ولم يَعُدْ مفاجئاً أن يكون النزوحُ السوري أحد الملفات الثلاثة الحاضرة على الطاولة في أي اتصالاتٍ لبنانية إقليمية أو دولية على غرار ما جرى خلال المحادثات التي أجْراها أخيراً رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس، قبل أن يبادر إلى «كسر الصمت» في أول اتصال يُجْريه بنظيره السوري حسين عرنوس لإبلاغه بالحاجة إلى التنسيق لترحيل نحو 2500 محكوم وسجين سوري إلى بلادهم.
وعشية الزيارة المرتقبة للرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس برفقة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلايين للبنان، تستمرّ الشكوك في إمكان نجاح المساعي في تفكيك «القنبلة الموقوتة»، التي اسمها ملف النازحين، والمرشّحة للانفجار في كل لحظة.
وعلى مدى نحو 13 عاماً تعمّقتْ أزمة النزوح بعدما تحوّلت مشكلة إنسانية وسياسية واقتصادية وديموغرافية واجتماعية تمتدّ تشعباتها بين لبنان وسورية ودول اللجوء الأوروبية مثل قبرص واليونان وإيطاليا لتصل إلى الأمم المتحدة والمفوضية العليا للاجئين ومعهما الولايات المتحدة والدول الغربية المعنية بقانون قيصر والملف السوري، وسط اقتناعٍ بأن هذه القضية يَحْكَمُها تَقاطُع بين نوعين من «الخائفين»:
– الأوّل يخشى إغضاب المجتمع الدولي بحال أي ترحيل قسري للنازحين، وتالياً يحاول بواقعيةٍ مقايضة ستاتيكو وجودهم (بالصيغة الحالية) بمزيدٍ من المساعدات المليارية.
– والثاني يريد تفادي استفزاز نظام الرئيس بشار الأسد الذي يُعتبر من خصومه في لبنان المانع الأول لعودتهم الآمنة، والذي يسعى إلى تحويل النازحين من شعبه ومعهم لبنان ورقة ضغط على الغرب لابتزازه في ملف إعادة إعمار سورية وكسْر حزام العقوبات.
هو عبء ثقيل تتراكم تداعياتُه حتى تكاد تخنق الكيان اللبناني دولة وشعباً. وإذا كانت الحلول ليست حتماً بيد اللبنانيين وحدهم إلا أنهم قادرين على السير في أولى خطواتها بغية تنظيم الوجود السوري على أرضهم في انتظار تَوافُقٍ بين الأطراف المحلية والدولية والإقليمية على رسْم خريطة طريقٍ لعودة النازحين والالتزام بها.
الحملات الشرسة التي طالت النازحين السوريين في لبنان أخيراً قرعت بشدة جرس الإنذار بأن «طنجرة الضغط» وصلتْ إلى درجة من الغليان تنذر بانفجار مدوٍّ في أي لحظة. جرائمُ قَتْلِ وسرقة واعتداءات شبه يومية أبطالها سوريون، اكتظاظٌ غير مسبوق في السجون اللبنانية التي بلغ عدد السوريين فيها نحو 40 في المئة من مجموع نزلائها بحسب مصادر قوى الأمن الداخلي بعدما ازدادت الجريمة بنسبة 100 في المئة، ويشكّل السوريون 60 في المئة من مرتكبيها وفق إحصاءات الأمن العام. وكادت جريمة قتْل المسؤول القواتي باسكال سليمان أخيراً بعد خطْفه في جبيل من عصابةٍ سورية أن تودي بالبلاد إلى اضطراباتٍ داخلية لا تحمد عقباها.
أرقام مُقْلِقَة تضع اللبنانيين في حال من الخوف والحذر يقابلها رأي إنساني وحقوقي مضاد يقول إن من بين 2.300.000 نازح سوري من الطبيعي وجود نسبة لا تتعدى 5 في المئة من المجرمين والمرتكبين فيما بقية النازحين مسالمون يبحثون عن الأمان ولا بد من إيجاد حلول إنسانية تحفظ لهم حقوقهم الأساسية وأوّلها عدم إجبارهم على عودة قسرية إلى سورية وعدم ممارسة البيوبوليتيك التي تتولاها بعض البلديات في لبنان أي سياسة السلطة الناظمة لحياتهم اليومية والمراقِبة لتحرّكهم في شكل يجرّدهم من إنسانيتهم.
