صدى الارز

مشاهدة متواصلة
تقاريرنا
أرشيف الموقع
Podcast

المعتقلون والمخفيّون قسراً في السجون السورية: للجنة تحقيق دولية مستقلة

بقلم : دكتور دريد بشرّاوي - مستشار في المحكمة الجنائية الدولية وبروفيسور في القانون الجنائي الدولي في كلية الحقوق والعلوم السياسية التابعة لجامعة ستراسبورغ-فرنسا، محام عام أسبق في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وفي فرنسا

تمهيد

لسوء حظ اللبنانيين تمكّنت مافيا السلطة الحاكمة على مدى عشرات السنين من الإطاحة بملفات عديدة كان آخرها  ملف التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت، جناية ضد الإنسانية أودت بحياة مئات الأبرياء من أبنائنا ودمرت الآلاف من المنازل بالإضافة الى تشريد العديد من العائلات، لكن هذه المافيا لما استطاعت تحقيق أهدافها الاجرامية لولا تواطؤ بعض القضاة المسيرين ليس بضمائرهم أو بشرفهم المهني وانما بمنافعهم الشخصية وبتبعيتهم للسلطة التي عينتهم تارة وبخضوعهم لدويلة السلاح تارة أخرى، وما تنازع الصلاحيات وطلبات الرد والتنحي والمناورات التي حصلت في قضية تفجير مرفأ بيروت وتم بموجبها الافراج عن المدعى عليهم في هذه القضية الخطيرة الا فصلا من فصول مؤامرة تهدف الى طمس حقيقة هذه الجناية المروعة ومنع عائلات الضحايا واللبنانيين من الاطلاع على تفاصيل المؤامرة المحاكة ومن ثم الى حفظ أي تدبير أو اجراء قضائي قد يؤدي الى مساءلة الفاعلين أو الى وضع حد لتفلت المجرمين من العقاب.

لكن جريمة تفجير مرفأ بيروت ليست الوحيدة التي جهّلت فيها مافيا السلطة الحاكمة هوية الفاعل إخفاء لاشتراكها الجرمي، اذ عودتنا هذه المافيا منذ عقود على طمس الحقائق وتدعيم سياسة الإفلات من المساءلة والعقاب والتغطية على قضية إنسانية مقدسة كانت حتى اليوم وللأسف طي الكتمان ألا وهي قضية المعتقلين والمغيبين قسرا في دهاليز السجون السورية  التي لم أتوقف يوما، منذ العام 2004 ،عن متابعة توثيق وقائعها وموادها الاثباتية امام المحكمة الجنائية الدولية، والدفاع عن هذا الملف الذي أحاله عليّ الصديق الصحافي بيار عطالله، وهو كان قد عمل جاهدا على تبيان حقائق هذه القضية الإنسانية بامتياز.

ورغم انسحاب القوات السورية من لبنان منذ العام 2005 وإقامة علاقات دبلوماسية وتبادل سفراء بين البلدين، بقي هذا الملف مدفونا في أقبية بعض اللجان اللبنانية. وما زاد في هذا الوضع سوءا هو الموقف العار الذي اتخذته مافيا السلطة السنة الماضية بشخص وزير خارجيتها ابو حبيب الممالق للنظام السوري وذلك بالامتناع عن التصويت بتاريخ 30 حزيران 2023 على مشروع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بإنشاء مؤسسة دولية هي الأولى من نوعها، تعمل على كشف مصير ما يقدر بنحو مئة ألف شخص في عداد المفقودين أو المخفيين قسرا خلال الحرب الأهلية في سوريا. يشار الى أن القرار الذي اتخذته الجمعية العامة بأكثرية 83 صوتا وبامتناع 62 دولة عن التصويت بمن فيها لبنان وأكثرية الدول العربية وبمعارضة احدى عشر دولة لا ينص على آلية واضحة لسلطات هذه المؤسسة ويحصر نطاق عملها بالتقصي عن مصير الأشخاص المخفيين والمفقودين خلال الحرب الأهلية في سوريا، ما يطرح العديد من التساؤلات حول كيفية التقصي عن مصير المئات من اللبنانيين المخفيين قسرا في السجون السورية خلال حقبة الاحتلال السوري للبنان.

