الصور التي تأتي من جباليا وتظهر من الجو مبان تصرخ من مأساة الدمار تجلب لي الألم والتعب كل يوم، أشاهد طوابير المشردين، نساء ورجالاً وشيوخاً وأطفالاً، يتركون منازلهم لتتلقى بعد رحيلهم قنابل إسرائيلية، وفي الجانب الآخر في بيروت ينسف مبنى من 10 طوابق ويغادر المشردون الجنوب ليواجهوا مصيراً مشؤوماً
مشاهدة ما حلّ بالعيتاني تجعل فترة شبابي تختفي من أمام عيوني، فواقع الحرب يمثل صفعة ثقيلة، وإذا ما كنت تحب بيروت ولو قليلاً فستشعر بالصفعة على وجهك، وإذا ما كنت تعرف بيروت قبل وصول ولاية الجهل والظلم والفساد إلى الحكم لما كان بإمكانك أن تتماسك وتتوقف عن البكاء.
لماذا يجعل نظام متوهم ومريض بيروت رهينة له ويحرق من فيها؟ كان الإمام موسى الصدر بمساعدة الشاه الراحل ورئيس الوزراء الإيراني الراحل أسد الله علم قد وهب صبغة خاصة للحياة في بيروت، ولم تكن الضاحية مسرحاً للإرهابيين، وكانت السيدة رباب، شقيقة الإمام موسى الصدر، منهمكة في تعليم فتيات الشيعة، وكان مصطفى شمران، وهو أول وزير دفاع في الحكومة الموقتة بعد الثورة الإيرانية، يدير مركز التعليم الفني في صور، وكان الشيعة في ظل موسى الصدر يستمتعون بالحياة، والعشرات منهم يحصلون على منح دراسية من “مؤسسة بهلوي” للدراسة في لبنان ومصر وإيران وأوروبا، وكان ممثل الأمن في السفارة الإيرانية كاتباً مرموقاً.
في تلك الأيام لم يكن لـ “الحرس الثوري” وجهاز الأمن التابع لعلي خامنئي وجود في لبنان، وكان الدكتور محمدي من أساتذة العلوم الدينية ممثلاً لإيران في الملحقية الثقافية، وبالتزامن يدرس اللغة الفارسية في جامعة بيروت، وكان حزب “رزكاري” الكردي الذي تزعمه جميل محو يحيي عيد الـ “نوروز” في سينما كلماني وسط بيروت، وكانت حفلات السفارة الإيرانية قائمة بمشاركة فنانين كبار مثل كوكوش التي نشرت صحيفة “الحوادث” وقتها صورتها على غلاف المجلة.
كان الحديث يجري دائماً عن إيران وتطورات الفن فيها، وكانت فيروز تحيي كل عام الاحتفالات في بعلبك وتصدح بصوت الحب من الشرق إلى بيروت وصيدا وطرابلس، وبعدما شهدنا فتنة الخميني في بلادنا، أُضرمت مرحلة ثانية من الحرب الأهلية في لبنان، لكن السعوديون جاءوا لمساعدته، ودعوا رجال الحرب إلى الطائف فأجمعوا على البيعة مع رفيق الحريري، المحاسب الشاب الذي قضى وقتاً طويلاً في العمل داخل السعودية، وكان يدير شركة إعمار عظيمة ليبني وطنه ويرفعه على كتفه.
بنيت بيروت من جديد، وتولت شركة “سوليدير” مشاريع في أحجام أصغر من مباني نيويورك في العاصمة اللبنانية، وتوصل اللبنانيون إلى المصالحة الوطنية، لكن لم يكن هناك من أثر لموسى الصدر ليقود الشيعة، فقد خطفه القذافي عام 1978 متأثراً بوشاية أشخاص مثل جلال فارسي، فاختفى صديقي العزيز رئيس البرلمان اللبناني ورئيس حركة “أمل” الإمام موسى الصدر.
كانت سفارة الخميني قد تخلت عنه وحزبه، وجاء نبيه بري ليضم يده إلى يد حسن نصرالله، فخطفا لبنان وراهنا على من يصف نفسه نائباً للمهدي، وكنت قد رويت هذه المأساة الحارقة مراراً ولا داعي للتكرار، فلقد قضوا على الحريري لكي يتجنب لبنان سماع صوت طائر الفينيق من بين الركام.
