صحيح أنّ جيش النظام السوري أنهى انسحابه من لبنان في 26 نيسان 2005، ولكن هذا الإنسحاب كان مؤشراً لخروج هذا النظام من دائرة التأثير على القرار اللبناني ولتبديل قواعد اللعبة في المنطقة بعد التغيير الكبير الذي طال أنظمة كثيرة فيها ونقلها من مرحلة إلى مرحلة لم تستقر بعد على قواعد ثابتة. أكثر من مرّة حصل التدخّل السوري في لبنان وأكثر من مرّة خرجت سوريا من لبنان وأكثر من مرّة حاولت أن تعود، ولكنّها اليوم تبحث عن نفسها في عملية التغيير الكبيرة الحاصلة قبل أن تفكِّر بالعودة إلى لبنان.
صحيح أنّ تدخل النظام السوري في لبنان بدأ قوياً مع بدايات الحرب اللبنانية، وأنّ الجيش السوري دخل إلى لبنان باعتراف هذا النظام مع نهاية العام 1975، من دون استئذان أحد، كما قال رئيس هذا النظام حافظ الأسد. ولكن عملياً لم تكن سوريا بعيدة عن لبنان وعن التأثير فيه منذ استقلاله عام 1943. بغضّ النظر عمّن حكم سوريا منذ ذلك العام، فإنّ دمشق نظرت دائماً إلى لبنان وكأنّه الجزء الضائع منها. بدأت المحاولات منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى وترسيم حدود دولة لبنان الكبير، وخضوع لبنان وسوريا معاً لنظام الإنتداب الفرنسي وتأسيس مصالح كثيرة مشتركة بدأت تنفصل مع نيل كل من البلدين استقلالهما. نظرية حافظ الأسد التي قامت على معادلة أن «لبنان وسوريا شعب واحد في دولتين»، لم تكن حكراً عليه وحده بل كانت استراتيجية سورية منذ الإعتراض السوري على استقلال لبنان وانضمامه إلى جامعة الدول العربية كإحدى الدول السبع المؤسسة لها.
تاريخ من التدخلات السورية
في العام 1958 كانت سوريا، كجزء من دولة الوحدة مع مصر، الممرّ الطبيعي لإرسال السلاح إلى لبنان ورعاية الثورة المسلحة ضد حكم الرئيس كميل شمعون. وفي أواخر الستينات كانت أيضاً الراعية للعمل الفلسطيني المسلّح، وشهدت الحدود بينها وبين لبنان أكثر من مواجهة مع الجيش اللبناني. وهي التي حاصرت لبنان وفرضت نتيجة الضغط الإقتصادي والعسكري توقيع اتفاق القاهرة في 3 تشرين الثاني 1969. وهي التي فتحت الطريق أمام انتقال المسلحين الفلسطينيين من الأردن إلى لبنان بعد أيلول 1970. وهي التي هددت الرئيس سليمان فرنجية بعد المواجهات المسلحة مع الفلسطينيين في أيار 1973، وأوقفت عمليات الجيش اللبناني لإعادة حصر السلاح الفلسطيني. وهي التي بدأت إرسال الأسلحة إلى لبنان ورعت انطلاقة الحرب اللبنانية بعد 13 نيسان 1975 في محاولة للتحكم بالقرار اللبناني وتفكيك الدولة اللبنانية.
هدنة مع إسرئيل وحروب في لبنان
مذ وقّع حافظ الأسد اتفاق الهدنة مع إسرائيل في 31 أيار 1974 بعد حرب تشرين 1973، ارتدّ للعمل في لبنان باعتباره المدى الحيوي لنظامه، وإحدى ركائز بقائه في الحكم، كبديل عن تلك الحرب الأساسية. على مدى ثلاثين عاماً بين 1975 و2005 لم يخض النظام السوري أي مواجهة على حدوده مع إسرائيل، بينما كانت مواجهاته كلها في لبنان. وكأنّ هذه الحروب التي خاضها ضد اللبنانيين مجتمعين أو متفرّقين كانت تشكّل «أكسير» استمراره وبقائه. ولذلك كان إخراجه من لبنان بمثابة الإشارة الواضحة إلى تحوّله للدفاع عن نفسه وعن بقائه داخل سوريا.