وبمعزل عن عدم وضوح آلية عمل هذه المؤسسة الدولية، فان أقل ما يقال بالموقف الذي اتخذه وزير خارجية لبنان آنذاك، بأنه موقف جبان، مشين، مخجل، ممالق لنظام سفاح ذبح شعبه وشعب لبنان، وشنيع بحق 622 معتقلا لبنانيا ومنهم المطرانين بولس اليازجي ويوحنا ابراهيم والصحافي المصور سمير كساب، والمعتقلين بطرس خوند وجوزف صادر والراهبين الانطونيين البير شرفان وسليمان ابو خليل والمخفيين منذ العام 1976 بشارة رومية، الجندي قيصر فرنسيس والشماس مخيبر مراد، وغيرهم كثر وكثر. أضف الى ذلك أن هذا الموقف عبّر في حينه عن امعان الحكومة اللبنانية في تموضعها خلف دويلة السلاح والخضوع لقراراتها، ما وجّه ضربة قاسية لدور لبنان الريادي في الدفاع عن حقوق الانسان، وما يعد خرقا واضحا لمقدمة الدستور اللبناني والتزامات لبنان الدولية ومن بينها اتفاقية مناهضة التعذيب، واسهاما قصديا في وضع لبنان في مصاف الدول المشجعة على الافلات من العقاب.

إنضموا الى قناتنا على يوتيوب

القرار الرقم A/77/L.79 الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 26 حزيران 2023 بهذا الخصوص ينص على أنه يتوجب على الأمين العام للأمم المتحدة أن يحدد اطار وآلية وشروط عمل هذه المؤسسة بهدف توضيح مصير الأشخاص المفقودين وذلك خلال ثمانين يوما من تاريخ صدوره على أن يتم تقديم الدعم الملائم للضحايا ولعائلات الأشخاص المخفيين بتعاون ومواكبة كل الأطراف المعنية في سوريا مع ضمان اشتراك فعلي وكامل لهؤلاء الضحايا والعائلات أو تمثيلهم في أعمال انشاء هذه المؤسسة ونشاطاتها  وعلى أن تقوم المؤسسة بشكل منتظم باستشارة المنظمات النسائية وغيرها من المجتمع المدني.

وعلى الرغم من أهمية هذه الخطوة، فإنها لم تف بالغرض المطلوب ولم تحقق حتى الآن الآمال المرجوة بالكشف عن مصير المئات من اللبنانيين المخفيين قسرا في السجون السورية خصوصا وأن القرار الذي أنشأها لا ينص على آلية عملها وعلى شروط قيامها بما يلزم من أجل التوصل الى كشف مصير هؤلاء الأشخاص المخفيين قسرا في أقبية سجون نظام دموي دكتاتوري ولا على تحديد واضح لاختصاصها ولا حتى على آلية تنفيذية تمكنها من القيام بمهامها. ويعتقد أن هذا القرار قد شكّل في حينه ورقة ضغط سياسي ومعنوي لا أكثر في يد الولايات المتحدة الأميركية كانت ستستعملها في حال تقاعس نظام الأسد عن تنفيذ ما سيطلب منه لا سيما بعد عودته الى جامعة الدول العربية والانفتاح العربي المستغرب عليه. أما وقد بقي هذا القرار من دون تنفيذ على مدى سنة ونصف السنة، فلا بد من القيام اليوم بتنفيذه وبما يلزم من اجراءات من اجل الكشف عن مصير كل الذين كانوا مخفيين قسرا في دهاليز سجون النظام السوري ومساءلة ومحاكمة بشار الأسد وكل قواده وكل من ساهم بارتكاب هذه الجرائم فاعلا أم شريكا أم محرضا أم متدخلا أو مغطيا بجنايات ضد الانسانية.

وقد لا يكون موقف الحكومة اللبنانية من قرار الأمم المتحدة المذكور أعلاه مستهجننا أو مستغربا وهي التي لم تسأل يوما عن مصير ما لا يقل عن 622 مخفيا لبنانيا في سجون النظام السوري بحسب اللوائح المسجلة من قبل الأهالي، وحتما هناك مخفيون ومفقودون آخرون بالمئات عدا عن الذين ماتوا تحت التعذيب وتم دفنهم في مقابر جماعية وخنادق استحدثت تحت سجن تدمر وصيدنايا والمزة وغيرها من السجون التي لم يتم الكشف عنها بعد. وتوجد ادلة مادية وشهادات موثقة على حقيقة وقائع هذه الجرائم المتمادية على مدى عشرات السنين )أولا( والتي تفرض  ضرورة انشاء آلية دولية تحقيقية لكشف مصير المخفيين قسرا في السجون السورية وملاحقة  كل المسؤولين عن ارتكاب هذه الجنايات فاعلين كانوا أم آمرين أم مشتركين أم متدخلين أم محرضين أم مغطين أم مخبئين أمام قضاء دولي خاص او أمام قضاء المحكمة الجنائية الدولية اذا أمكن )ثانيا(.

