي يشكلون عصباً رئيساً لضمان تدفق الأموال وتمويل الرواتب والعمليات اللوجيستية. وتابع “’حزب الله‘ كان بارعاً في استغلال شركات الصرافة التي توسعت أهميتها بصورة هائلة منذ أزمة 2019، وصار يعتمد عليها للتحكم بسوق العملة السوداء وضمان تدفق الدولارات إلى بيئته الحاضنة، لكن حين جرى تحرير سعر الصرف وإيقاف سياسات الدعم، انكشف حجم خداع الحزب للبيئة التي كان يوهمها بالربح من الانهيار، ليكتشف الناس لاحقاً أنهم يدفعون ثمن الانهيار من جيوبهم”.
وختم رباح بتأكيد أن أي مشروع لنزع سلاح “حزب الله” لا بد من أن يبدأ من تجفيف موارده المالية، معتبراً أن جمعية “القرض الحسن” التي لا تزال تعمل بلا ترخيص قانوني من مصرف لبنان تمثل أبرز عائق أمام عودة لبنان إلى النظام المالي العالمي. وقال “لا يزال القرض الحسن يلعب دور البنك الموازي، وخطورته أنه يعزل لبنان أكثر فأكثر عن التزاماته مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ويعرقل أي مسار إصلاحي جدي قد يعيد ثقة العالم بالقطاع المصرفي اللبناني”.