عام 1975 دعم الحركة الوطنية واليسار والفلسطينيين ضد الحكم في لبنان وضد الجبهة اللبنانية. ومنذ آذار 1976 تحوّل إلى قتال الفلسطينيين وياسر عرفات وكمال جنبلاط والحركة الوطنية ومعارك كثيرة حاسمة حصلت في صيدا وبحمدون وصوفر مهّدت لقبول قمة الرياض في 16 تشرين الأول 1976 وضع الجيش السوري تحت غطاء «قوات الردع العربية». ولكن حافظ الأسد حوّل قواته هذه إلى قوّة احتلال وعاد إلى قتال «القوات اللبنانية» في الأشرفية وعين الرمانة والحدث وزحلة والعاقورة والمتن والشمال، قبل أن ينهزم أمام الجيش الإسرائيلي في حزيران 1982 ويحمّل ياسر عرفات مسؤولية استدراجه إلى حرب لم يكن يريدها.
صحيح أنه رضخ لنتائج الإجتياح الإسرائيلي وسحب جيشه من بيروت ولكنّه بقي يخطط للعودة ولمتابعة حروبه. هكذا شنّ حربه القاسية ضد ياسر عرفات في البقاع وقسّم حركة فتح وأسّس لتنظيم فلسطيني خارج سياق منظمة التحرير، ثم قاتل عرفات وجماعاته في طرابلس ومخيمات الشمال في البارد والبداوي، وفرض خروج المقاتلين الفسطينيين في 20 كانون الأول 1983 عن طريق البحر في صورة مكررة عن خروجهم من بيروت تحت القصف الإسرائيلي، وكان معهم ياسر عرفات الذي عقد لقاءه الأول مع الرئيس المصري حسني مبارك في 22 كانون الأول، بعدما كانت منظمة التحرير قاطعت خيارات النظام المصري وانضمت إلى جبهة الصمود والتصدي التي اجتمعت في دمشق عام 1978 بعد زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس. كان هذا اللقاء إشارة إلى خيارات عرفات الجديدة في صراعه مع كل من إسرائيل وسوريا محدّداً القدس وُجهته وصولاً إلى اتفاقات أوسلو بعد عشرة أعوام.
ولكن الحروب السورية لم تتوقف. في ايلول 1985 شنّ النظام السوري حرباً جديدة ضدّ طرابلس بواسطة تنظيمات لبنانية وفلسطينية موالية له، وأنهى سيطرة «حركة التوحيد الإسلامي» ومتفرعاتها على المدينة، قبل أن يستتبع هذه الجولة بجولة ثانية عام 1986 دخل بعدها جيشه إليها. وكما عاد إلى طرابلس كان يخطط للعودة إلى بيروت. لذلك كانت الحرب الثانية ضد المخيمات الفسطينية في محاولة لمنع عودة نفوذ ياسر عرفات إليها وكانت «حركة أمل» في المواجهة نيابة عنه. ولذلك خاضت المعارك ضد المخيمات وضد المؤيّدين لعرفات. وكانت «حرب العلمين» مع الحزب التقدمي الإشتراكي في تشرين الثاني 1985، ثم حرب شباط 1987 ضد الإشتراكي والحزب الشيوعي، التي أمّنت عودة الجيش السوري إلى بيروت بعدما كانت عادت مفارز المخابرات، وكانت المواجهة الأولى مع «حزب الله» في ثكنة فتح الله التابعة له والتي سقط فيها نحو 27 عنصراً من الحزب قبل أن تستوي العلاقة بينه وبين النظام السوري بعد المعارك التي خاضها ضد «حركة أمل» وانتهت بتسوية إيرانية سورية تبنت بعدها سوريا دور الحزب.