أولاً: في وقائع جنايات الاختفاء والاعتقال القسري في دهاليز السجون السورية

هناك العديد من الشهادات والقرائن والأدلة الموثقة التي تثبت حقائق جنايات الاختفاء والاعتقال القسري في السجون السورية المرتكبة بحق المئات من اللبنانيين على مدى عشرات السنين وطوال فترة الوصاية السورية وحكم دويلة الحزب)ألف(.هؤلاء لم يتم الكشف حتى اليوم عن مصيرهم رغم بعض الجهود والخطوات التي بذلت على هذا الصعيد )باء ( .

ألف: شهادات وقرائن وأدلة على جرائم الاختفاء والاعتقال القسري في السجون السورية

ان هذه القضية الانسانية للمعتقلين والمخفيين اللبنانيين قسرا في السجون السورية تعود إلى مطلع سنوات الحرب التي عرفها لبنان منذ منتصف السبعينيّات. فمع احتدام هذه الحرب عام 1976، دخلت قوات الاحتلال السورية تحت ذريعة وقف النزاع المسلح في لبنان، وبقيت تسعة وعشرين عاماً هيمنت خلالها على لبنان وقراراته السياسية والأمنيّة وعلى مقدّراته المالية والاقتصادية. وعلى مدى هذه الأعوام من حكم المخابرات السورية في لبنان، اعتقلت قوات النظام السوري بالتواطؤ مع الأجهزة الأمنية اللبنانية وبصورة غير قانونية العديد من اللبنانيين بذرائع مختلفة وخصوصا السياسية منها ومارست ضدهم شتى ضروب التعذيب والتنكيل الوحشية والمخالفة لكل القواعد القانونية والمبادئ الدولية المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب والمعتقلين السياسيين المنصوص عليها في اتفاقيات جنيف لعام 1949، ومنذ ذلك الحين بات مصير هؤلاء مجهولاً.

تتوفر المئات من الشهادات التي تثبت أن عدد المعتقلين اللبنانيين ناهز ال 622 مواطناً تم توثيق وجودهم في السجون السورية، لكن مصيرهم ما زال مجهولاً حتى اليوم وحتى بعد سقوط نظام الطاغية بشار الأسد. وتشير المعلومات إلى قرائن عديدة عن وجود عدد من اللبنانيين في السجون السورية، حيث أكد شهود عيان سوريون فروا من هذه السجون أن من بين المعتقلين في سجون فروع المخابرات السورية لبنانيين ما زالوا أحياء يرزقون. وكان قد كشف الشاب السوري عمر الشغري أنه شهد، خلال فترة اعتقاله في سجن فرع الأمن سنة 2015، وجود معتقلين لبنانيين منذ أكثر من خمسة وعشرين سنة.

رئيس جمعية “المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية”، السيد علي أبو دهن، أكد ويؤكد أيضا أن هناك احتمالاً كبيراً لوجود معتقلين لبنانيين أحياء في السجون السورية، لأن المصور العسكري السوري السابق الملقب بقيصر المنشق عن نظام الأسد عام 2014 بدأ مهمّته هذه منذ الثمانينيات. وبالتالي، باتت السجون السورية موثقة وبات في الإمكان متابعة هذا الملف وكشف أثر جميع الذين اعتقلوا في تلك السجون.

أضف الى ذلك ما تسرب قبل سنوات وما بات يُعرف بـ”وثائق دمشق” التي أكدت أنّ السلطات السورية تحتجز لبنانيين في عدد من السجون والمعتقلات، من بينها سجون المزّة وصيدنايا وفرع فلسطين، وأنّ النظام السوري نفّذ أحكام إعدام بحقّ أربعة معتقلين لبنانيين، فيما قضى بعضهم تحت التعذيب. وهذا ما جاء في إفادات عدد كبير من المخفيين الذين أطلق سراحهم قبل العام 2008 وشهادات العشرات من اهالي المعتقلين الذين كانوا يزورون من وقت الى آخر ابناءهم في السجون السورية. وما يثبت عدم صحة التصريحات السورية واللبنانية التي نفت وجود اي لبناني محتجز بصورة غير شرعية في السجون السورية، اعتراف السفير السوري عماد مصطفى خلال العام 2005 في العاصمة الاميركية بوجود عدد من “المعتقلين السياسيين اللبنانيين في سوريا “.

