لم يَهْنأ لبنان بـ «التقاط الأنفاس» الذي ساد المنطقةَ مع طيّ مرحلةِ المواجهة من «دولةٍ إلى دولةٍ» بين إسرائيل وإيران عبر الردِّ «التنكّري» أو «الشبَحي» أو «المتخفّي» الذي نفّذتْه تل أبيب في اصفهان وأتاح لطهران «إنكاره»، وتالياً اعتبار أن لا حاجة لتغيير «النقطة في آخِر السطر» التي وضعتْها في 14 أبريل مع «الانتقام» لضربةِ القنصلية في دمشق، ولا لكسْر المعادلة الجديدة التي ارتسمتْ تباعاً وتَبادَل معها الطرفان دور «الخائف» و«المخيف» بميزانٍ أدارتْه واشنطن على طريقة «الجواهرجي» وخرج معه اللاعبون الثلاثة كلٌّ بنقاطٍ وانتصاراتٍ يمكنه التباهي بـ «أبوّتها» منفرداً أو بشراكةٍ مع آخَرين.
وفي حين كانت التحرياتُ على أشدّها في وسائل الإعلام العالمية في محاولةٍ لـ «فك شيفرة» الهجوم على أصفهان، وسط خلاصاتٍ لم تهدأ لـ «جرعةِ» الردّ الإسرائيلي الذي بقيَ «لقيطاً» ومَغازيه التي لابد أن طهران فهمتْها كما لأبعاد تجرُّع إيران هذا الاستهداف الذي جاء على حافة برنامجها النووي، انتقلتْ العدساتُ سريعاً إلى جبهة الجنوب التي ارتفعتْ سخونتُها بالتوازي مع زيادة تل أبيب خشونتها في الساحة السورية على ما عبّر عنه استهداف الدفاعات الجوية السورية جنوب البلاد، من دون إغفال الانفجار الغامض في مركز قيادة بمعسكر «كالسو» في بابل (العراق) التابع لـ «الحشد الشعبي».
ومردّ تحوُّل «الرادارات» إلى الحدود اللبنانية – الإسرائيلية الخشية التي لم تسترِح من أن يكون انتظامُ تل أبيب تحت سقف «الردّ المحدود» على الضربة الإيرانية هو في سياق سلّة تفاهماتٍ تلقّى بنيامين نتنياهو مقابلها «شيكاً قابلاً للصرف» بدءاً من رفح، وليس انتهاءً بتوسيع حزام العقوبات على البرامج التسلحية لإيران (البالستي والمسيّرات) والتصدي لمخاطر «النووي» التي باتت أكثر إلحاحاً من أي وقت، مروراً بحريةٍ أكبر في «التصرّف» مع وكلاء إيران وأذرعها في مختلف ساحات نفوذها بما في ذلك «حزب الله» الذي يخوض حرب المشاغَلة عبر جبهة الجنوب بضوابط ذاتية موصولة بمقتضياتٍ استراتيجية لطهران.
«الخط الأحمر»
ورغم التوحّش الإسرائيلي المستعاد تجاه بلدات لبنانية وردّ «حزب الله» بعملياتٍ استهدفت مواقع «للمرة الأولى» مثل جبل عداثر أمس، فإن أوساطاً مطلعة لم تَخرج حتى الساعة من تقويمها بأنّ «الخط الأحمر» الذي رسمتْه واشنطن لتل أبيب بإزاء أي تفجير لحرب كبرى انطلاقاً من ردٍّ غير قابل للاحتواء والابتلاع من طهران يَسْري بالدرجة نفسها على جبهة الجنوب، في الوقت الذي لا يتوهّم أحد أن «حزب الله» بوارد الخروج عن معادلة «الرد التناسبي والتماثلي» على كل توسيعٍ لقواعد الاشتباك المتحرّكة بشكل كبير أو عن السقف الإيراني الذي كرّسته إشاحة النظر عن «الردّ الإسرائيلي بكاتمِ صوت».
وفي تقدير هذه الأوساط أن نتنياهو، الذي يمكن أن يجنحَ نحو «رَفْعِ الحرارة» أكثر تحت الجبهة اللبنانية لمحاولةِ تعويض «الردع الممنوع من الاسترداد» مع إيران في شكل صريح (تجنباً لحرب شاملة) كما لإبقاء هذه الجبهة على أعلى جاهزية – بالنار – للالتحاق بمسارِ «اليوم التالي» في غزة والذي بات مسلَّماً بوجود «تتمة» له لبنانياً، ليس طليق اليديْن بالتورط بصِدام كبير مع «حزب الله» في ضوء غياب الغطاء الأميركي لضربة قاصمة للبنان، كما بعد ما ظهّره 14 أبريل من حاجةِ إسرائيل لـ «أجنحة دَعْمِ جوي» متعدّد الجنسية قد يتشظّى تحت كثافة صواريخ ومسيّرات الحزب.
ولا تُسْقِطُ هذه القراءة نياتِ إسرائيل، بتوقيتٍ قد تراه ملائماً، لجرّ جبهة لبنان لـ «أيام قتالية» محدّدة الزمان تَستدرج على الحامي تطبيقَ خريطة الطريق التي تريدها وأودعتْها بأكثر من «خط»، ولكن بمضمونٍ متشابه، لدى واشنطن وباريس لواقعٍ في الجنوب يوفّر «لمرة واحدة ونهائية» طمأنينة لمستوطني الشمال لعودةٍ مستدامة، وسط خشيةٍ من أن تَستجرّ حتى المواجهات بحدودها الحالية، بحال طالت، أخطاء بالحساب تكون أقرب للدوس على «زر التفجير»، على ما شكّلته ضربة القنصلية التي عكستْ إفراطاً من نتنياهو في الاعتقاد أن بإمكانه الإمعان باستغلال التزام طهران لواشنطن بعدم الرغبة في خوض غمار مواجهة كبرى.
