مشكلة «حزب الله» ليست مع رئيس الجمهورية أو مع قائد الجيش تحديداً. إنّها مع رئاسة الجمهورية ومع قيادة الجيش. «الحزب» بحكم تكوينه وعقيدته لم يُخلَق ليكون حزباً عادياً كباقي الأحزاب السياسية في الدولة. إنّه حزب كما أعلن أمينه العام، وكما هي عقيدته، جزء من أمّة الإسلام وولاية الفقيه التي تبدأ في إيران ولا تنتهي في لبنان، ولبنان ليس إلا جزءاً من هذه الأمة التي قادها الإمام آية الله الخميني ويقودها اليوم بعد وفاته خليفته السيد علي الخامنئي. لا يستطيع «الحزب» أن يخرج من هذه العباءة التي وُلِد فيها وعاش فيها، ولا يمكنه أن يتبدّل أو يتغيّر.
وهو كما أعلن أمينه العام السيد حسن نصرالله يعمل على أن يطبّق عقيدته في لبنان، وإن كانت الظروف اليوم لا تسمح بذلك، فإنّه لا يمكن أن يتوانى عن تطبيقها من خلال حمل المكونات الأخرى على القبول بها. يترواح هذا القبول بين الفرض بالقوة، وبين استخدام هذه القوة للإقناع، بحيث يتفوّق في قوته على باقي القوى التي يعتبر أنّها سترضخ في النهاية. ومن هنا تتفاوت طريقة مواجهة عقيدة «الحزب» واستراتيجيته بين هذه المكونات التي تنخرط في مشروع الحزب راضية ومؤيدة، وبين تلك التي ترفض وتستمرّ بالمواجهة والرفض.
احتلال ثكنة الشيخ عبدالله
بطبيعة الحال ومنذ انطلاقته في العام 1982، وإعلان وثيقته السياسية في العام 1985، كان «الحزب» واضحاً ومباشراً في الإعلان عمّن يعتبر أنّهم من أعدائه ومعرقلي تحقيق هدفه في لبنان، ومن كان يحصر تسميتهم بـ»المارونية السياسية» مستهدفاً مباشرة رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش. وإن كانت طبيعة هاتين المؤسّستين قد تبدّلت فإنّ نظرة «الحزب» لم تتبدّل. هو يريد أن يحتويهما وأن يضعهما تحت إمرته أن لم يكن يستطيع أن يبدل في هويتهما.
من هذا المعبر يمكن الدخول إلى علاقة قيادة الجيش الحالية مع «حزب الله». وبطبيعة الحال ليس العماد جوزاف عون نسخة ثانية عن العماد إميل لحود حتى يقبل به «الحزب» على العمياني.
منذ انطلق «حزب الله» وضع الجيش اللبناني هدفاً ثابتاً. تجربته العسكرية والأمنية الأولى تمثّلت باحتلال ثكنة الشيخ عبدالله في البقاع. وقد أتبع هذه الخطوة بعمليات اغتيال طالت عدداً من ضباط الجيش. في تلك المرحلة يمكن وضع تلك المحاولة في إطار اعتبار «الحزب» للجيش بأنّه إحدى أدوات المارونية السياسية ورئاسة الجمهورية التي كانت تمتلك قوة الحضور والموقف، وكان «الحزب» لا يزال في بداية تطبيق هذه الإستراتجية المستمرة منذ أربعين عاماً. والعودة إلى خطاب «الحزب» السياسي وبياناته في تلك المرحلة، وخصوصاً في مرحلة حرب التحرير وقيادة العماد ميشال عون، تكشف السقف المتشدّد والعدائية ضدّه قبل أن ينقلب هذا العداء إلى تفاهم وقّعه السيد حسن نصرالله مع عون في كنيسة مار مخايل في 6 شباط 2006، حين كان الحزب يبحث عن علاقة تبعد عنه خطر الإئتلاف اللبناني الواسع ضدّه بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005.