وعلى هذا الصعيد، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أعداد المعتقلين في السجون السورية. فوفقا لتقريرها الصادر في العام 2022، هناك ما لا يقل عن 131 ألفا و469 شخصا ما بين معتقل ومختف قسريا لدى النظام السوري، وهذا ما هو راسخ بالفعل في قاعدة بياناتها الموثقة ضمن برنامج إلكتروني خاص يلتزم بمعايير دقيقة لتحديد حادثة الاعتقال التعسفي، مستندا بذلك إلى أحكام القوانين الدولية ومجموعة المبادئ المتعلقة بالإخفاء القسري.

باء: الجهود والخطوات الرامية الى كشف جنايات الاختفاء والاعتقال القسريين في السجون السورية

رغم عمليات التوثيق هذه وأهميتها، لم يحدث  قبل سقوط النظام السوري في قضية المعتقلين والمخفيين اللبنانيين قسرا في السجون السورية أي تقدم يُذكر، هذا مع العلم أن قرارات عدة لمجلس الأمن الدولي وللجمعية العامة للأمم المتحدة تتضمن الاشارة الى كل المعتقلين في السجون السورية وليس بشكل خاص الى المعتقلين اللبنانيين وكان آخرها القرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 26 حزيران 2023 والذي أنشأ المؤسسة الدولية للكشف عن مصير الأشخاص المخفيين قسرا في السجون السورية خلال الحرب الأهلية والمشار اليه أعلاه. وفي هذا الإطار، ذكرت لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سوريا في تقريرها للعام 2021 أن “الاختفاء القسري واسع الانتشار في سوريا وقد ارتكبته قوات الأمن عمدا ً على مدار عقود وعلى نطاق واسع، لنشر الخوف وقمع المعارضين وكعقوبة”.

قد بُذلت جهود دولية متعددة على مدار سنوات عدة لمعالجة قضية الاعتقال والاختفاء القسري في سوريا والتوصل إلى حل لهذه القضية، لكنها باءت كلها بالفشل.

فعلى الصعيد الدولي، سعى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى وضع خريطة طريق لحل النزاع الدائر في سوريا من خلال ما يسمى بمسار جنيف وبعض القرارات الصادرة عن هذه المرجعية الدولية كالقرار رقم 2130 (2014) والقرار رقم 2254 (2015). وتضمنت المبادرات الدولية ومنذ السنوات الأولى للنزاع مطالبات واضحة بالإفراج عن المعتقلين والكشف عن مصير المفقودين والمخفيين قسراً. فعلى سبيل المثال، نصَّت الفقرة الرابعة من خطة السلام التي اقترحها “كوفي أنان” الأمين العام السابق للأمم المتحدة، والمؤلفة من ست نقاط، على الإفراج الفوري عن المعتقلين والكشف عن كافة مراكز الاعتقال وضمان الاتصال الفوري بهم والوصول إليهم. كذلك لم تنجح محاولات سابقة بذلها فاعلون إقليميون في التوصل إلى نتائج. فعلى الصعيد العربي، أرسلت جامعة الدول العربية بعثة مراقبين عرب لمراقبة الأوضاع في سوريا والاطلاع على واقع المعتقلين سنة 2011. ومن ثم قدمت البعثة تقريرها الفني للجامعة العربية التي أصدرت بدورها قراراً يطرح مبادرة لحل الأزمة السورية تضمنت مطالبات بالإفراج عن المعتقلين والكشف عن مصير المخفيين قسرا ولكن من دون أي جدوى.

وبذل كذلك المجتمع الدولي جهوداً لضمان محاسبة مرتكبي الجرائم الأشد خطورة ومنها الاخفاء القسري في السجون السورية، فوافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2016 على إنشاء الآلية الدولية المحايدة والمستقلة للمساعدة في التحقيق وملاحقة الأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة بحسب تصنيف القانون الدولي المرتكبة في الجمهورية العربية السورية منذ آذار 2011.

كما بَذلت منظمات المجتمع المدني جهوداً لا يستهان بها لمواجهة جرائم الإخفاء القسري في سوريا من خلال العمل على الكشف عن مصير المفقودين والإفراج عن المعتقلين ومحاسبة مرتكبي هذه الجرائم – بما في ذلك عبر الجهود المبذولة لمحاسبتهم على أساس الولاية القضائية العالمية في بعض الدول الأوروبية – وذلك بموازاة الجهود الحثيثة التي تبذلها كل من اللجنة الدولية للصليب الأحمر واللجنة الدولية للمفقودين.ولكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل على صعيد الكشف عن مصير ضحايا الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب في السجون السورية  ولم تؤد الى إيقاف هذه الممارسات المشينة والخطيرة.

