في اعتقاد الحريري أن الأفضل له في هذه الظروف البقاء بعيداً عن الوحول اللبنانية والأزمات المتفاقمة خصوصاً أن لا قدرة له في التأثير فيها ولا استنباط حلول لا على مستوى الأزمة الرئاسية ولا على مستوى الأزمة الاقتصادية والمالية. فهو لا يترأس حالياً كتلة نيابية وازنة كما كانت حاله بعد انتخابات 2005 وانتخابات 2009 وحتى لو قرّر خوض انتخابات 2022 لما كان في استطاعته في أحسن الأحوال أن يأتي بكتلة يزيد عددها عن 15 نائباً في ظل قانون الانتخاب النسبي وفي ظل وهج ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر وفي ظل ما اعترى علاقته بحلفائه الطبيعيين وعلى رأسهم القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي، ولم يكن طبيعياً للحريري بعد كل التوتر الشديد بينه وبين رئيس الجمهورية السابق ميشال عون وصهره النائب جبران باسيل أن يتحالف لا مع التيار الوطني الحر ولا مع الثنائي الشيعي.
لذلك يفضّل الحريري البقاء مبتعداً عن المشهد السياسي في هذه الفترة إلى أن يحين الوقت، وهذا الوقت هو استحقاق الانتخابات النيابية في عام 2026 معوّلاً على تكرار تجربة والده الرئيس رفيق الحريري الذي بعد إقصائه عن الحكومة بعد انتخاب الرئيس إميل لحود انتظر انتخابات عام 2000 وعاد بأكثرية نيابية ليفرض نفسه على العهد السابق وليعود إلى رئاسة الحكومة من موقع القوة قبل أن يبدأ النظام الأمني اللبناني السوري بالتضييق عليه وينتهي الأمر باغتياله على يد كوادر في حزب الله وفقاً لأعلى حكم صادر عن المحكمة الدولية.
وفي انتظار عودة سعد الحريري إلى ممارسة العمل السياسي، اغتنم اللحظة الشعبية في 14 شباط ليبعث برسائل في أكثر من اتجاه ولاسيما إلى المملكة العربية السعودية. وهو في المقابلة الحصرية التي أجراها مع قناة “العربية” أرسل عدداً من الإشارات إلى الرياض، فأكد أولاً على قراره الابتعاد عن الحياة السياسية الآن وهو ما يتماشى مع رغبة سعودية في مكان ما علماً أن الحريري أوضح أن كل ما يُكتب حول علاقته بالسعودية غير دقيق، وتحدث ثانياً عن ربط نزاع مع حزب الله. وهنا تباينت الآراء حول هذا الربط فمنهم من قرأ فيه رسالة دافئة إلى حزب الله من خلال قوله إن لا الحزب ولا إيران يريدان الحرب مع إسرائيل ومنهم من قرأ فيه رسالة غير دافئة من خلال قوله إن “من اغتالوا رفيق الحريري بدأوا دفع الثمن” مضيفاً “بشّر القاتل بالقتل ولو بعد حين” غامزاً من قناة المتهمين بجريمة اغتيال والده الذين سقطوا سواء في سوريا أو في غيرها من الحروب.
وفي الخلاصات التي طبعت زيارة الحريري لأيام في بيروت خلافاً لزياراته السابقة التي دامت 72 ساعة فقط، أنه بادر أولاً على الفور لزيارة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وكأنه يريد تأكيد دعمه لتوجهات ميقاتي في أداء مسؤولياته في غياب رئيس الجمهورية ولمواجهته التيار الوطني الحر برئاسة النائب جبران باسيل. وقد حرص ميقاتي على تنظيم استقبال رسمي وتشريفات للحريري في السرايا الحكومية واعتباره السرايا بيته.
ثاني المشاهد استقبال الحريري رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية على مأدبة عشاء في بيت الوسط والإعلان أن فرنجية هو صديقه وهو يحفظ الصداقة. ومن المعلوم أن نواب فرنجية دأبوا على تسمية الحريري لرئاسة الحكومة في الفترة الأخيرة خلافاً لامتناع نواب القوات اللبنانية عن تسمية أحد. وكان الحريري أول من رشّح فرنجية لرئاسة الجمهورية قبل أن يؤيد في وقت لاحق العماد ميشال عون بعد توقيع اتفاق معراب. ويعتقد البعض أن الحريري لو كانت لديه كتلة نيابية حالياً لربما كان عقد تسوية رئاسية جديدة ومشى بفرنجية ورفع رصيده من 51 نائباً مقابل 59 للوزير السابق جهاد أزعور إلى 65 نائباً. واللافت أن الحريري في لقاءاته مع بعض الكتل النيابية أو مع بعض الاعلاميين قال “من يريد رئيس جمهورية يجب عليه أن يضحّي ويقدم للبلد لأن تمسك الاطراف كل بموقفه لن يؤدي إلى انتخاب رئيس”. ولم يوضح الحريري مقصده وهل يتوجّه فقط إلى الكتل المسيحية التي لا تنفك تطالب بانتخاب رئيس أم يشمل معها الثنائي الشيعي الذي يتمسك بمرشحه.