«قارب نجاة»!
ولعلّ هذه الخشية هي التي تفسّر معاودةَ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الإمساكَ «بيده» بمحاولاتِ باريس توفير «قارب نجاة» للبنان من غرقٍ مميت في بحر الدم والدمار في غزة، في موازاة المساعي المستمرة لإنجاز الانتخابات الرئاسية وتعطيل صواعق ملف النزوح السوري الذي ينذر بتوتيرٍ متعدد البُعد في الداخل اللبناني، وهو ما عبّر عنه استقباله الجمعة كلاً من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وقائد الجيش العماد جوزف عون حيث تناول البحث مختلف جوانب الواقع اللبناني ومَخاطره العالية وكيفية تثمير الورقة الفرنسية التي كانت أودعت بيروت وترتكز على ترتيبات أمنية – عسكرية وتقوم على فصل جبهة لبنان عن غزة.
وفي موازاة ما أُعلن عن أن باريس أبلغتْ الى ميقاتي إدخال تعديلات على الورقة الفرنسية، التي تتمحور حول تنفيذ القرار 1701 على 3 مراحل ولم تلقَ تجاوباً من «حزب الله»، وأن ثمة حاجةً للبنان لتهدئة جبهة الجنوب، فإنّ الأوساط المطلعة ترى أن مَخرج الطوارئ لهذه الجبهة إذا قُيَّض له أن يرتسم بعد حرب غزة فسيكون أقرب إلى ما حمله الموفد الأميركي آموس هوكشتاين (التقى اخيراً الموفد الفرنسي جان – إيف لودريان) من طرحٍ يتمحور حول «سلّةٍ متكاملةٍ»من ضمن مسار متدرّج يُراد أن يُفْضي إلى استقرار أمني وسياسي واقتصادي في لبنان.
ويتضمّن مقترح هوكشتاين الذي يَنتظر لدفْعه هدنةَ في غزة أو انتهاء الحرب، «تنويمَ» عناوين عريضة مثل تطبيق الـ1701 بحذافيره وإبعاد حزب الله عن جنوب الليطاني، عبر تعويم أفكار بديلة من ضمن حل ممرحل يشتمل على تعزيز حضور الجيش اللبناني وقوة اليونيفيل في الجنوب وعلى الحدود، وبتّ نقاط الخلاف البرية على الخط الأزرق، وترْك مسألة مزارع شبعا، فيكون الطرفان أمام ما هو أكثر من «تفاهم ابريل 1996» جديد (تحييد المدنيين) وأقلّ من صفقة دائمة أو قرار أممي جديد.
وكان الرئيس الفرنسي أكد لميقاتي على امتداد 3 ساعات من لقائهما (حضر قائد الجيش جانباً منه) «التزام باريس بذْل كل ما في وسعها لتجنب تصاعد أعمال العنف بين لبنان وإسرائيل»، وعزمها «على مواصلة تقديم الدعم الضروري للقوات المسلحة اللبنانية».
وأشارت الرئاسة الفرنسية إلى ان «ماكرون يواصل التحرك من أجل استقرار لبنان بحيث تتم حمايته من الأخطار المتصلة بتصعيد التوترات في الشرق الاوسط. وفي هذا السياق، ذكّر بالالتزام الفرنسي في إطار قوة اليونيفيل وشدد على مسؤولية الجميع حيالها لتتمكن من ممارسة مسؤولياتها في شكل كامل».
وإذ أورد البيان ايضاً أن «فرنسا ستتحرك في هذا الاتجاه مع جميع مَن هم مستعدون للمشاركة في شكل أكبر، خصوصاً شركاءها الأوروبيين، وفق ما توصل اليه المجلس الأوروبي الطارئ» الذي انعقد الاربعاء والخميس في بروكسيل، برز إعلان أن ماكرون تشاور هاتفياً مع رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، وكرر دعوته «المسؤولين السياسيين الى ايجاد حل للأزمة المؤسساتية التي تضعف لبنان».
ضربات متبادلة
في موازاة ذلك، اشتعل الميدان جنوباً، مع تسجيل سقوط 3 عناصر من «حزب الله» وإصابة اثنين آخَرين بعد الظهر في غارة إسرائيلية استهدفت منزلاً في بلدة الجبين. كما أغارت مسيَّرة على عيتا الشعب، بالتوازي مع استهداف الطيران الحربي منزلاً في كفركلا وسط تقارير عن وجود إصابة.
وأعلن الجيش الإسرائيلي أنّه «خلال اليوم رصدت القوات الإسرائيلية شخصاً يدخل إلى مبنى عسكري لحزب الله في منطقة عيتا الشعب حيث قامت طائرات سلاح الجوّ بالإغارة على المبنى والشخص الذي تواجد داخله»، لافتاً أيضاً الى أنّ «طائرات سلاح الجو أغارت على شخص تواجد داخل بنية عسكرية لـ(حزب الله)في كفركلا».
من جهته، أعلن الحزب تنفيذ سلسلة عمليات ضد تجمعات ومواقع عسكرية إسرائيلية بدءاً من موقع حدب يارين، و«انتشاراً لجنود العدو في جبل عداثر بالأسلحة الصاروخية»، وآخَر شرق مستعمرة «إيفن مناحم»، وصولاً الى «التجهيزات التجسسية في موقع الراهب».