وتأكيدا لهذا الواقع المرير، يفيد التقرير الصادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان في أبريل/نيسان 2021 صراحة بأن النظام السوري كان “يتجنب تقديم أي توضيح نهائي لمصير المختفين قسرياً” وأن “العائلات غالبا ً كان لا يتم إبلاغها بتوقيت أو طريقة وفاة المختفين”. يضاف الى ذلك أن هذه الشبكة تؤكد في التقرير ذاته أن هناك حالات حجب فيها النظام شهادات وفاة العديد من المعتقلين ولم يعلن عنها البتة.

أما فيما خص السلطات اللبنانية، فكان قد قرّر مجلس الوزراء اللبناني تشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً، لمعرفة مصير نحو 17 ألف لبناني هم في عداد المفقودين، منذ بدايات الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، وذلك على أثر صدور القانون رقم 105، الذي أقرّه مجلس النواب اللبناني في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، بعد نضال طويل قامت به لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان والهيئات والمنظمات المحلية والدولية المناصرة لها، اذ أن هذا القانون ينص على إنشاء الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً، وعلى الحق بمعرفة أفراد الأسر والمقرّبين مصير ذويهم المفقودين أو المخفيين قسراً، ومكان وجودهم او احتجازهم أو خطفهم وحق الاطلاع على أي معلومة ومعاقبة من يعرقل الحصول على معلومات أو يساهم في تضليل الحقيقة، كما التعاون والتبادل، وحق الأسر والأفراد بالتعويض المادي والمعنوي .غير أن هذا القانون وهذه الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرا بقيا للأسف حبرا على ورق حتى تاريخه، اذ لم يتحقق منذ تاريخ وجودهما أي تقدم في هذا الملف ولم تنفذ الحكومات اللبنانية المتعاقبة أي اجراء أو تحقيق لإماطة اللثام عن قضية المعتقلين قسرا في السجون السورية، هذا عدا عن أنها لم تطالب السلطات السورية القيام بأي تدبير يذكر. كما أنها لم تطلب من الأمم المتحدة ولا من اللجنة الدولية لحقوق الانسان القيام بأي تحقيق أو التدخل لدى السلطات السورية بهدف اجبارها على الكشف عن مصير مئات المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، ما يوجب انشاء آلية دولية تحقيقية تعمل على كشف مصير المخفيين اللبنانيين قسرا في السجون السورية.

ثانيا: في ضرورة انشاء آلية دولية تحقيقية لكشف مصير المخفيين قسرا في السجون السورية وملاحقة كل المسؤولين عن ارتكاب هذه الجناية ضد الانسانية.

أخفقت كل الجهود الدولية المشار اليها أعلاه في الكشف عن مصير الآلاف من المخفيين اللبنانيين والسوريين في السجون السورية وفي وضع حد فعال وناجع للاعتقال التعسفي وللإخفاء القسري ولشتى أساليب وأعمال التعذيب التي كانت تمارس في هذه السجون. هذا مع العلم ان الممارسات المذكورة تشكل انتهاكا خطيرا لحقوق الانسان المعترف بها دوليا (ألف)، ما يفرض إخراج هذه الجرائم من ولاية القضاء اللبناني )باء( ، واحالة القضية برمتها على لجنة تحقيق دولية مستقلة أو على لجنة دولية لتقصي الحقائق تمهيدا لمساءلة ومحاكمة الفاعلين والمشتركين والمحرضين والمغطين والمتدخلين أمام قضاء دولي خاص Ad Hoc او أمام المحكمة الجنائية الدولية ) جيم (، لاسيما أن هذه الأفعال تشكّل جنايات ضد الإنسانية بامتياز (دال) .

ألف: الاخفاء أو الاعتقال القسري: انتهاك خطير لحقوق الانسان المعترف بها دوليا

ان ما تعرض له المعتقلون اللبنانيون والسوريون وغيرهم من المخفيين في السجون السورية  من أعمال تعذيب ومعاملة وحشية ومهينة للكرامة الإنسانية ومن حرمان لحريتهم، يعد جناية بشعة ضد الانسانية وانتهاكاً خطيراً لأبسط قواعد حقوق الانسان المنصوص عليها في الاتفاق الدولي المتعلق بمكافحة التعذيب والمعاملة غير الإنسانية والحاطة بالكرامة التي تمارس ضد السجناء الصادر عن الامم المتحدة بالقرار رقم 39/46 تاريخ 10 كانون الاول 1984، وفي البيان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 كانون الاول 1975 والمتعلق بحماية الاشخاص المعرضين لأعمال التعذيب وللمعاملة الوحشية وغير الإنسانية، لاسيما وأن هذه الانتهاكات للقانون الانساني الدولي ترتكز على بواعث وخلفيات سياسية محضة (م 3 و5 من الاعلان العالمي لشرعة حقوق الانسان وم 7 و9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية). يضاف الى ذلك ان هذه الافعال، التي ثبتت علنا بعد سقوط النظام الدموي والدخول الى معظم السجون المعروفة والاستماع الى شهادات العديد من المخفيين المحررين، تشكل خرقاً فاضحاً لما جاء في الاعلان العالمي لحماية كل الاشخاص من “الاختفاء القسري” الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في تاريخ 18 كانون الأول/ديسمبر1992 بالقرار رقم 133/47 حول وجوب اعتبار كل عمل من اعمال الاخفاء القسري جريمة ضد الكرامة الإنسانية ومدانة بوصفها انكاراً لمقاصد ميثاق الامم المتحدة، واعتداء صارخاً وخطيراً على حقوق الانسان والحريات الاساسية التي وردت في الاعلان العالمي لحقوق الانسان.