لقد سرق “حزب الله” لبنان بواسطة الأموال المهداة من ولي الفقيه، لكني أسمع هذه المرة من بيروت ومن الجنوب نداء كسر أغلال الأسر، فالدماء والدمار والتشريد منتشر في لبنان، والآن بدأ جبران باسيل انتقاد “حزب الله” بعدما كان صهر ميشال عون والحليف لحسن نصرالله يؤمل بالجلوس على كرسي الرئاسة بعد تنحي ميشال عون، في ذروة السمعة السيئة والعمالة لدمشق من خلال مصافحة اليد الدامية لنصرالله وبشار الأسد.
بدأ جبران باسيل ينتقد “حزب الله” وقادته، ويبيّن أن أموال ولي الفقيه و”حزب الله” ليس لها زبائن، فهو ينتقد أسياده السابقين مؤملاً بالعفو عن أفعاله، ودعونا نلقي نظرة على الواقع الذي فرضه نتنياهو في فلسطين ولبنان، فقد استضاف خامنئي قادة “حماس” و”الجهاد الإسلامي” قبل كارثة السابع من أكتوبر 2023، وكان الهدف بعثرة “اتفاق أبناء إبراهيم” والحيلولة دون إقامة علاقة بين السعودية وإسرائيل، بعد إقامة علاقات معلنة مع الإمارات والبحرين والمغرب، وعلاقات شبه معلنة بينها وبين قطر وسلطنة عُمان، وطرحت السعودية إقامة دولة فلسطينية حرة عاصمتها القدس الشرقية، وعقد تحالف دفاعي وأمني مع واشنطن في عام 2024 كشرط أساس للاعتراف الرياض بدولة إسرائيل.
بعد هذه التطورات أعطى خامنئي مفتاحاً لـ “حماس” و”حزب الله” والحوثيين وعملائه في العراق ليفتحوا فيها باباً، فقامت القيامة وتوالت الأحداث ولم يعد بالإمكان إحصاء أبرزها، فدمرت غزة التي بنيت بمليارات الدولارات من أموال قطر والغرب والأثرياء الفلسطينيين، ولم تعد عزة تشهد غروباً يعود فيه الصيادون من البحر فتبخرت الآمال، وتعطلت تماماً حفلات إلقاء القصائد بواسطة فادي ونوال وفدوى وكمال وسعيد في معهد الثقافة والفن في خان يونس، وتحولت دور السينما في غزة إلى مستشفيات موقتة.
كلما تحدثت خلال هذه الأشهر والأسابيع إلى قائد الفلسطينيين محمود عباس لم يستطع أن يتماسك ويجهش بالبكاء، ويقول كبير مستشاريه نبيل أبو ردينة إن رئيس السلطة الفلسطينية كان ينتظر أن يرفرف علم فلسطين على المسجد الأقصى، لكنه الآن يحصي القتلى ويبكي لفقد غزة، فقد حولت إسرائيل غزة إلى رماد بحثاً عن رأس الأفعى، فقتل 44 ألف شخص غالبيتهم ليسوا من أعضاء “حماس”، ولم يقبلوا بالجرائم التي ارتكبها السنوار.
موجات المشردين الذين يتوجهون إلى الخلاء وهم يحملون على رؤوسهم أغراضاً ويمسكون يداً بيد إلى المجهول، تجعل حتى أقل الناس مشاعراً يبكي على هذه المشاهد، لكن علي خامنئي المرعوب يصدر أوامر بإطلاق النار لـ “حزب الله”.
كانت إسرائيل أمام فرصة ذهبية لتقضي على راس الأفعى في بيروت وترحل، لكنها عندما شاهدت انهيار “حزب الله” غيرت إستراتيجية إضعافه إلى القضاء عليه، فانهال القصف يمنياً ويساراً في مرجعيون وصور وصيدا وإقليم التفاح والضاحية وبعلبك، وعشرات من قادة “حزب الله” ومنهم فواد شكر وقصير وحسن نصرالله وهاشم صفي الدين تحولوا إلى رماد، وذهبوا إلى لقاء ربهم وأيديهم على عنق قادة “قوات قدس” التابعة لـ “الحرس الثوري”.
كان علي خامنئي حزيناً لفقد زاهدي في ضربة استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق، فجاءه نبأ مقتل نيلفروشيان، وكل التوهمات تبخرت في لحظة، وأصبحنا نسمع نداء يصف المشهد في كلمات مثل “كأنهم تحولوا إلى دخان وذهبوا إلى الفضاء”، ويذكرنا ذلك بمشهد من مسلسل “الخال نابليون” الذي كان يبث من التلفزيون الإيراني قبل الثورة حين ردد بطل المسلسل مراراً مصطلح “تبخر وذهب إلى الهواء”!