الإغتيالات وحلم السيطرة الخادع
أمّن قائد الجيش ورئيس الحكومة العسكرية ميشال عون للنظام السوري كل مقومات بسط سيطرته على لبنان بعد «حرب التحرير» التي أعلنها وانتهت إلى اتفاق الطائف وإلى «حرب الإلغاء» وصولاً إلى عملية 13 تشرين الأول 1990 التي جعلت حافظ الأسد يمسك بالقرار اللبناني ويطبّق الطائف على طريقته. ولكن حلم السيطرة الكاملة والنهائية على لبنان كان خادعاً. كانت الحروب التي خاضها النظام السوري في لبنان تؤمّن له مقومات بقائه مسيطراً على سوريا بدليل عدم قيام أي محاولة جدية لإنهاء حكمه هناك بعدما كانت سوريا قبل وصوله إلى السلطة عام 1970 دولة غير مستقرة حافلة بالإنقلابات العسكرية. ولذلك كان خروج جيشه من لبنان مؤشراً على بدء المرحلة الجديدة من عدم الإستقرار. هذا الشعور راود رئيس النظام السوري بشّار الأسد الذي ورث والده في الحكم عام 2000، وكانت عملية انتقال السلطة إليه إيذاناً بأن هناك شيئاً من عدم الإستقرار بدأ يلفح النظام الذي استمرّ في حكم سوريا ثلاثين عاماً. اغتيال الرئيس رفيق الحريري لم يكن الإغتيال الوحيد الذي اتُّهِم هذا النظام بأنّه وراءه، أو غطّاه. من اغتيال كمال جنبلاط عام 1977 إلى اغتيال الرئيس بشير الجميل عام 1982، واغتيال المفتي حسن خالد عام 1989 واغتيال الرئيس رينيه معوض… كان اغتيال الحريري يهدف إلى وقف اندفاع عملية التغيير المعاكسة للسيطرة السورية على لبنان ولكنّه أدّى إلى نتائج عكسية. كان القرار الدولي 1559 قد صدر في 2 أيلول 2004 وقضى بعودة النظام السوري إلى سوريا وترك لبنان. ولكن النظام بقيادة بشّار الأسد اعتقد أنّ اللعب ممكن مع هذا القرار ولكنّه خضع في النهاية للأمر الواقع وقرر في 5 آذار 2005 الإنسحاب الكامل من لبنان معترفاً بأن المواجهة المقبلة ستكون في سوريا.
انهيار في دمشق
بعد ستة أعوام في 15 آذار 2011 بدأ الإنهيار في سوريا. وبدا كأنّ اللعنة اللبنانية تلاحق هذا النظام. ما شهده لبنان من حروب تورّط فيها النظام لم يرتقِ إلى ما شهدته المناطق السورية من حروب ومواجهات وجد فيها النظام نفسه مهدّداً ولم ينقذه إلّا دعم إيران و»حزب الله» والتدخّل الروسي اعتباراً من 30 أيلول 2015، وتحويل انتفاضة الشعب السوري إلى معارضة مسلّحة أصولية إسلامية غذّاها النظام نفسه ليبرّر بقاءه.
كثيرون من الموالين للنظام السوري شاركوا في وداع رئيس المخابرات السورية في لبنان اللواء رستم غزاله بعد الإحتفال الرسمي الذي حصل في 26 نيسان 2005 في قاعدة رياق الجوية. كانت صفحة تطوى من التدخّل السوري في لبنان وكانت بداية جديدة لمرحلة جديدة. بدأ النظام يترنّح داخل قواعد اللعبة الدولية. رستم غزالة انتهى مقتولاً في 24 نيسان 2015 بعد خلافات داخل النظام. قبله، في 21 تشرين الأول 2005، انتحر أو قتل اللواء غازي كنعان الذي تولّى قيادة الإستخبارات السورية في لبنان منذ العام 1985. أكثر من ضابط أو مسؤول سوري شارك في قمع اللبنانيين انتهى بطريقة مأسوية. رئيس الأركان حكمت الشهابي انتهى معزولاً. نائب الرئيس عبد الحليم خدام خرج ملاحقاً ومتهماً ومطروداً. فاروق الشرع انتهي مغيَّباً. مراكز المخابرات السورية في لبنان، عناوين الإعتقالات والتعذيب من عنجر إلى البوريفاج في بيروت، ومدرسة الأميركان في طرابلس، وفيلا جبر في بولونيا في المتن، ومعمل البصل في زحلة، وغيرها انتهت إلى غير رجعة. ذكريات موجعة وقاسية تركها النظام السوري في لبنان وجرح كبير لا يزال مفتوحاً يتعلّق باللبنانيين المعتقلين في السجون السورية الذين لم يعترف النظام بقتلهم أو بوجودهم.
عندما تطوى مثل هذه الصفحة من التاريخ المؤلم هل يمكن البحث في انتخاب رئيس يمثّل امتداداً لعهد الإحتلال السوري للبنان بعدما انتهى هذا الإحتلال؟