لذلك، وعلى الرغم من ان قانون العقوبات اللبناني يعاقب على اعمال الخطف والاحتجاز غير المشروعة بالأشغال الشاقة المؤبدة إذا لم يطلق الشخص المخطوف خلال فترة شهر من تاريخ اختطافه او احتجازه، يمكن اخراج جرائم اخفاء عدد من اللبنانيين قسرا في السجون السورية او في غيرها من السجون من نطاق اختصاص المراجع التحقيقية القضائية اللبنانية الحالية لأسباب موجبة متعددة، كما يمكن وصف هذه الافعال بالجرائم الدولية تمهيدا لإحالتها على لجنة تحقيق دولية مستقلة أو لجنة دولية لتقصي الحقائق.

باء: الاسباب الموجبة لإخراج قضية اختفاء اللبنانيين قسرا من نطاق اختصاص مراجع التحقيق اللبنانية واحالتها على مرجع تحقيقي دولي

يذكر ان الاغفال الدولي لقضية المعتقلين والمخفيين اللبنانيين قسرا في السجون السورية هو نتيجة واضحة لإهمال ثابت من قبل السلطات السياسية اللبنانية، وذلك على صعيد تقصّي الحقائق ومتابعة هذه القضية الانسانية توصلا لكشف كل تفاصيلها، بحيث لم تعمل هذه السلطات على وضع الامور في نصابها وعلى اتخاذ الاجراءات الآيلة الى الكشف عن مصير هؤلاء المغيبين في السجون السورية. هذا باستثناء بعض الاجراءات غير الفعّالة التي اتخذت، ومنها تأليف لجنة تحقيق بموجب قرار الحكومة بتاريخ 24 ك2 سنة 2000، وتشكيل هيئة تلقّي شكاوى أهالي المفقودين بموجب القرار رقم 1/2001 الصادر عن رئيس مجلس الوزراء الشهيد رفيق الحريري بتاريخ 5 كانون الثاني 2001. وحيث كان من المفترض برئيس الجمهورية السابق ميشال عون القيام بكل ما يلزم في هذا الإطار والتدخل لدى السلطات السورية ولدى حليفته دويلة السلاح للكشف عن مصير هؤلاء المعتقلين، مرت ست سنوات من عهده الكارثي من دون أن يحرك ساكنة أو أن يقوم بما يمليه عليه ضميره وواجبه الوطني والدستوري لإماطة اللثام عن هذه القضية المحقة، وذلك على الرغم من أن من بين هؤلاء المعتقلين عدد لا يستهان به من ضباط ورتباء وافراد كانوا في صفوف الجيش اللبناني تحت إمرته يوم كان رئيسا لحكومة انتقالية في العام 1990 وعلى الرغم من اطلاعه شخصيا في باريس على تفاصيل الملف وكل مواده الاثباتية، ما يمكن اعتباره اشتراكا جرميا في هذه الجناية ضد الانسانية حيث أن من أسس العدالة هو أن السكوت عن الجريمة وإدارة الظهر لها بأية حجة كانت يشكل بحد ذاته مساهمة جرمية تطال الأفراد الذين اختاروا السكوت عن الجريمة المرتكبة. فكيف بالحري إذا كان هذا الساكت الممتنع رئيسا مسؤولا؟ ميشال عون أمعن بهذا السكوت الجرمي المخزي وبالتغاضي عن هذه الجريمة البشعة ارضاء للنظام السوري ولحليفته دويلة السلاح، وخصوصا خلال زيارتين لبشار الأسد في العاصمة السورية دمشق في العامين 2008 و2023 حيث بحث معه أمورا سياسية تخص مصالح صهره الانتخابية من دون أن يأتي على ذكر قضية المخفيين اللبنانيين في السجون السورية. يضاف الى ذلك أنه غطى علنا جرائم هذا النظام البشعة مؤكدا ان ” لا معتقلين لبنانيين في السجون السورية” وان ” على اللبنانيين الاعتذار من النظام السوري”.

