من خلال تتبّعنا كمركز أبحاث وإستناداً للعديد من الاستشارات والدراسات التي نُجريها بشكل دوري مع مراكز أبحاث عربية ودولية نفهم أن سياسة خلط الأوراق تمثّل إحدى قواعد اللعبة السياسية في الجمهورية، ومن أبرز قواعد الصراع بين القوى السياسية المتناحرة على طريق التضليل وفائض القوّة والمصالح الخاصة ومن ضمنها مصلحة المحتّل الإقليمي، وهي على ما يبدو راسخة على المسرح السياسي اللبناني بين مجموعات داخلية تأتمر بالمحتّل الإقليمي وبين دول معينة وبين نظام سياسي ديمقراطي وبين نظام شمولي، إضافة إلى لعبة داخلية عنوانها «صراع طائفي مذهبي بإمتياز غُبّ الطلب».
الحالة السياسية وملحقاتها في الجمهورية اللبنانية هي تعبير عن قوى واضحة مفروزة، قوى مُسمّاة ومعروفة الأهداف وليست قوى مجهولة العنوان والأهداف والمصلحة وحتى الهوية وهي كناية عن مجموعة مُسلّحة خلافًا لوثيقة الوفاق الوطني التي تضمنّت فيما تضمنّتْ بندين أساسيّن ألا وهما: أولاً – حل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، ثانياً – تحرير لبنان من الإحتلال الإسرائيلي ونشر القوى الشرعية اللبنانية في جنوب لبنان. وحسب منطق ومضمون وثيقة الوفاق الوطني لم يتم تطبيق هذين البندين كما ينصان حرفيا، فلا الميليشيات حُلّت ولا الجنوب تحرّر وفق لمندرجات القانون الدولي، بل كانتْ تسوية مُذلّة قوامها سلطة دبلوماسية أوروبية توافقت خلافاً للأصول مع سلطة الأمر الواقع وأدّتْ إلى إنسحاب أحادي لقوات العدو ومن ثمّ استُبيحتْ أرض الجنوب تحت مسميّات غريبة عن المنطق والقانون ومضمون وثيقة الوفاق الوطني.
ما يحصل من تعطيل عمل المؤسسات الدستورية الشبه شرعية أصبح من سِمات نظام توافقي يقوده ساسة حاليون مغطّون برجال دين مسيحيين ومُسلمين، وهــو تعطيل ينسحب على مختلف السلطات العامة من حيث تمادي الفراغ في كل مؤسسات الدولة بدءاً برئاسة الجمهورية وصولاً إلى ما نحن عليه اليوم من تعطيل لكل مؤسسات الجمهورية وبتنا عملياً في مرحلة شلَ كل المؤسسات من أجل تحقيق مكاسب سياسية آنيّة تحت غطاء إقليمي.
الحقيقة أنّ غياب السلطة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ لبنان وفي ظل وضع أمني متدحرج في الجنوب وفي ظل فراغ متنامٍ في كل مؤسسات الجمهورية، بدأت الأمور تأخذ وجهاً آخر يتجسّد في نظام «مصالح وعقود» يتبنّاه ساسة فاسدون والمؤسف أنّ القادة الروحيين من بطاركة ومفتين وأئمّة وشيوخ يستشيرون أغلبية هؤلاء «العصابة»، وهنا يكمن الخطــر ويختلط الحابـل بالنابل، أعداء الأمس أصحاب اليوم يمنحون بعضهم البعض الفواصل الواضحة فيعسّر مع ذلك تشريع أي تسوية ويصعب مع ذلك تسييد الجمهورية وتحصل الاختراقات في كل أجهزة الدولة لا بل تمتّد إلى رقع جغرافية وعلى سبيل المثال لا الحصــر الجنوب اللبناني.
الظاهــر عند سلطة الأمر الواقع الحالية هناك العديد من المنظومات السياسية ولكل منظومة أسلوب وطريقتها وآليتها وكل منظومة لها ميزتها عن الأخرى ولكن جميعها تصبّ في خانة ضرب هيبة الجمهورية وإفقاد الشعب ثقته بمؤسساته الشرعية ويتم هذا الأمر عبر التضليل الممنهج المتّبع من سلطة جائرة كاذبة خنوعة إنْ لم نصفها بـ«العاهـرة».
هذه السياسة القائمة خلافاً للنظام الديمقراطي تربك جمهوريتنا اللبنانية وتجعلها في مهّب الريح، تسيطر عليها الفوضى، تتعثر الجمهورية في تنظيم علاقاتها الداخلية – الإقليمية – الدولية وبين تلكّم منظوماتها التي هي واضحة الأهداف والمصالح إلى حــدٍ ما «ضاعتْ الطاسة»، وعبثاً يُحاول رجال الدين (بطرك – مفتي – شيخ) الطلب من هؤلاء الساسة إيجاد المخارج القانونية – الدستورية للأزمات الراهنة والسبب أولاً – إنّ رجال الدين مقيّدين ومأسورين ومتغاضين ، ثانياً – غير مُلمّين بمندرجات «العلوم السياسية « التي تلحظ في أبوابها حلولاً للأزمات على طِراز الأزمة اللبنانية.
الوضع السياسي العام في البلاد بحاجة ماسّة لإنتاج معادلة سياسية من خارج سلطة الأمر الواقع، لأنّ توافق نظام ساسة الأمر الواقع يؤدي حكماً إلى منح هؤلاء سلطة وفرصة تستبدل ديمومة مؤسسات الجمهورية اللبنانية بإستنسابية توافق المصالح السياسية المحلية والإقليمية، هل يعي (البطاركة – المفتون – الشيوخ) خطورة هذا الأمر، ترف الوقت قاتل وعدم الإصغاء للآخر جريمة، كما ضعف الإدراك للعلوم السياسية مُعيب، هل تدركون هذه الأخطار وتتداركوها، الحل يقوم على إعادة تكوين السلطة تحت عنوان «سلطة إنتقالية» وللبحث صلة.