فيما لا تزال زيارة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين إلى بيروت معلقة على نتائج المفاوضات حول غزة، وهو الذي سيرعى أي اتفاق خاص بالحدود الجنوبية بصرف النظر عن الحراك الفرنسي، سلمت السفارة الفرنسية الثلاثاء رئيس مجلس النواب نبيه بري مضمون الورقة الفرنسية للتوصل إلى وقف إطلاق النار في الجنوب، بعدما كان السفير الفرنسي تولى تسليمها إلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي. وتنتظر باريس، وفق المعلومات، الرد اللبناني أو رد “حزب الله” المعني بأية ترتيبات حدودية بالتزامن مع الرد الإسرائيلي، الذي لم تتبلغه فرنسا بعد.
نحو وقف النار
وكشف مصدر دبلوماسي غربي لـ”اندبندنت عربية” عن أن الورقة التي سلمت إلى كل من لبنان وإسرائيل، ووصفها بـ”وثيقة عمل” أو (note libre) كونها تخضع للمشاورات تمهيداً للاتفاق، هي نسخة معدلة للورقة الفرنسية الأولى، وأدخلت التعديلات بالتشاور مع الجانب الأميركي، وبناء على الملاحظات التي تلقاها قصر الإليزيه من الجانبين اللبناني والإسرائيلي.
وشدد المصدر على أن الورقة التي تهدف إلى وقف إطلاق النار، هدفت أيضاً إلى جعل السلطات اللبنانية تتخذ موقفاً رسمياً بعد سلسلة خطابات للأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله، اتخذ من خلالها موقع المقرر في هذا المسار. ومن أهداف المسعى الفرنسي إبعاد فكرة الحرب بخاصة لدى إسرائيل، على اعتبار أن وجود مثل هذه الورقة يعني أن هناك فرصة للحل الدبلوماسي، وأن الحل يمكن ألا يكون عسكرياً.
وفيما لا يزال الموقف اللبناني ثابتاً في ربط لبنان بغزة، وأن أي وقف للعمليات في الجنوب لن يحصل قبل وقف الحرب في القطاع، فإن الجانب الفرنسي يعمل على التحضير لما بعد الحرب نظراً إلى الحاجة إلى إرساء سلام مستدام على الحدود بين لبنان وإسرائيل عبر تطبيق كامل للقرار 1701، وأخذ كل الاحتياطات لمنع تكرار العمليات العسكرية وسيناريو الهدوء الهش المستمر منذ 2006 وحتى 2023. ولا يتحدث المصدر الغربي عن مهلة فاصلة لإتمام المهمة الفرنسية، لكنه يتوقع أن يكون ملفا الحدود ورئاسة الجمهورية في لبنان منجزان بين يونيو (حزيران) وسبتمبر (أيلول) كحد أقصى.
مراعاة الشكل
يتجنب المصدر الدبلوماسي المطلع الدخول في تفاصيل الورقة الفرنسية “القابلة مجدداً للتعديل”، كما يقول هو استناداً إلى ملاحظات جديدة قد تصل من لبنان وإسرائيل، ويؤكد أن الردين الأولين كانا إيجابيين وسمحا بالانتقال إلى النسخة الحالية المعدلة. كاشفاً عن أن الورقة تنص على ثلاث مراحل، بعضها سينفذ على المدى القصير، وبعضها الآخر على المدى الطويل. وتتضمن المرحلة الأولى وقفاً فورياً للعمليات القتالية، لكن المصدر يعترف أن فصل الساحة اللبنانية عن غزة لا يزال أمراً مستحيلاً، استناداً إلى موقف مشترك تبلغه الجانب الفرنسي من رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب و”حزب الله”.
أما المرحلة الثانية فتتضمن الترتيبات الأمنية التي ستلي وقف إطلاق النار وتعليق العمليات القتالية، وهذه الترتيبات يمكن أن تأخذ أشكالاً عدة، وأدخلت عليها تعديلات في الصيغة الفرنسية بطلب أميركي، بحيث راعت “حزب الله” في الشكل ولكن ليس في المضمون، حتى لا يظهر بمظهر المنكسر أو المتراجع، وذلك بهدف ضمان موافقته على هذه الترتيبات.
أما المطروح حالياً على الأرض فهو إعادة تموضع المجموعات المسلحة في مقابل تعهد إسرائيل بوقف الخروقات الجوية للبنان، ولا تتضمن هذه الفقرة أي ذكر لـ”حزب الله”، ولا تحدد المساحة التي يجب أن ينسحب منها، علماً أن الصيغة الأولى كانت تشير مباشرة إلى انسحاب الحزب وابتعاده عن الحدود لمسافة 10 كليلومترات. والأولوية هي للمنطقة الحدودية وللسلاح الظاهر فقط من دون أية إشارة إلى السلاح الموجود في المنازل أو المخازن.