على صعيد آخر يذكر ان اجهزة القضاء اللبناني لا زالت عاجزة عن القيام بمهمات القاء القبض على المسؤولين العسكريين والمدنيين اللبنانيين والسوريين المتورطين في عمليات اخفاء قسري لمئات من اللبنانيين، تمهيداً لإحالتهم على المحاكم اللبنانية المختصة لمحاكمتهم. ويأتي هذا العجز كنتيجة لوصاية سورية طويلة الامد مارسها النظام السوري على لبنان، ولاستمرار هذه الوصاية حتى بعد الانسحاب العسكري السوري بفعل دويلة السلاح التي شلت ولا زالت كل قدرات القضاء اللبناني واجهزته بالهيمنة عليه وبتهديد وترهيب وترغيب بعض قضاته.

يشار الى أن عمليات الاعتقال التي قام بها النظام السوري والمليشيات التابعة له في لبنان إنما هي أقرب إلى عمليات خطف، حيث كانت تتم من دون أية مذكرة قضائية قانونية، وغالبا ما كانت قوات الأمن التابعة لأجهزة المخابرات السورية هي المسؤولة عنها، بعيدا عن السلطات القضائية اللبنانية التي تلكأت عن القيام بواجباتها ازاء عمليات خطف مواطنين لبنانيين على يد اجهزة وميليشيات لبنانية وتسليمهم لأجهزة المخابرات السورية. فالنائب العام التمييزي لم يحرك آنذاك ساكناً، وفق شهادات اهالي المفقودين، وخصوصاً تلك التي تم الادلاء بها خلال حلقة من حلقات برنامج “كلام الناس” خصصها الاعلامي مارسيل غانم لقضية المفقودين والمخفيين قسراً في السجون السورية في نيسان عام 2005. ولم يفتح القضاء اللبناني اي تحقيق في عدد من قضايا المخفيين والمخطوفين اللبنانيين على يد بعض الاجهزة الأمنية اللبنانية والاجهزة السورية متجاهلا الشكاوى والاثباتات الجدية والموضوعية التي قدمت له من شهادات وافادات وكتابات ورسائل واوراق وكان آخرها الشكوى الجزائية التي تقدم بها حزب القوات اللبنانية لدى النيابة العامة التمييزية بتاريخ الحادي عشر من كانون الأول 2024 والتي يطلب بموجبها الكشف عن مصير المخفيين قسرا في السجون السورية واصدار مذكرة توقيف غيابية بحق بشار الأسد وكل من يكشفه التحقيق فاعلا أم شريكا أم متدخلا أم مغطيا أم مسهلا لهذه الجرائم.

