يؤكد أهالي سهل عكار أن عمليات تهريب البشر، لم تتوقف يوماً، واستمرت بصورة مطردة رغم الكوارث التي حصلت في 23 أبريل (نيسان)، ومنتصف سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، التي نجم عنها نحو 150 ضحية من الجنسيات اللبنانية، والسورية، والفلسطينية. ويقول الناشط جمال خضر، إن “عدم تسليط الإعلام للضوء على تلك الرحلات، لا يعني أنها توقفت، لا بل إنها على العكس من ذلك، طورت أساليبها، وبات أكثرية المنظمين يستفيدون من الثغرات القانونية في الدول المستهدفة من أجل تأمين الدخول والبقاء”، مضيفاً “في كل يوم نسمع عن رحيل عائلات، وتحديداً من اللاجئين السوريين الذين سمعوا عن رفاهية لم تعد موجودة في لبنان الملجأ أو في سوريا المنهكة”.
الشريحة السورية
يشكل السوريون الشريحة الأكبر من الهاربين نحو أوروبا، الذين يجتذبون إما من خلال “وسيط مروج”، أو حتى إعلانات مموهة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وهم لا يقتصرون على المقيمين في لبنان، وإنما تأتي مجموعات كبيرة من داخل البلاد التي تعاني انهياراً اقتصادياً استثنائياً، حيث بات الدولار مساوياً لـ13 ألف ليرة سورية، بعد أن كانت المئة دولار تعادل خمسة آلاف ليرة سورية. يتجاوز هؤلاء الحدود اللبنانية – السورية عبر المعابر غير الشرعية، يصلون بالعشرات على متن شاحنات، مستفيدين من حالة الفساد، حيث يدفعون “إكرامية” نحو 50 دولاراً للانتقال إلى الجانب اللبناني عبر منطقة وادي خالد.
بعد وصول هؤلاء إلى لبنان، يتجمعون في مناطق محايدة، بانتظار إشارة المهرب الذي يعلمهم “فجأة” في كثير من الأحيان عن موعد الانطلاق ومكانه، حفاظاً على السرية وعدم كشفهم. في معظم الأحيان، يحدد مكان الانطلاق ليلاً من إحدى نقاط شاطئ عكار العبدة أو المنية، كما بدأ المهربون باستحداث نقاط أخرى على شاطئ القلمون أو حتى البترون في شمال لبنان.
تتقاطع الروايات التي يرددها الأهالي، مع ما سمعناها من أحد الناجين الذين كانوا على متن قارب طرطوس الذي ذهب ضحيته104 ركاب، ونحو 40 مفقوداً، و20 ناجياً. يشير الناجي إلى أنه عند منتصف الليل، يطلب من الركاب التوجه إلى نقطة مظلمة في منطقة ببنين يحددها المهرب، وبعد ذلك ينقل الركاب بواسطة شاحنة بيك آب إلى منطقة زراعية، تعتبر “منطقة تجميع”. بعد ذلك، تبدأ عملية النقل إلى مركب صيد، يجري تحميله بما يقارب الـ60 شخصاً.
يضيف الناجي بعد ذلك يتجه مركب الصيد إلى وسط البحر، حيث يكون بانتظارهم قارب الرحلة نحو إيطاليا. يغلب على هذه القوارب الاكتظاظ، حيث يمضي الركاب معظم الوقت وقوفاً، أو يتناوبون بالجلوس على غالونات الوقود أو الأمتعة. يلفت الناجي الذي لا يزال يعاني من صدمة نفسية، أنه مع انقشاع الليل، يذهل الراكب بالمشهد، ويكتشف أن أعداد الركاب أضعاف ما هو متفق عليه مع المهرب. ويصل أحياناً إلى المئات.
تجارة مربحة
تعود تلك الرحلات بأرباح عظيمة على تجار البشر، لا يأبه المهرب بالمخاطر التي يتعرض لها الركاب، فهو يستغل حالة اليأس التي يعيشها هؤلاء في ظل الواقع المعاش، وحالة اللاستقرار، ويعمل مباشرة أو عبر وسطاء على تضخيم المنافع التي يجنيها المهاجر عند وصوله إلى أوروبا.
يؤكد الناجون وأهالي الضحايا أن الأسعار تتراوح بين خمسة وثمانية آلاف دولار أميركي لقاء الراكب الواحد. ويقول أحد الناجين الذي كان برفقة زوجته على متن قارب طرطوس، “تقاضى المهرب المشهور بـ”أبو علي نديم” خمسة آلاف دولار أميركي من كل واحد منا، وكان يشترط قبض الجزء الأكبر من المبلغ قبل الانطلاق في عرض البحر”. وقد أسهم نجاح تلك الرحلات وتحقيق الأرباح الهائلة، في تشجيع مزيد من العائلات في ببنين وسهل عكار، وعصابات سورية في خوض تلك التجربة، فقد بدأت تلك الرحلات بالعشرات، ولكن سرعان ما أصبحت تجتذب المئات، وبات التجار يستقدمون قوارب كبيرة من طرطوس وأرواد من أجل تنظيم عمليات هجرة ضخمة. وإذا ما أخذنا في الاعتبار قارب طرطوس نموذجاً للدراسة، فلقد كان على متنه نحو 170 راكباً، في حال تقاضى المهرب خمسة آلاف دولار في الحد الأدنى من كل راكب، فإن الرحلة تكون قد حققت له 850 ألف دولار أميركي. يعلق أحد المطلعين في بلدة ببنين على الأمر، “كيف تريد وقف هذه الظاهرة إذا كان المهرب يحقق في كل رحلة مليون دولار في ظل هذه الأزمة الاقتصادية، والانهيار المالي الرهيب؟”، لافتاً “ليس من قبيل المبالغة القول إن المهربين يمتلكون لوجيستياً ما لا تمتلكه الأجهزة الأمنية الرسمية، وأقله العبء الكبير الناجم عن كلفة الوقود للدوريات البحرية، وصعوبة تأمين العناصر الكافية”.
