كانت مشهدية حادثة الكحالة عبارة عن «دويلة» تستبيح السيادة، وبرهنت عدم وجود مساواة بين المواطنين على أرض الوطن، فخاب ظنّ الشعب وهو يرى «دويلة» تنقل الذخائر والأسلحة في وضح النهار وتطلق النار على المواطنين في الكحالة.
وُضِع الجيش في موقف لا يُحسد عليه، وكأنّ هناك مخططاً لـ»حرقه» أو إعادته إلى وضعية 1975، بينما يتصرّف قائد الجيش العماد جوزاف عون بحكمة ويتنكّب المسؤولية، كأنه المسؤول شبه الوحيد في البلد في ظلّ غياب رئيس الجمهورية ووجود حكومة تصريف أعمال لا تقوم بأدنى واجبها، ووزير دفاع كل همّه «زكزكة» القائد لحسابات رئاسية مرتبطة بتياره السياسي. في حين يتذكّر الجميع أنه في ظلّ وجود حكومة 14 آذار برئاسة فؤاد السنيورة ودعم دولي لم يستطع الجيش وقف خط شاحنات «الحزب» وأنشطته، وبالتالي حاول العماد جوزاف عون قدر الإمكان التقليل من خطر الفتنة ولو دفع من رصيده الشخصي، خصوصاً أنّ الدم ما زال حامياً، والكلّ مستعدّ للمواجهة وخط الصدام كاد يشتعل ليلاً من الطيونة وعين الرمانة وصولاً إلى الكحالة.
هذا أمنياً، أما سياسياً، فهناك سؤال كبير يُطرح وهو: هل دخلت البلاد في مرحلة مواجهة مسيحية شاملة مع سلاح «حزب الله» ونفوذه؟
من يراقب مسار الأمور يعرف أنّ الصدام بدأ منذ 2005، وكان وطنياً تحت لواء تحالف 14 آذار، وقادت الطائفة السنّية في تلك المرحلة المواجهة، لكنّ 7 أيار كان كفيلاً ببسط «حزب الله» سلطته، وحُكمت البلاد بما سمّاه حينها الرئيس سعد الحريري سياسة «ربط نزاع» مع «الحزب».
وبالنسبة إلى النائب السابق وليد جنبلاط، فقد كان هو الآخر رأس حربة في المواجهة، لكن 7 أيار بدّلت توجّهاته، وصار يبحث عن تهدئة من هنا وحماية من هناك، وكان لافتاً الغياب التام لنائب «اللقاء الديموقراطي» عن عاليه أكرم شهيب وكوادر الإشتراكي، وكأنّ الإشكال لا يحصل في منطقة هي من أهم معاقل الحزب. وحده النائب التغييري مارك ضو حضر من الجانب الدرزي، ووقف مع أهله في الكحالة، بقوة وصلابة وحكمة ودراية ووعي تام، ومنح المواجهة البُعد الوطني بين مشروع الدولة و»الدويلة».
بين 2005 و2009 كان حزب «القوات اللبنانية» في صلب المواجهة، لكن بعد الغياب الطوعي للرئيس الحريري عن لبنان، وقبل ذلك إسقاط حكومته عام 2011 والاستدارة الجنبلاطية، صار رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع رأس الحربة ضد مشروع «حزب الله».
ورغم سطوع نجم «القوات» في التصدّي لمشروع «حزب الله»، إلّا أنّ المعركة انحصرت في السياسة ولم تأخذ أبعاداً أمنية سوى عبر إشكالات طالبية بسيطة كانت تحصل على خلفية انتخابات جامعة اليسوعية في الأشرفية.
ونتيجة التطوّرات الحاصلة، والغياب السنّي واختراق «الحزب» الساحة السنّية والحياد الجنبلاطي، برزت تطوّرات على الساحة المسيحية بعد انفجار مرفأ بيروت، وباتت المواجهة بالمباشر بين «القوات» و»حزب الله».
وقد انفجر الصراع على الأرض في 14 تشرين الأول 2021 بعد أحداث عين الرمانة وسقوط 7 قتلى لـ»الحزب» وحركة «أمل»، في حين وُجّهت أصابع الاتهام في جريمة اغتيال المسؤول القواتي الياس الحصروني إلى جهات منظّمة في الجنوب، بحسب ما كشفت كاميرات التحقيق، وأتت حادثة كوع الكحالة لتفجّر الوضع ويضع «حزب الله» في ظهره كلّ المسيحيين وليس فقط «القوات» و»الكتائب» والأحزاب الحليفة.
ويُشكّل بيان «حزب الله» بعد حادثة الكحالة اعترافاً مباشراً بأنّ المواجهة لم تعد محصورة مع «القوات»، بل مع الأحزاب والقوى المسيحية جميعها، وإن كانت «القوات» في الطليعة، فالبيان تحدّث عن تعرّض شبابه لهجوم من ميليشيات موجودة في الكحالة ولم يتحدّث حسب تعبيره عن ميليشيا واحدة.
وتأتي حادثة الكحالة بعد موجة توتّر شهدتها علاقة «الحزب» بـ»التيار الوطني الحرّ» على خلفية محاولته فرض ترشيح رئيس تيار «المرده» سليمان فرنجية على المسيحيين، وبالتالي حتى لو عاد «التيار» إلى حضن «الحزب»، فالجوّ المسيحي صار معبّأ ضدّ سياسات «الحزب» واستقوائه وضربه الدولة على حساب «دويلته». والواضح هو صعوبة عودة العلاقة بين «التيار» و»الحزب»، كما كانت سابقاً، وبيان النائب جبران باسيل واضح بالأمس من فقدان «المقاومة» الغطاء الوطني وحصره بالبيئة الشيعية فقط.
وتبقى العين الأمنية مركّزة على نقاط الاحتكاك المباشرة التي قد تندلع فيها الأحداث في أي لحظة، بينما يعلم «حزب الله» أن مواجهته مع «القوات» والمسيحيين ليست بنزهة أو شبيهة للمواجهة مع «الإشتراكي» و»المستقبل»، فهي مكلفة على الأرض وسياسياً أيضاً لأنها تمحو الصورة التي حاول «الحزب» ترميمها من حرصه على المسيحيين وقتاله «داعش» لمنعه من الوصول إلى جونية، وإذ بالمكوّن المسيحي يتفاجأ بوصول «الحزب» وليس «داعش» إلى كوع الكحالة وإسقاطه شهيداً من أهالي البلدة هو فادي بجّاني وتوحّد المسيحيين جميعاً من كل الأطياف بوجهه في سابقة لم تحصل منذ 2005.