في المقابل يصر الجانب الإسرائيلي، على ذكر المجموعات المسلحة، وعلى تحديد المساحة التي ستنسحب منها. أما المرحلة الثالثة فتتعلق بالحدود البرية المختلف عليها والمحددة بست نقاط من أصل 13، استناداً إلى القرار 1701 والخط الأزرق وليس إلى اتفاق الهدنة والحدود الرسمية بين الدولتين. وتقترح فرنسا توسيع اللجنة الثلاثية المحددة وفق الآلية المنصوص عنها في القرار الدولي، وتضم ممثلين عن لبنان وإسرائيل والقوات الدولية لتصبح رباعية أو خماسية، وتشمل وفق الاقتراح الفرنسي ممثلاً عن فرنسا والولايات المتحدة الأميركية.
حقيقة أم بروباغندا؟
بانتظار ما سيؤول إليه المسعى الفرنسي يتوقف كثيرون عند ما يسمى بالغرف السوداء التي تعكف على ضخ أجواء إقليمية دولية تؤكد أن مقايضة تلوح في الأفق بين جبهة الممانعة والمجتمع الدولي، وتحديداً مع الولايات المتحدة، وتنص على المفاضلة بين رئاسة الجمهورية والقبول بترتيبات أمنية تقدم فيها إيران من خلال “حزب الله” تنازلات ميدانية في مقابل ثمن إقليمي وداخلي لبناني. ويكثر الحديث عن أن هذه الترتيبات ستكون إجهاضاً للقرار الدولي 1701 ولو كانت مغلفة به. وشهدت الساحة اللبنانية كثيراً من التحليلات والمعلومات المتعلقة بهذا السيناريو، خصوصاً أن قيادات في المعارضة أعلنت أن رئاسة الجمهورية ليست للبيع، وهي ملف مستقل عن أية تسوية لتهدئة الساحة الجنوبية.
ويؤكد مصدر دبلوماسي ألماني مواكب لما يجري في كواليس الحراك الدبلوماسي الأميركي – الفرنسي لـ”اندبندنت عربية”، أن القول إن هناك اندفاعة أميركية أوروبية لاعتبار “حزب الله”، ومن خلفه رئيس مجلس النواب، ممسكاً بالقرار اللبناني ويجب التعاطي معه للاتفاق على تسوية قائمة على المقايضة ووضعها حيز التنفيذ، “يبدو ساذجاً، وهو كلام للاستهلاك اللبناني الشعبوي”.
ويعتبر أن المجتمع الدولي يعلم جيداً مأزق الثنائي (حزب الله – حركة أمل) مع الشعب اللبناني ومع المعارضة، التي عليها بحسب رأيه أن تبقى ثابتة على موقفها الداعي إلى إنقاذ متكامل للبنان. داعياً المتحدثين عن تطبيع دولي مع طهران إلى قراءة خطوة قرار الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات جديدة على طهران، والتوصية الصادرة عن مجلس النواب الأوروبي بتوسيع لائحة المنظمات الإرهابية لتشمل “الحرس الثوري” الإيراني و”حزب الله”، إضافة إلى العقوبات التي أصدرتها الخزانة الأميركية.
ويكشف المصدر عن تشدد ألماني مغلف بدبلوماسية صامتة تقودها برلين لدعم لبنان، وضرورة إنهاء الدور الإيراني في المنطقة والحد من دور حلفائه الذي انتقل وفق التوصيف الألماني من حال أيديولوجية عسكرية دينية إلى حال الجريمة المنظمة.
بقاء السلاح
يقرأ كثيرون في البند المتعلق بالمنطقة الخالية من السلاح والممتدة من جنوب الليطاني حتى شماله تكريساً ملتوياً لبقاء السلاح، على اعتبار أن النص أشار إلى السلاح الظاهر فقط ولم يتحدث عن السلاح الموجود داخل المخازن أو في المنازل والأنفاق.
في هذا الإطار يأتي موقف “حزب الله” المعلن الداعم لتطبيق القرار الدولي وعودة الأمور لما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، ولكن بعد وقف الحرب في غزة.
لكن للمجتمع الدولي الداعم لتطبيق كامل للقرار الدولي نظرة أخرى إذ سيستمر دعم الجيش اللبناني للاستعداد لمرحلة ما بعد غزة، فيما يتقدم الحل الدبلوماسي في مسألة مزارع شبعا وتلال كفر شوبا اللتين تسيطر عليهما إسرائيل مع تطبيق القرار 425، مع ضرورة تثبيت لبنانية مزارع شبعا.
وفي هذا الإطار حصلت نقاشات في مجلس الأمن العام الماضي في الجلسة الدورية الخاصة بتقييم تنفيذ القرار 1701 على إثر استهداف دورية من الـ”يونيفيل” ومقتل العنصر الإيرلندي برصاص ذكر القضاء اللبناني أن مطلقيه هم من “حزب الله”، وأفضت النقاشات حينها إلى توسيع القرار 1701 بالقرار 2650 الذي شن الحزب وحلفاؤه عليه حملة شرسة، وصب وزير الخارجية عبدالله بو حبيب غضبه على مندوبة لبنان لدى الأمم المتحدة أمل مدللي، محملاً إياها المسؤولية عن عدم إبلاغ الخارجية بما يدور في أروقة مجلس الأمن لوقفه أو تفاديه.
والقرار 2650 أعطى القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان حرية التنقل للبحث عن الأسلحة، تطبيقاً للقرار 1701 من دون الرجوع إلى الجيش اللبناني.