في المقابل، انعكست تلك الرحلات على النسيج الاجتماعي لبعض البلدات، التي أصبحت خالية من الشباب، كما تسببت في توتر العلاقات بين الأهالي، الذين يتهمون المهربين بالتغرير بأبنائهم. في ما، لا يمانع بعض الأهالي بخوض أبنائهم البحر من أجل تأمين مستقبلهم في ظل الأوضاع السيئة جداً في لبنان وسوريا.
القمع على قدر الاستطاعة
في إطار التعاون بين لبنان والدول المطلة على المتوسط لكبح جماح موجات الهجرة، زار وزير الداخلية القبرصي كونستانتينوس يوانو بيروت، نهار الخميس 27 يوليو (تموز)، والتقى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، ووزير الداخلية بسام مولوي، و”تركز البحث حول موضوع الهجرة غير الشرعية” بحسب البيان الرسمي المقتضب، فيما أشارت المعلومات إلى “إنشاء شبكة من نقاط الاتصال لتسهيل تبادل المعلومات وتوثيق التعاون في الحد من تدفقات الهجرة غير النظامية”، وتسيير دوريات أمنية مشتركة.
على الضفة اللبنانية، تبذل القوى الأمنية جهدها من أجل قمع عمليات تهريب البشر، وتشير الأوساط إلى العمل الجدي الذي يقوم به الجيش اللبناني في البحر، وفرع المعلومات على البر. وخلال يوليو، دهمت دورية من استخبارات الجيش اللبنانيين بتاريخ السابع من يوليو أحد المنازل في ببنين العكارية، وألقت القبض على سبعة متورطين في شبكة التهريب، وضبطت في حوزتهم أسلحة حربية وذخائر، كما أوقفت في اليوم التالي، خمسة أشخاص من الجنسية السورية أثناء تحضيرهم لعملية تهريب بشر عبر البحر إلى إحدى الدول الأوروبية في بلدة سلعاتا – البترون، كما أوقفت 49 سورياً بينهم أطفال ونساء كانوا متجهين للانضمام إلى الرحلة.
أما على مقلب شعبة المعلومات، فقد قامت بعملية نوعية في تاريخ الثامن من يوليو، حيث أوقفت 231 شخصاً كانوا يستعدون للهرب بحراً إلى إيطاليا. حيث تقاضى المهرب بين ستة وسبعة آلاف دولار أميركي. ونفذ عناصر الشعبة عمليتين، الأولى على طريق المنية- الضنية، حيث أوقفت إحدى الدورية 111 سورياً، من بينهم أطفال ونساء. أما الثانية، فكانت في منطقة المحمرة، حيث أوقفت 120 سورياً آخر. ويقود إجراء عملية حسابية لتوقع المردود الخيالي للمهرب وداعميه، ومساعديه، يصل إلى 1.6 مليون دولار أميركي.
أما في 16 من يوليو، فقد قامت بكمين في بلدة المحمرة شمال لبنان لـ”5 فانات هيونداي ممتلئة بالركاب”، وأوقفت سبعة مهربين من الجنسيتين اللبنانية، والسورية. وأوقفت 79 شخصاً سورياً دخلوا خلسة إلى لبنان، من بينهم 13 راكباً كانوا بصدد المغادرة بحراً إلى أوروبا.
إيطاليا تتحرك
تتحرك الدول الأوروبية وتحديداً إيطاليا لوضع حد لحركة الهجرة غير النظامية. في المقابل، تزداد معاناة المهاجرين العالقين على شواطئ شمال أفريقيا تحت الأشعة الحارقة من دون طعام أو شراب.
وفي العودة قليلاً إلى الوراء، أعلنت روما 12 أبريل الماضي، “حالة الطوارئ” في عموم البلاد لستة أشهر من أجل مواجهة زيادة موجات الهجرة غير النظامية عبر المتوسط. وفي 23 يوليو الماضي استضافت مؤتمراً دولياً بمشاركة ممثلين من شمال أفريقيا والبحر المتوسط، والشرق الأوسط. إذ ركزت رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني على ما سمته “مسار روما” الذي يتضمن “محاربة الهجرة غير النظامية، وإدارة تدفقات الهجرة القانونية، ودعم اللاجئين، والدعم واسع النطاق لدعم تنمية أفريقيا، خصوصاً بلدان المغادرة – الانطلاق، إذ من دونها سيبقى أي عمل غير كاف”، كما شددت ميلوني التي قامت حملتها الانتخابية في 2022، أن “الهجرة غير الشرعية تلحق ضرراً بجميع بلدان البحر المتوسط”. في موازاة ذلك، وقع الاتحاد الأوروبي وتونس التي تعتبر نقطة انطلاق رئيسة للمهاجرين، اتفاق “شراكة استراتيجية” من أجل تضييق الخناق على مهربي البشر وتشديد الرقابة على الحدود، كما تعهدت الدول الأوروبية بتقديم مساعدات قيمتها 1.1 مليار دولار أميركي لمواجهة حركة الهجرة غير النظامية.