عندما أوقفت موسكو صادراتها من الغاز والنفط إلى أوروبا في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، عانى مئات الملايين من الناس بسبب الخوف من عدم الحصول على التدفئة في فصل الشتاء، أو قضاء الصيف دون القدرة على تشغيل مكيفات الهواء.
بيد أن استراتيجية الكرملين في زمن الحرب التي هدفت إلى وقف تصدير الغاز إلى معظم دول الاتحاد الأوروبي، تزامنت مع نمو قطاع بالغ الأهمية، يهدف إلى التحول إلى الطاقة النظيفة بالاعتماد على البطاريات المصنوعة من مواد طبيعية رخيصة ومتوفرة، وتعمل على تخزين الطاقة، بحسب تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية.
ويعود استخدام الرمل والملح والحرارة والهواء والعناصر الأخرى كبنوك للطاقة إلى قرون مضت، حيث كانت جدران المنازل في الحضارة المصرية القديمة تخزن حرارة الشمس أثناء النهار وتطلقها خلال ليالي الصحراء الباردة.
وعلى نفس المنوال، كانت الحضارات الغابرة في جميع أنحاء الأميركتين تقدر قيمة “الطوب اللبن”، وهو مركب مصنوع من الطين والمواد العضوية الأخرى مثل القش أو السماد، وذلك بغية بناء منازل باردة صيفا ودافئة في الشتاء.
وفي العصر الحديث، فإن شركة فلندية ناشئة تدعى “بولار نايت إنيرجي”، تسعى إلى إنتاج وتوزيع أول “بطارية رملية” على نطاق تجاري.
وفي هذا الصدد، يقول الرئيس التنفيذي للشركة، تومي إيرونين: “لا شيء يحترق في تلك البطارية”، في تأكيد على أنها صديقة للبيئة.
وتهدف البطاريات الطبيعية إلى تمكين البلدان من الاستفادة من الاحتياطيات الضخمة القادمة من توربينات الرياح والألواح الشمسية، عندما لا تكون الشمس مشرقة، وفي الوقت الذي لا تهب الرياح فيه.
ومن المتوقع أن تكون أسعار مصادر الطاقة المتجددة أقل من تكلفة الوقود الأحفوري، خاصة بعد أن أدى انسحاب الوقود الروسي إلى دفع الأسعار في مختلف أنحاء أوروبا إلى مستويات قياسية.
لكن ثورة الطاقة الخضراء لا تزال تواجه عقبة رئيسية، تكمن في الافتقار إلى حلول طويلة الأجل وفعالة من حيث التكلفة، وتخزين مصادر الطاقة المتجددة.
ففي منشآت الشركة الفنلندية بمدينة تامبيري وكانكانب القريبة، تحتوي براميل فولاذية ضخمة على أكوام من الرمال المسخنة إلى حوالي ألف درجة فهرنهايت، أي ما يعادل 538 درجة مئوية تقريبا.
وتساعد هذه الطاقة المخزنة على تخفيف فترات الذروة في شبكة الكهرباء ودعم شبكات التدفئة، مما يحافظ على دفء المنازل والمكاتب وغيرها، حيث تستمر الحرارة في التدفق وصولا إلى المناطق النائية، حتى مع تضاؤل إمدادات روسيا من الوقود الأحفوري.
وأوضح كبير العلماء في الشركة، فيل كيفيوجا، متحدثا عن قوة تلك البطاريات : “الرمال لا تعرف أي حدود تقريبًا.. وهي متوفرة في كل مكان”.
كيف تعمل البطاريات الطبيعية؟
ويرى كيفيوجا أن أجهزة الاستشعار والصمامات التي تراقب أداء البطارية الرملية “عالية التقنية نسبيًا”، لكن البطارية نفسها “بسيطة التصميم”.
وبحسب شرحه، يتم جلب الرمال من أي مكان، مثل موقع بناء مدمر أو كثبان رملية، حيث يكلف الطن الواحد أقل من يورو، ويتم وضعه في وعاء عملاق “بطارية”، قبل أن يجري الاحتفاظ بالرمال دافئة أو “مشحونة” باستمرار.
ويتم تحويل الطاقة المستدامة الناتجة عن الألواح الشمسية وتوربينات الرياح إلى حرارة بواسطة سخان مقاوم، والذي يقوم أيضًا بتسخين الهواء الذي يحوم عبر الرمال.
وبعدها تقوم المروحة بتدوير تدفق الحرارة بشكل مستمر حتى تصبح جاهزة للاستخدام. ويمكن تشبيه تلك العملية بالحرارة الناجمة عن صخرة معرضة لحرارة الشمس في صحراء قائظة، بيد أن الرمال في تلك البطاريات تبقى ساخنة دائما وليس إلى حين غروب الشمس، لأنها معزولة في تلك الأوعية الضخمة.