قضية النازحين السوريين أثارتْها النائبة ستريدا جعجع مع وزير الداخلية والبلديات القاضي بسام المولوي، بعد مقتل باسكال سليمان، معلنةً عن أرقام موثقة لأعداد هؤلاء في بعض الأقضية اللبنانية.
وذكرت أن قضاء بشري استطاع تنظيم وجودهم والحد منه في شكل كبير ليصل الى 1000 عامل شتاءً وبحدود 1800 عامل صيفاً تزامناً مع موسم قطف التفاح، فيما الأرقام تتصاعد في الأقضية المسيحية الأخرى لتبلغ 40000 في البترون و62000 في زغرتا و30000 في الكورة و50000 في كسروان.
أما المتن فيستضيف العدد الأكبر مع 150000 نازح ما يجعل العدد في جبل لبنان ومنطقة جزين أي في المناطق المسيحية يصل الى 830 ألفاً.
وطلبتْ جعجع من وزير الداخلية مساعدة البلديات عبر التعاون مع القوى الأمنية على تطبيق المراسيم السابقة الصادرة عن الوزارة التي تعنى بآلية تنظيم الوجود السوري ولا سيما أن لبنان ليس بلد لجوء بحسب القوانين الدولية بل بلد عبور.
وهنا لا بد من التأكيد أن لبنان لم يوقّع اتفاقية جنيف لعام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين والتي ترعى مبدأ دمجهم في الدول المضيفة. كما تم توقيع مذكرة في هذا الشأن بين الأمن العام اللبناني والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عام 2003.
وكان وزير الداخلية أعلن في مؤتمر صحافي أن 300000 فقط من السوريين الموجودين على أرض لبنان يحملون إقامات شرعية و800000 مسجَّلون فيما يبلغ عدد المقيمين بصورة غير شرعية وغير المسجَّلين مليون و200 ألف لاجئ.
وكان الوزير وجّه منذ مايو 2023 كتاباً إلى المحافظين ومن خلالهم الى القائمقامين والبلديات والمخاتير في القرى التي يتواجد فيها نازحون لإطلاق حملةِ مَسْحٍ وطنية لتعداد وتسجيل النازحين السوريين والقيام بتسجيل كل المقيمين منهم ضمن نطاقها.
كما طلب إلى كافة المخاتير عدم تنظيم أي معاملة أو إفادة لأي نازح سوري قبل ضمّ ما يُثبت تسجيله، والتشديد على عدم تأجير أي عقار لأي نازح قبل التثبت من تسجيله لدى البلدية وحيازته على إقامة شرعية في لبنان، إلى جانب إجراء مسح ميداني لكل المؤسسات وأصحاب المهن الحرة التي يديرها النازحون السوريون والتحقُّق من حيازتها التراخيص القانونية لذلك.
ووجّه كتاباً إلى وزارة العدل آملاً التعميم على كل كتّاب العدل بعدم تحرير أي مستند أو عقد لأي نازح سوري من دون بيان وثيقة تثبت تسجيله في البلدية.
لكن وباعتراف الكثير من البلديات وبعد مرور نحو سنة على إصدارها يصعب بل يستحيل تطبيق هذه الكتب نظراً لتداخل المصالح بين اللبنانيين والسوريين من جهة، ولعدم توافر إمكانات بشرية أولاً ولوجستية ثانياً في البلديات لتطبيق هذه القرارات.
وحتى مناشير التهديد التي تطلقها بعض الجهات والقوى في البلدات والقرى لترهيب السوريين والطلب إلى كل مَن لا يحمل إقامة شرعية مغادرة البلدة وعدم العودة إليها، ما هي إلا نوع من التخويف الذي لا يمكن تطبيقه على الأرض.
قرع جرس الإنذار والبحث عن حلول
خلال مؤتمر عقد في مارس 2024 في المقر العام للمديرية العامة للأمن العام أقامتْه وزارة الداخلية لإطلاق خريطة طريق لتنظيم الوضع القانوني للنازحين السوريين وآلية عودتهم، قال اللواء الياس البيسري المدير العام للأمن العام بالإنابة: «تسلّمنا أخيراً قاعدةَ بياناتٍ من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وهي كناية عن 1486000 نازح، دون تصنيفٍ أو تحديد لتاريخ التسجيل أو الدخول إلى لبنان، ما يُعقّد تحديد الوضع القانوني لهؤلاء. وفي الإحصاءات الأخيرة الصادرة عن المفوضية العليا انخفض عدد المسجَّلين منذ العام 2015 وحتى اليوم الى نحو 785000 نازح… ما يعني تضارباً في الأرقام وعدم قدرة على تحديد رقم صحيح للاجئين في ظل عدم القدرة على إجراء مسح شامل لهم».