حكي كثيراً عن عمق هذا التفاهم ولكنّه في النتيجة تفاهم بقي تحت رقابة «الحزب» المباشرة. قبل انتخابات العام 2005، لم يكن «الحزب» قادراً على التفاهم مع عون الذي كان يهاجمه قبل أعوام ويخوِّنه ويضعه في المرتبة نفسها مع «القوات اللبنانية»، على رغم الإتفاق الذي حصل بين عون وبين النظام السوري قبل عودته إلى لبنان. وعندما حصد عون مع قوى 14 آذار الغالبية الساحقة في مجلس النواب، ارتبك «حزب الله» المطوّق بالتحقيق الدولي في جريمة اغتيال الحريري، لأنّه وجد نفسه محاصراً بقوة سياسية كبيرة بعد انسحاب جيش النظام السوري من لبنان، ولم يكن أمامه إلّا القبول بالعلاقة المستجدة مع عون الباحث عن أي مساندة تدعمه في الوصول إلى قصر بعبدا. في أيار 2008 لم تكن ساعة عون الرئاسية قد أتت في توقيت نصرالله الذي ارتضى القبول بقائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. ولكن التجربة مع سليمان انتهت إلى غير ما كان يأمله «الحزب». الرئيس الذي لم يدخل في مواجهة مباشرة مع «الحزب»، لا خلال قيادته للجيش، ولا خلال رئاسته، لم يكن يستطيع أن يقبل بسيطرة «الحزب» على الدولة. ولذلك أراد أن يرسم خطوط فصل بين الشرعية وبين «الحزب» وأعلن قبل نهاية عهده سقوط ثلاثية «الحزب» الخشبية «جيش وشعب ومقاومة».
لم يعطل «الحزب» انتخابات رئاسة الجمهورية بعد 25 أيار 2014 من أجل العماد ميشال عون. لا يثق «الحزب» بأي رئيس حتى لو كان ممّن يعتبر أنّهم من حلفائه. ثقة «الحزب» لا تتعلّق بالأشخاص فقط بل بالتركيبة السياسية كلّها على عكس ما أعلنه السيد حسن نصرالله حول ثقته بشخص مرشحه رئيس «تيار المرده» سليمان فرنجية. فالثقة بالشخص وحدها لا تكفي وليست الضمانة. لذلك صار انتخاب عون أمراً واقعاً بعد تفاهمه مع «القوات اللبنانية» ثم بعد تأييد رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري لهذا الترشيح. ولكن على رغم انتخاب عون لم يعمل «الحزب» على تركه حرّاً في رئاسته. بعد انتهاء عهد عون اكتشف مع صهره جبران باسيل أنّ «الحزب» كان المعرقل الأساسي للعهد، وأنّ الرئيس نبيه برّي كان في الواجهة، وأنه لو أراد «الحزب» للعهد أن ينجح لكان مان على برّي وغيره، ولما كان فضّل ثنائيته الشيعية على تفاهم مار مخايل. ولذلك لم يتعهّد «الحزب» لعون ولباسيل بمساعدة الأخير على الوصول إلى قصر بعبدا. بالنسبة إليه كانت رئاسة عون تجربة وانتهت.
عرضان عسكريان من القصير إلى الريحان
في بداية عهد عون كانت الإشارة الأولى التي أرسلها «الحزب» إليه في العرض العسكري الذي أقامه في بلدة القصير في القلمون السوري، بينما كان عون يحيي احتفال عيد الإستقلال في لبنان في 22 تشرين الثاني 2016، أي قبل أقل من شهر على رئاسته. يومها لفت أحد مساعدي عون نظره إلى خطورة هذه المسألة ولكنّه طلب عدم إبرازها وتسليط الأضواء عليها.