ويمكن للرمال الاحتفاظ بالطاقة لأسابيع أو أشهر في كل عملية تسخين، وهي ميزة واضحة تتفوق بها على بطارية “أيونات الليثيوم” الشهيرة، والتي يمكنها عادةً الاحتفاظ بالطاقة لبضعة ساعات فقط.
“مساوئ الليثيوم”
وعلى عكس الوقود الأحفوري، الذي يسهل نقله وتخزينه، فإن إمدادات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح يتم إهدار معظمها في حال لم يتم استخدامها على الفور، وبالتالي فإن الحل المبتكر يمكن في تخزين تلك الطاقة قبل أن تهدر مقابل لا شيء.
وفي هذا المنحى، يتفق العديد من خبراء الصناعة على أن بطاريات الليثيوم المستخدمة في تشغيل الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، تكون قدرتها محددوة.
كما أن سعة التخزين لدى تلك البطاريات تضعف مع مرور الوقت، ناهيك عن أنها شديدة الاشتعال، مما يؤدي إلى نشوب عدد كبير من الحرائق المميتة في جميع أنحاء المعمورة.
كما يعتمد استخراج الكوبالت، المادة الخام المربحة المستخدمة في بطاريات الليثيوم، على عمالة الأطفال، إذ تقدر وكالات الأمم المتحدة أن 40 ألف صبي وفتاة يعملون في هذه الصناعة، مع القليل من التدابير الأمنية والتعويضات الهزيلة.
وتشكل تلك التحديات الخطيرة المتعلقة بالبيئة وحقوق الإنسان عقبة بسيطة، مقارنة بما تسببه صناعة السيارات الكهربائية من مشاكل، نظرا لأنها بحاجة إلى كميات كبيرة من تلك البطاريات.
وبناء على ذلك، يقوم مستثمرون الآن بضخ الأموال في شركات البطاريات الأكبر حجمًا، حيث جرى استثمار أكثر من 900 مليون دولار في تقنيات التخزين النظيف منذ عام 2021، ارتفاعًا من 360 مليون دولار في العام السابق، وفقًا لمجلس تخزين الطاقة طويل الأمد، وهي منظمة تم إنشاؤها بعد مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ في تلك السنة، للإشراف على إزالة الكربون من العالم.
وتتوقع المجموعة أن تصل الاستثمارات واسعة النطاق في تخزين الطاقة المتجددة إلى 3 تريليون دولار بحلول العام 2040، ويشمل ذلك الجهود المبذولة لتحويل المواد الطبيعية إلى بطاريات، إذ أصبحت شركات ناشئة كانت مغمورة ذات يوم، تتلقى فجأة الملايين من التمويل الحكومي والخاص.
المزايا الجيوسياسية للبطاريات الطبيعية
ستساعد البطاريات الطبيعية مصادر الطاقة المتجددة على الحلول محل الوقود الأحفوري، وتحرير البلدان من التحديات الجيوسياسية مثل الغزو الروسي لأوكرانيا، كما يقول مؤسس شركة Energy Dome الإيطالية، كلاوديو سباداسيني، الذي أوضح أن شركته “ستبيع نسخة من بطاريتها المعتمدة على ثاني أكسيد الكربون” لعملائها في الولايات المتحدة.
وتابع: “مصادر الطاقة المتجددة ديمقراطية.. فالشمس تشرق في كل مكان والرياح تهب في كل بقعة، وإذا تمكنّا من استغلال تلك الموارد محليا، باستخدام المكونات الموجودة بالفعل، فسيكون ذلك هو الجزء المفقود من اللغز”.
لكن لتحقيق ذلك الطموح، ستحتاج البطاريات الطبيعية إلى توفير نفس النوع من الطاقة الثابتة على نطاق واسع، كما يفعل الوقود الأحفوري في الوقت الحالي.
وقد تواجه الصناعة نفس العقبات التي تهدد قطاع الطاقة المتجددة، وعليه لابد من بناء المشاريع من الألف إلى الياء، وهذا أمر قد لا يتحقق حاليا إلا في بعض البلدان المتقدمة القادرة على تحمل تكاليف مثل تلك التجارب.
ويقول الرئيس التنفيذي لشركة دنماركية ناشئة لتخزين الملح المصهور تدعى “هايم”، لوفشال جنسن، إن “التحدي يكمن في الحفاظ على نفس المعايير التي اعتاد عليها العالم الحديث، إذ يجب الحصول على الطاقة بضغطة زر”.
وأوضح أن البطاريات الطبيعية، “رغم أنها لا تزال في مهدها، يمكن أن تخدم هذا الغرض”.