رغم تصحيح وتصويب المبعوث الأميركي توم براك لتصريحاته بشأن ما وصفه بـ «الخطر الوجودي على لبنان»، وإشارته إلى احتمال عودة البلاد إلى ما أسماه «بلاد الشام»، في حال لم تتحرك الحكومة اللبنانية لمواكبة «المتغيرات في المنطقة»، لا يزال لبنان منشغلاً بمفاعيل هذا التهويل الأميركي، خصوصاً أنه جاء في أعقاب تقارير إسرائيلية عن مشروع مزعوم لمبادلة الجولان السوري بمدينة طرابلس شمال لبنان، وتصعيد سوري سياسي وإعلامي تجاه بيروت، على خلفية ملف الموقوفين السوريين، بالتزامن مع تكرار واشنطن دعوتها للبنان للاعتراف بأن مزارع شبعا المحتلة هي أراضٍ سورية.
وفي ظل صمت رسمي لبناني تجاه تصريحات برّاك، التي يشغل أيضاً منصب سفير الرئيس الأميركي دونالد ترامب لدى تركيا، استغل معلّقون ومراقبون مقربون من «حزب الله» هذه التصريحات للدفاع عن تمسُّك الحزب بسلاحه، بذريعة حماية الحدود اللبنانية، لا سيما الشرقية والشمالية مع سورية، التي تمتد لأكثر من 400 كيلومتر. واستشهد هؤلاء بالدور الذي أداه «حزب الله» إلى جانب الجيش اللبناني في «حرب الجرود» بين عامي 2014 و2017، ضد تنظيمات مسلحة سورية متطرفة كانت متمركزة في الجرود الحدودية، لاسيما في جرود عرسال ورأس بعلبك والبقاع، وهي المعركة التي بلغت ذروتها في صيف 2017، وأسفرت عن إنهاء وجود هذه الجماعات في المنطقة.
وفي وقت سارع المؤيدون لنزع سلاح «حزب الله» إلى اعتبار تصريحات برّاك دعوة للحكومة والسلطة لحسم ملف حصر السلاح بسرعة ومن دون تلكؤ، فإن شرائح واسعة من الرأي العام اللبناني رفضت التهديد الأميركي، وطالبت بموقف رسمي مندد. وأعادت التطورات الإقليمية الأخيرة التذكير بالحساسيات اللبنانية العميقة تجاه سورية، إذ لا تزال معظم الفئات اللبنانية، على اختلاف توجهاتها، تنظر بعين الارتياب إلى النوايا السورية، بفعل تاريخ طويل من التدخلات العسكرية والأمنية والسياسية التي بلغت ذروتها في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، حين فرضت دمشق نظام وصاية على لبنان استمر منذ نهاية الحرب الأهلية وحتى عام 2005، تاريخ انسحاب الجيش السوري بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري.
وعلى أثر سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، حاولت دمشق الجديدة، بقيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، طمأنة اللبنانيين، بتأكيده في أول خطاب رسمي له التزامه باحترام السيادة اللبنانية، وعدم تكرار النهج التدخّلي الذي اتبعه حزب البعث لعقود. غير أن واقع العلاقات لم يلبث أن توتر مجدداً، مع تصاعد الخلافات حول ملفات شائكة، بينها قضية الموقوفين السوريين في لبنان. يضاف إلى ذلك، أن العلاقة بين دمشق و»حزب الله» متوترة بطبيعتها، نظراً للدور المحوري الذي أداه الحزب في قتال فصائل المعارضة السورية خلال السنوات الماضية، وهو ما يترك آثاراً سياسية وأمنية مباشرة على العلاقة بين بيروت ودمشق، خصوصاً أن «حزب الله» لا يزال جزءاً أساسياً من الحكومة اللبنانية.
وكان باراك قد تراجع مساء أمس الأول عن تصريحاته التي وردت في صحيفة ذا ناشيونال الإماراتية الناطقة بالإنكليزية جزئياً، قائلا إنها «فُهمت خطأً، ولم تكن تهديداً للبنان»، بل جاءت في سياق الإشادة بـ «الخطوات المثيرة للإعجاب» التي تتخذها دمشق. وشدد على أن «قادة سورية لا يطمحون سوى للتعايش والازدهار المتبادل مع لبنان».
لكن هذا التراجع لم يوقف سيل الجدل والشائعات. واضطرت قيادة الجيش اللبناني إلى إصدار نفي لأنباء جرى تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي حول دخول مسلحين إلى لبنان، وانسحاب الجيش من مناطق حدودية في البقاع، أي من ناحية سورية. وأكدت القيادة أن «الوحدات العسكرية المعنية تواصل تنفيذ مهماتها الاعتيادية لضبط الحدود اللبنانية السورية، في موازاة متابعة الوضع الأمني في الداخل لمنع أي مساس بالأمن والاستقرار».
والأسبوع الماضي، لوّحت وسائل إعلام سورية، بإجراءات عقابية بحق لبنان على المستوى الاقتصادي «كفرض قيود على حركة الشاحنات اللبنانية العابرة للأراضي السورية»، في حال لم يفرج لبنان عن موقوفين سوريين وعددهم نحو ألفين في السجون اللبنانية. وتقول بيروت إنها تريد التوصل الى معاهدة مع السلطات السورية الانتقالية لـ «تسليم المحكومين السوريين بغير قضايا قتل عسكريين لبنانيين أو قضايا إرهاب»، وبين الموقوفين مقاتلون متشددون سابقون كانوا في صفوف المعارضة، بعضهم متهم بقتل جنود لبنانيين.
وقالت وزارة الداخلية السورية، أمس، إن جهاز الاستخبارات العامة نفّذ عملية أمنية مع قيادة الأمن الداخلي في حمص، أسفرت عن إلقاء القبض على مسلح له صلة بجماعة «حزب الله» اللبنانية.
وأوضحت الوزارة، في بيان، أن المسلح محمود فاضل ضُبط في حوزته عبوات ناسفة، وقالت إنه كان يعتزم تنفيذ «عمليات إرهابية» بالمنطقة. وأضافت: «كشفت التحقيقات الأولية ارتباط الموقوف بخلية تتبع لميليشيا حزب الله اللبناني، حيث تبيّن أنه تسلَّم العبوات عبر معابر التهريب غير الشرعية».