بتي هندي رئيسة مؤسسة «بيت لبنان العالم» صرّحت في المؤتمر ان «لبنان هو البلد الأوّل في العالم من حيث عدد النازحين مقارنةً بعدد السكان، وهذا الأمر يهدد الأمن والهوية، اذ ان مُقابل كلّ لبنانييْن موجوديْن في لبنان هناك نازح سوري، ومقابل كلّ ولادة لطفل لبناني هناك 4 ولادات لأطفال سوريين من دون أوراق ثبوتية.
اللبنانيون يزيدون واحد في المئة سنوياً، بينما النازحون السوريون يزيدون 4 في المئة سنوياً.
ووفق هذه النسب، ستتساوى أعداد النازحين السوريين بأعداد اللبنانيين في المستقبل المنظور… أما تكلفة النزوح المباشرة على لبنان فهي بحدود مليار ونصف المليار سنوياً وفق البنك الدولي، فيما الكلفة غير المباشرة 3 مليارات دولار أي ما مجموعه 4 مليارات ونصف المليار في السنة، أي خلال 13 عاماً تقدر بـ 58 مليار دولار».
والبعض يشكك في هذه الأرقام ويرى فيها مبالغة ويرفض تحميل الوجود السوري في لبنان وزرَ الأزمة الاقتصادية.
وأبرز المشككين الجمعيات العاملة في مجال حقوق الإنسان ومساعدة اللاجئين.
ولا يخفى على أحد الدور الذي تلعبه المفوضية العليا للاجئين في لبنان حيث ساهمتْ عبر المساعدات الشهرية التي تقدّمها بالدولار الأميركي للنازحين المسجَّلين في دفع هؤلاء إلى البقاء في لبنان بدل العودة إلى سورية وفي تَزايُد عدد الداخلين غير الشرعيين إلى لبنان بغية التسجّل في قوائم المفوضية والحصول على مساعدات رغم أن التسجيل قد توقف رسمياً وفق ما أعلنتْه المفوضية منذ 2015.
نزوح اقتصادي
لكنه إعلان يدحضه رئيس بلدية القاع بشير مطر الذي يقول لـ «الراي»، «ما نراه اليوم من نزوح مستجدّ ليس نزوحاً نتيجة الحرب بل نزوح اقتصادي و90 في المئة من الشباب الذين يدخلون أرض لبنان مطلوبون للخدمة الإجبارية».
ويؤكد أنه «ليس صحيحاً أن مفوضية اللاجئين أوقفت التسجيل منذ 2015 بل استمرت به وإن في شكل غير معلن. وكل مَن يدخل خلسة يقدّم أوراقه للمفوضية ويتم تسجيله وهذا ما نلحظه في منطقتنا. وقد حصل الكثيرون من اللاجئين على بطاقات مكتومي قيد مزورة استعملوها لفتح مؤسسات وأشغال».
مفوضية اللاجئين التي حاولْنا التواصل مع أحد المسؤولين فيها نصحتْنا بعدم الخوض في هذا الموضوع حالياً نظراً لحماوة الأوضاع على الأرض.
فهي تسعى إلى لملمة الأمور ومنْع انفجار الوضع بين اللبنانيين والسوريين رغم كونها على دراية تامة بتزايد أعداد الجرائم التي ينفّذها لاجئون سوريون.
وقد أثارت حملة UNDO The Damage الإعلانية التي توجّهت مباشرة إلى المفوضية العليا موجة استنكارٍ فيها، إذ جعلتْها السببَ الأساسي في محاولاتِ دمج السوريين في المجتمع اللبناني ومنع عودتهم إلى سورية، وتالياً اللعب على حافة النار والدفع نحو انفجار سكاني وديموغرافي.