ثالث المشاهد هو اقتصار حضور الحزب التقدمي الاشتراكي إلى ضريح الحريري من دون بيت الوسط إذ شوهد جنبلاط الأب والابن مع عدد من نواب “اللقاء الديمقراطي” يضعون وروداً على الضريح ويغادرون تعبيراً عن برودة في العلاقة مع سعد الحريري بعد بيانات “تيار المستقبل” التي انتقدت “المرجعية السياسية” لوزير التربية عباس الحلبي في قضية أمل شعبان التي يعتبر “تيار المستقبل” أنها ظُلمت بقرار اداري سياسي لوزير التربية.
رابع المشاهد هو مشهد نواب القوات اللبنانية التي تحرص على إعادة الحرارة إلى العلاقة مع سعد الحريري رغم كل المناوشات و”التلطيشات” التي أطلقها ويطلقها مقربون يدورون في فلك بيت الوسط عن طعن قواتي للحريري، فقامت القوات للسنة الثانية على التوالي بزيارة الضريح وبيت الوسط متجاوزة كل الاعتبارات وخصوصاً تحالف الحريري مع جبران باسيل في انتخابات 2018 وإعطاؤه الصوت التفضيلي في البترون وتنسيقه الدائم مع الخليلين أي المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين الخليل والمعاون السياسي للرئيس نبيه بري علي حسن خليل بهدف إبقائه داخل المنظومة السياسية.
خامس المشاهد هو زيارة عضو “تكتل لبنان القوي” النائب آلان عون للسنة الثانية على التوالي ايضاً بعد توجيهه رسالة إيجابية للحريري في جلسة مناقشة الموازنة عبّر فيه عن الافتقاد له في هذه الأيام رغم الاختلاف معه في السياسة. وإذا كان آلان عون ومن خلفه نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب يصوّبان بكلامهما المعسول للحريري على ميقاتي إلا أنهما في الوقت ذاته يحرصان على التعبير عن تمايز في الأداء عن رئيس التيار الوطني الحر وعن عدم رضى عما آلت إليه العلاقة بين عهد عون والحريري بسبب سياسات باسيل.
سادس المشاهد وآخرها هو الحفاوة التي استقبل بها رئيس مجلس النواب نبيه بري ضيفه الحريري في عين التينة وما عبّرت عنه الصور من علامات بهجة خصوصاً أن الرئيس بري كان من أول المرحبين بعودة الحريري بعدما اعتبر أنه الفائز الأكبر في انتخابات لم يخضها. وليست العلاقة الجيدة التي تربط بين بري والحريري بجديدة بل تعود إلى الحريري الأب وإلى مرحلة الترويكا مع الرئيس الياس الهراوي ولم تتخللها عثرات باستثناء اضطرار الرئيس بري لمسايرة لحزب الله وإقفال أبواب المجلس النيابي أمام إقرار المحكمة الدولية وتقديم وزيريه استقالتهما من حكومة الحريري عام 2011.
انطلاقاً من كل ما تقدم، يتبيّن أن الساحة السنية تفتقد إلى زعامة تجمع الشرعيتين الشعبية والسياسية معاً كتلك التي يجمعها في شخصه الرئيس رفيق الحريري، وقد عبّرت الحشود في ذكرى 14 شباط أن بيت الحريري ما زال يحتفظ بالأغلبية في الشارع السني. وعلى الرغم من كل المشاهد التي رافقت الذكرى وبينها لقاءات الحريري بسفراء الولايات المتحدة الأمريكية ومصر وفرنسا للتعارف، إلا أن السؤال الأبرز يبقى متى تدق ساعة زيارة السفير السعودي إلى بيت الوسط؟ وهل كل من عبّر عن اشتياقه للحريري صادق في دعوته أم تغلب على دعوته التزلف والاشتياق إلى منافع السلطة واسترجاع التسويات؟