لم ينتظر «حزب الله» أن يصل العماد جوزاف عون إلى قصر بعبدا حتى ينظّم له عرضاً عسكرياً خاصاً. صحيح أنّ هناك تسريبات حول لقاءات تعقد دورياً وكلّما دعت الحاجة بين قائد الجيش ورئيس وحدة الإرتباط والتنسيق والأمن في «حزب الله» الحاج وفيق صفا، وصحيح أنّ هذه اللقاءات تبحث في طبيعة العلاقة بين الجيش و»الحزب» تجنّباً لحصول إيّ إشكال ولحلّ الإشكالات التي يمكن أن تحصل بين الجيش وبعض من هم من بيئة «الحزب»، وصحيح أنّ قائد الجيش التقى رئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد في مناسبة اجتماعية، ولكن في العلاقة بين الجيش و»الحزب» يمكن الذهاب إلى الرسائل التي يوجّهها «الحزب» من على أرض الواقع.
ليس معروفاً مثلاً عن النائب رعد ولعه بتلبية الواجبات الإجتماعية وعيادة بعض من خضعوا لعمليات جراحية، ولذلك يمكن وضع لقائه مع العماد جوزاف عون في خانة ضرورات المرحلة ورفع سقف التداول من الأمن إلى السياسة. ولكن وإن كان هذا اللقاء أعطي الكثير من التفسيرات حول التطرّق خلاله إلى موضوع رئاسة الجمهورية وإمكان قبول «الحزب» بقائد الجيش، إلا أن إتباع هذا اللقاء بزيارة رعد إلى مرشح «الحزب» سليمان فرنجية في بنشعي والتأكيد له أنّه لا يزال المرشح النهائي والوحيد المختار وأن لا خروج على هذا الخيار، يعني أنّ رسائل «الحزب» غير السياسية هي التي يمكن الأخذ بها. لذلك ما معنى توقيت العرض العسكري المصوّر والمنقول مباشرة على الهواء الذي أجراه «الحزب» في منطقة الريحان؟ وما معنى كشفه عن المعرض العسكري الذي عرض فيه آليات عسكرية في البقاع؟ وما معنى الكشف عن امتلاكه قواعد صورايخ موجهة؟ وما معنى إنشاء مطار عسكري في منطقة الريحان أيضاً؟
الأمثلة كثيرة عن الأمور التي يعلن «الحزب» أنّه لا يمكن أن يعطيها ولا يمكن للجيش أن يأخذها، وعن أنّ المسألة لا تتعلّق حصراً بالعماد جوزاف عون. على عهد العماد إميل لحود حصلت مواجهة جسر المطار في 13 ايلول 1993 التي عمل «الحزب» على احتوائها وتحميل مسؤوليتها للقرار السياسي في حكومة الرئيس رفيق الحريري وقتها. وعلى عهد العماد ميشال سليمان حصلت المواجهة عند كنيسة مار مخايل في مطلع العام 2008، وقد عمل سليمان مع «الحزب» على احتوائها من خلال لقاء بين سليمان ونصرالله. وعلى عهد عون حصلت المواجهة في الطيونة في 14 تشرين الأول 2021، وأيضاً تم تجاوز هذا القطوع بالتفاهم على خلفية عدم قدرة أي من الطرفين «الحزب» والجيش على تحمّل كلفة الخلاف وتكبيره.
فعلاقتهما تحكمها استحالتان: لا يستطيع» الحزب» تحمل أي مواجهة ولو محدودة مع الجيش. ولا يملك الجيش قرار الدخول في مواجهة مع «الحزب» مع أنّه يراعيه في مسائل كثيرة ويتشدّد في غيرها. لذلك يستحيل أن يكون جوزاف عون سليمان فرنجية أو إميل لحود رقم 2. ويستحيل أن يقبل «الحزب» بغير فرنجية أو الفراغ، ولا ينظر فقط إلى شخص القائد بل إلى المؤسسة وقيادتها في اليرزة وإلى رئاسة الجمهورية ومقرّها في قصر بعبدا. القيادة والرئاسة رمزان يمثّلان هوية الدولة التي يسعى «الحزب» لجعلها من ضمن هويته وعقيدته.