نوال نصر - نداء الوطن
صفعة من اليمين وصفعة من اليسار. تفجير ودمار، غلاء وقحط، قلق واكتئاب، موت وموت بعد الموت... إنه لبنان، سويسرا الشرق، الذي بُنيت أهراءات القمح فيه بقرض تنمية كويتي (1969)، وفُجرت بهبة «لبنانية» (حتى إثبات العكس). تشلّعت الأهراءات وحام حولها الحمام، رأيناه يغط ويطير، مرفرفاً، يتناول بقايا حبوب القمح من الصوامع التي تميل يومياً. فهل تنتظرها «دولتنا» لتقع كما انتظرت الأميانت لينفجر؟ وكم هو صحيح الكلام عن التلوث الذي سيؤدي إليه هدم مبنى الأهراءات؟ ماذا عن الهواء الذي يتنشقه البيارتة؟ وهل الجميزة ومارمخايل في خطر متجدد؟
في 30 تشرين الثاني 2021، أُرسلت برقية الى مدعي عام التمييز جاء فيها: أبلغ الخبير الفرنسي إيمانويل دوران السلطات اللبنانية المختصة ووزارة الإقتصاد والتجارة «بأن صوامع الكتلة الشمالية من مبنى الأهراءات، مالت نحو 7 سنتمترات منذ تموز الماضي، وبالتالي فإنه يتوقع سقوطها نهاية السنة الجارية بسبب العوامل الطبيعية في فصل الشتاء. أرسلت البرقية، في 8 كانون الأول 2021، الى المحقق العدلي القاضي طارق بيطار للإطلاع، فردّ عليها في اليوم نفسه: جانب النيابة العامة التمييزية نعلمكم أنه لم يعد من داع للمحافظة على ما تبقى من مبنى أهراءات القمح بالنظر للمرحلة التي قطعها التحقيق العدلي.
على مهل، «دادي دادي»، فبعد مرور 70 يوماً، عرض وزير العدل الموضوع، في جلسة مجلس الوزراء، في 11 آذار الجاري، موصياً بالهدم إستناداً الى كلام دوران، بأن المبنى يميل 2 ميلمتر يومياً وإذا وقع فستحصل كارثة إنسانية. نقابة المهندسين أرسلت إعتراضها على الهدم وقال وزير الثقافة محمد مرتضى إن رأي النقابة لم يؤخذ به. «السياحة» طلبت تزويدها بنسخة عن التقرير الفني حول ميل الأهراءات. لجنة الإنماء والأعمار أصبح لديها ممثل لدرس تصور الهدم. وزير الإقتصاد أمين سلام قال إن موضوع أهراءات القمح يجب أن يعالج بروية...
هناك خطر حقيقي يُحدق. لكن، كما تعلمون، الدولة لديها ألف همّ وهمّ، ولا يستأهل سقوط ما تبقى من صوامع قمح في مرفأ بيروت، ومعها كم ضحية جديدة، أن تتمهل، أن تقرأ، وأن تأخذ القرار المناسب.