وحاول مقربون من المفوضية من داخل لبنان وخارجه، وفق ما رواه لـ «الراي» سامي صعب، مبتكر ومنفّذ الحملة، ثنيَه عنها، كما تم السعي لإقامة حملات مضادة واتهامه بالعنصرية ضد السوريين للتخفيف من آثار الحملة التي تَفاعَلَ معها إيجاباً غالبية اللبنانيين. لكن صعب يؤكد «أن الضغط على المفوضية هو الطريقة الوحيدة لحلّ قضية النازحين ومن واجبها إزالة الضرر الحاصل والمتنامي عن لبنان. فالمفوضية وعلى سبيل المثال لم تعمد الى إعادة توطين إلا 7490 لاجئاً سورياً مقيماً في لبنان في 2022».
خلال ندوة حول النزوح السوري وعودة النازحين، عرض الدكتور علي فاعور الاختصاصي في دراسة السكان خرائط ووثائق تؤكد أن أسباب تأخر عودة النازحين تعود إلى معارضة المجتمع الدولي لخطة العودة قبل الحلّ السياسي، وتشديد الحصار على سورية ومن ثم تَراجُع الدعم المالي من المانحين الدوليين.
وركّز فاعور على دور المفوضية العليا للاجئين، مع غيرها من المنظمات الدولية، في تنفيذ عمليات الدمج المتكامل على الأراضي اللبنانية، وعدم التقيّد بتطبيق القوانين اللبنانية، ما بات يهدد «ديموغرافية لبنان وهويته» بعد مرور 13 عاماً على استضافة النازحين.
وأَظْهَرَ من خلال دراسة تم إجراؤها أن من أبرز العوائق التي تمنع عودة النازحين، المساعدات النقدية التي تشجّع أيضاً على المزيد من موجات الهجرة خصوصاً من الشباب القادمين إلى لبنان للحصول على الدعم المالي والصحي والتعليمي والغذائي الذي توفّره لهم الأمم المتحدة في بلاد الأرز، بحيث إن عدد النازحين بات يتزايد بأضعاف عدد اللبنانيين في الكثير من المناطق، خصوصاً في مناطق البقاع المواجِهة للحدود البرية بين لبنان وسورية، وكذلك في مناطق الشمال في طرابلس وعكار والضنية، والبترون، والضواحي الفقيرة في بيروت وصيدا… وتستخلص الدراسة أن عودة النازحين السوريين بعيدة جداً، فقد تحوّل لبنان مخيّماً كبير للنزوح السوري الطويل الأمد والذي لا مثيل له في العالم.
«الكأسُ المُرّة» وصلتْ إلى قبرص واليونان حيث بدأت أعداد اللاجئين المتّجهين إلى هذين البلدين بطريقة غير شرعية انطلاقاً من لبنان تتزايد، ولم تعد الجزيرةُ الصغيرةُ قادرةً على استيعاب الأعداد المتزايدة ما دفع برئيسها نيكوس خريستودوليدس إلى زيارة لبنان على رأس وفد وزاري، للتداول بهذا الملف والحضّ على التشدد في منع الهجرة غير الشرعية، وكان رد لبنان بطلب المساعدة من قبرص للضغط على الدول الأوروبية لإيجاد حلول لملف النازحين وإلا فإن انفجارَه يهدّد كل دول المنطقة.
مؤتمر بروكسيل
وفي انتظار نهاية شهر مايو حيث سيُعقد في بروكسيل مؤتمر دولي لبحث أزمة النزوح فإن حلولاً محلية يتم اقتراحها في لبنان أوّلها إجراء مسح شامل لعدد النازحين في لبنان بالتعاون مع البلديات بحيث يصار إلى الإبقاء على كل نازح مستوف لشروط المفوضية، فيما يقفل ملف كل نازح لا يستوفي هذه الشروط وتتوقف عنه المساعدات.
أما بالنسبة لمغادرة هؤلاء فتتم إما طوعاً ومن تلقاء أنفسهم تنفيذاً للقوانين اللبنانية، أو من خلال قافلات عودة تنظّمها الجهات الرسمية اللبنانية بالتعاون مع الجهات السورية أو يتم ترحيل مَن لا يودون العودة إلى بلد ثالث يُعتبر بلدَ لجوءٍ وليس عبوراً كما لبنان.
ولكن هل يمكن للدول المانحة ولا سيما الأوروبية أن ترضى باقتراح الحل هذا الذي يعرّضها لموجات هجرة جديدة؟