لقادة “الحرس” وبطونهم الكبيرة حسابات في ماكاو وهونغ كونغ و”صندوق القرض الحسن” وفروعه في لبنان واليمن، ويمتهنون تجارة الكبتاغون والأفيون والكوكايين من أميركا اللاتينية لتصديرها إلى الشرق الأوسط العربي.
هؤلاء المرعوبون كانوا يرسمون خريطة للقضاء على إسرائيل، لكن كبارهم وصغارهم قضوا خلال الهجمات الإسرائيلية وتحولوا إلى رماد، وكانت “قناة الجزيرة” التي لم تدخر جهداً لتغطية أحداث غزة و”حزب الله” قد نشرت تقريراً قبل عام من حرب غزة واستمرارها إلى لبنان واليمن، يكشف عن أن “حزب الله” يدير شبكة لتجارة المواد المخدرة في مثلث يضم البرازيل وباراغواي والأرجنتين، وتدر عليه هذه التجارة ملايين الدولارات، ومع مطلع الثمانينيات شهد هذا المثلث هجرة عدد كبير من اللبنانيين، واستقروا في المنطقة التجارية التي تضم أجزاء من البلدان الثلاثة، ومن بينهم أسعد بركات الذي قدم إلى هذه المنطقة خلال التسعينيات وأسس متجراً لبيع السلع الإلكترونية، ثم ألقي القبض عليه عام 2002 بتهمة التهرب الضريبي، لكن الصدمة الكبرى حدثت عندما وضعته الولايات المتحدة الأميركية في قائمة العقوبات ووصفته بأنه الذراع الأيمن لزعيم “حزب الله” في أميركا الجنوبية.
كان بركات يشكل حلقة واحدة لمافيا “حزب الله”، وفي عام 2008 ألقي القبض على نمر زعيتر بتهمة محاولة تصدير الكوكايين إلى الولايات المتحدة الأميركية، ثم اعتقل في ما بعد شقيق أسعد بركات بتهمة تشكيل عصابة للغش، وهذا الموضوع تناولته “الجزيرة” أيضاً عام 2022.
هذه الأمور والأحداث المشابهة أثارت جدلاً كبيراً حول طبيعة العلاقة بين “حزب الله” والشبكات الإجرامية المنظمة في أميركا الجنوبية بعد أحداث الـ 11 من سبتمبر(أيلول) 2001، وهذه العلاقة تستهدف كسب المال عبر أي طريقة متاحة، من تجارة السلع والماركات المزورة ومنها الساعات والنظارات الشمسية والسلع الإلكترونية والأقراص المدمجة وتجارة السجاير، إلى تهريب البشر وغسل الأموال والمواد المخدرة، من أجل الحصول على مصادر إضافية لمواجهة الأزمات المالية التي كان يواجهها “حزب الله” بسبب العقوبات الأميركية ضد مسؤولين ومؤسسات إيرانية.
و”حزب الله” بصفته لاعباً أساساً للميليشيات المسلحة في الشرق الأوسط، ومن خلال التدخل في حرب سوريا والجرائم التي ارتكبها في هذا البلد، فلم يعد مؤسسة مقاومة نزيهة بل أصبح ضمن مافيا يديرها “الحرس الثوري” وماهر الأسد، شقيق بشار الأسد، تمتهن الفساد وتجارة المواد المخدرة والفحشاء، وبخاصة في ماكاو وفانكوفر في كندا والجزء التركي في قبرص، كما أصبح جزءاً من شبكة الاغتيالات فتورط في اغتيال رفيق الحريري وعشرات الشخصيات اللبنانية المعارضة لـ “حزب الله” والنظام السوري ونظام ولي الفقيه، فقد حول “حزب الله” إلى مجموعة تحتل الصدارة في قائمة المجموعات الإرهابية حول العالم، وتسببت أخطاء علي خامنئي في الدفع بـ “حزب الله” إلى ساحات القتال، وخطأ حسن نصرالله في الامتثال لأوامر خامنئي منح الفرصة لنتنياهو لتدمير الحزب، فخلال الأيام القليلة الماضية دمرت إسرائيل فروع “القرض الحسن” في أنحاء لبنان، وكسرت بذلك ظهر النظام المالي لـ “حزب الله” و”الحرس الثوري” في لبنان.