نعود الى مرفأ بيروت. صدى تفجير 4 آب لم يمحَ من ذاكرة الكثيرين. الأشلاء والدمار والوجع الهائل خناجر تخترق قلب القلب. والأهراءات أصرّت ان تبقى شامخة، كرمزٍ أثري، يلتقط الناس أمامها الصور التذكارية. فهل آن أوان وداعها قبل أن تؤدي الى كارثة جديدة؟ الأسوأ في الموضوع أن الكارثة قد تحلّ إذا تُركت الصوامع لحالها، كما إذا سقطت على حالِها! والحلّ بين الخيارين؟ أهالي ضحايا المرفأ يتمنون بقاء الأهراءات ريثما تتّضح كل الحقيقة في الملف الأسود. وذلك بالطبع تقنياً شبه مستحيل والتحقيق قطع المرحلة التي تقتضي بقاءها. والسؤال، أي نوع من المخاطر قد تتسبب به الأهراءات عند سقوطها بفعل الطبيعة أو بإسقاطهاً تقنياً قبل حدوث الكارثة؟ وماذا عن ألياف الإسبستوس التي قد تتطاير في الهواء عندما تنهار الأهراءات؟
رئيس قسم الكيمياء في كلية العلوم في جامعة القديس يوسف، مدير فريق الإنبعاثات والمقاييس ونمذجة الغلاف الجوي EMMA، الدكتور شربل عفيف إعتاد قياس تلوث الهواء وكم ردد وهو يقرأ في النتائج «يا إلهي». اليوم يبحث في نتائج سقوط الأهراءات على الهواء الذي نتنشقه ويقول: «التأثير سيكون مداه قصيراً. سيتضايق السكان في المحيط من الغبار المتطاير. الى ذلك، ثمة نظريات كثيرة موجودة مفادها ان بقايا القمح، في الأهراءات، لا بُدّ أن تكون قد تسببت بالفطريات، وحين سيتم هدم الأهراءات ستتطاير تلك الفطريات مع الغبار في الهواء وستنتشر في الأماكن القريبة من المرفأ، على شعاع يتراوح بين 500 و700 متر. الخطر سيكون ممكناً لكنه غير حتمي».
ماذا قد تتسبب بها تلك الفطريات المشبعة بالغبار؟ وما هي المناطق الأكثر عرضة لمخاطرها؟
يجيب عفيف «سيزيد خطر الإصابة بسرطان الرئة، وأكثر الأماكن المهددة هي الجميزة ومارمخايل واول منطقة مار نقولا، اما الكرنتينا، ففي المبدأ، لن تتأثر».
يوميا يغادر أحدهم أو إحداهن بهدوء فنردد مثل الببغاء: «نفسن في السماء» لنعود وننهمك بالأزمات التي تكاد لا تنتهي. حتى أننا نادراً ما نتمهل للسؤال: هل ماتوا بسبب التلوث المحيط بنا؟
الإختصاصي في علوم الكيمياء الدكتور شربل عفيف يعود ليُذكر «بأنهم سحبوا كمية القمح والذرة المخزنة من الأهراءات (وإن متأخرين)، تلافياً لمخاطر تخمّرها وتسببها بغاز الـ»ميتان» والـ»ديوكسين» المسرطن. هم سحبوها وتعاملوا معها، مع التأكيد بعدم صلاحيتها للإستهلاك، لكن بقيت كميات ملتصقة بجدران الأهراءات، حيث لم يجروا طبعا «هوفر» لها، وتلك البقايا هي ما يُحكى عن إمكانية تسببها بمخاطر».
إذا، سكان بيروت، خصوصاً أهالي الجميزة ومارمخايل منهم، أمام خطرين جديدين: خطر سقوط بقايا الأهراءات فجأة أو إسقاطها عنوة وانبعاث الغبار والفطريات منها.
والحلّ؟
إذا سقطت فجأة يكون السبب إهمالا «رسمياً» آخر، اللهم ألّا يحدث ذلك على رؤوس الناس أيضا فترتفع فاتورة الضحايا، أما في حال أخذت الدولة قرارها بإسقاط الأهراءات فيفترض بسكان المناطق المجاورة المكوث في منازلهم وإقفال النوافذ والأبواب ريثما ينجلي الغبار المحمّل بالفطريات من الفضاء الخارجي. وهذا الأمر يدوم لساعات قليلة. على أن تُغسل النوافذ والشرفات لاحقا بالمياه لإزالة أي غبار عالق عليها.
سؤال آخر، ماذا عن خطر الاسبستوس الناتج عن ركام الأهراءات؟ يجيب عفيف «لم يثبت مدى استخدام هذه المادة في بناء الأهراءات، أما إذا كان ذلك حاصلا فأكثر من هم معرضون لمخاطر تنشق الأسبستوس هم السكان في الجوار، وبينهم طبعا سكان الجميزة ومارمخايل. ويشرح: كانوا يستخدمون قديماً ألياف مادة الاسبستوس في العمار لتقوية الباطون، الى أن اكتشفوا لاحقا مخاطرها فتوقفوا عن ذلك عالمياً. وهناك مبان كثيرة تخلصوا منها في فرنسا على سبيل المثال نظراً للأخطار الصحية التي تسببها».
لا بُدّ أن يكون السؤال التالي يلح في بالكم: وماذا لو كانت مادة الاسبستوس مستخدمة حقاً في بناء أهراءات القمح؟ ماذا عن القمح الذي تناولناه وكان مخزّنا فيها؟ يجيب عفيف: «مادة الاسبستوس تؤثر على التنشق لا على الطعام، فهي تدخل الى الرئة وتزيد من مخاطر الإصابة بسرطان الرئة». لم تأكلوا الضرب مزدوجاً إذا فاطمئنوا.
المشاكل لا تنتهي. وبيروت تدفع الفواتير دائما مضاعفة. وهواؤها ليس أبداً عليلاً. فماذا عن تلوث الهواء بشكل عام؟
أستاذة مادة الكيمياء الخبيرة في شؤون تلوث الهواء نجاة صليبا تتحدث عن إثارة موضوع الأهراءات منذ أكثر من عام وتقول: طلبنا منهم التعامل مع بقايا القمح كي لا تتسبب بأمراض وبمشاكل صحية والجواب كان يردنا دائما: نحن ندرس الموضوع. في كل حال، أخذنا، في آخر دراسة أعددناها، عينات من التراب بعد حدوث الإنفجار للتأكد ما إذا كانت هناك مادة الإسبستوس، والعينات لم تؤكد ذلك وقد اخذناها من المناطق السكنية المجاورة مثل الجميزة ومارمخايل والكرنتينا. كان ممنوعاً دخولنا الى المرفأ أما نحن فكان يهمنا أن نتحقق من صحة مخاوف الناس من وجود تلك المادة. أما لناحية تلوث الهواء، فقد ارتفعت نسبة التلوث في الأشهر الثلاثة الأولى التي تلت حصول الإنفجار، بسبب الركام، ثم عادت الى معدلاتها كما كانت قبله حين تراجعت الأعمال».
نعود الى الدكتور عفيف طارحين نفس السؤال: ماذا عن تلوث الهواء؟ الإجابة واضحة، كما الشمس: «الوضع ليس بخير أبداً. والأسوأ أن الناس لا يهتمون لذلك كثيراً بسبب تراكم الأزمات في حياتهم وتفكيرهم اليومي بماذا يطعمون أطفالهم. لا يجد المواطن وقتاً للتفكير بالهواء الذي يتنفسه او قد يتنفسه بعد حين».
ماذا عن قياس نسبة التلوث في الهواء؟ يجيب عفيف «هناك جامعات في لبنان لديها مختبرات تجري الأبحاث فيها أما الشبكة الوطنية التي تملكها الدولة فقد توقفت محطاتها، وعددها 16، منذ العام 2019 لافتقارها الى التمويل، لكن، كما سمعت، فإن وزارة البيئة طلبت في موازنتها مبلغاً لإعادة العمل الى بعض تلك المحطات».
في كل حال، لمن يهمه الأمر، نسبة التلوث «بلا جميلة الأهراءات» عالية في بيروت والمناطق الأخرى. والأهم من كل ذلك، أننا اليوم ما زلنا نصدر الإنبعاثات التي سندفع ثمنها غداً. المشكلة أن النتائج لا تظهر سريعاً ما يسمح للمقترف، بحسب عفيف، في التمادي. فوضعنا «شي بيخوّف» ولم يعد مسموحاً الإتكال على الدولة العاجزة. فلننبه بعضنا بعضاً: الوضع يا عالم يا هو ليس بخير. في كل حال، لمن يهمه الأمر، ظهر في دراسة أن خطر السرطان في بيروت كان أعلى أربعين مرة من المسموح به في الولايات المتحدة الأميركية. وفي منطقة الذوق كان 170 مرة أكثر من الحدّ الأدنى المسموح به. ومن ميل آخر، النسب الحديّة للتلوث أيضاً تغيرت لذا طُلب من كل الصناعيين تخفيض الإنبعاثات لتتماشى مع النسب الأوروبية».