جيم: في ضرورة احالة القضية على لجنة تحقيق دولية مستقلة

ازاء رفض السلطات اللبنانية (من سياسة وقضائية وأمنية) المتعاقب والمستمر القيام بما يلزم من إجراءات لتحديد وتوضيح تفاصيل هذه القضية وللتدخل لدى الحكومة السورية ولدى المراجع الدولية المختصة بهدف الكشف عن مصير المخفيين والمعتقلين اللبنانيين قسرا في السجون السورية وإعطاء كافة المعلومات عن مصيرهم، يتوجب على الامم المتحدة ان تضع يدها على هذه القضية الانسانية الخطيرة التي تنم عن خرق فاضح للقانون الانساني الدولي. هذا ما كان قد دعا اليه تقرير نقابة المحامين في  بيروت الذي صدر في العام 2005 مشيرا الى أنه “اذا ما استمرت السلطة اللبنانية في تجاهل ملف المخفيين والمفقودين قسرا وفي التغاضي عن حالات الاختفاء القسري والتقاعس عن التقصي والمراجعة والسؤال والمطالبة بمعتقليها في السجون والمعتقلات السورية، بجميع الطرق المناسبة والمقتضاة…” يعتبر، في هذه الحال، تدخل المراجع الدولية في هذه القضية موجبا انسانيا يقع على عاتق الامم المتحدة”، وذلك بالتأسيس على تقاعس الحكومات اللبنانية المتعاقبة وحتى الحكومة الحالية عن القيام بواجباتها القانونية والدستورية على هذا الصعيد، وعلى ما يحوم حول الاجهزة الأمنية اللبنانية التي كانت تمسك بالوضع الامني في ظل عهد الوصاية السورية من شبهات تدل على اشتراكها بارتكاب جرائم الاختفاء القسري لمئات من اللبنانيين وترحيلهم وتسليمهم الى السلطات الامنية السورية. وللأمم المتحدة أن تقرر، بالتأسيس على ما تقدم، احالة هذه الجرائم الدولية اما على اللجنة الدولية لتقصي الحقائق في سوريا واما على المؤسسة الدولية الخاصة بالمخفيين في السجون السورية والتي أنشأتها الهيئة العامة للأمم المتحدة بقرارها الصادر بتاريخ 26 حزيران 2023 خصيصا للتقصي عن حقيقة اختفاء واعتقال الآلاف من الأشخاص في سوريا، وذلك كون السلطات اللبنانية فشلت أو عجزت عن القيام بالتزاماتها القانونية بالتحقيق وبمحاكمة الاشخاص المشتبه بارتكابهم الجرائم المذكورة وكون هذه الجرائم تهدد الأمن والسلم الدوليين وهي قد تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية عملا بأحكام المواد 7)ط( 13 و17 من نظامها الأساسي، كما يمكن للأمم المتحدة أن تقرر انشاء لجنة تحقيق دولية مستقلة، وهو الحل الأفضل والأنسب، لمباشرة التحقيق في قضية الأشخاص اللبنانيين المخفيين والمعتقلين قسرا في السجون السورية وفقا لمعايير القانون الانساني الدولي والقانون الجنائي الدولي تمهيداً لإحالتها اما على محكمة جزائية دولية خاصة Ad Hoc بقرار من مجلس الأمن واما على المحكمة الجنائية الدولية بطلب من الحكومة اللبنانية في حال وافقت على التنازل عن صلاحية المحاكم اللبنانية في هذا القضية.

ان اخفاق المراجع الوطنية والدولية في تحقيق أية انجازات على صعيد الكشف عن مصير آلاف الأشخاص المخفيين قسرا في السجون السورية منذ وقت طويل يشير الى أن ثمة حاجة إلى البحث عن آلية جديدة للقيام بتحقيق قضائي ميداني وشامل وفعال يؤدي الى التوصل الى الحقائق كاملة وتحديد المسؤوليات واحالة القضية برمتها على قضاء دولي من أجل محاكمة الفاعلين والآمرين والمخططين وعلى رأسهم بشار الأسد ومعاونيه والمساهمين في ارتكاب هذه الجرائم كمتدخلين أو مشتركين أو متواطئين أو مغطين من لبنانيين وسوريين. يشار، على هذا الصعيد، الى أن بشار الأسد لا يتمتع بأية حصانة سياسية، ديبلوماسية أو قضائية. أضف الى ذلك أن الحصانات القضائية والصفات الرسمية للموظفين الحكوميين وحتى لرؤساء الدول لا تقوم أمام القضاء الجنائي الدولي لا سيما قضاء المحكمة الجنائية الدولية وذلك عملا بأحكام المادة 27 من نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية التي تنص صراحة على أن ”  1- يطبق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية، وبوجه خاص فإن الصفة الرسمية للشخص، سواء كان رئيساً لدولة أو حكومة أو عضواً في حكومة أو برلمان أو ممثلاً منتخباً أو موظفاً حكومياً، لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسئولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي، كما أنها لا تشكل في حد ذاتها، سبباً لتخفيف العقوبة. 2- لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص سواء كانت في إطار القانون الوطني أو الدولي، دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص”. يضاف الى ذلك أن اللجوء الذي منحته روسيا للرئيس السوري السابق هو محض انساني ولا يحول دون ملاحقة هذا الأخير جزائيا أمام أي قضاء دولي أو حتى وطني يقر بالصلاحية العالمية.

وعليه، يتوجب على الأمم المتحدة أن تشكل لجنة تحقيق دولية مستقلة لمواجهة أزمة الاعتقال والاختفاء القسري في سوريا، يكون هدفها إيجاد الحلول حيث فشلت المبادرات السابقة عن طريق الكشف عن مصير المعتقلين والمخفيين قسراً باستخدام تقنيات متعددة لجمع المعلومات، والبحث عن أماكن دفن الموتى منهم واستخراج رفاتهم والتثبت من هويتهم ومن ثم ضمان تسليم هذه الرفات إلى ذويهم. وينبغي أن تكون صلاحية لجنة التحقيق هذه ذات ولاية عالمية كي تعمل على الكشف عن مصير المخفيين قسراً وتحديد أماكن وجودهم، ما يعني أن صلاحيات التحقيق المكانية لا تكون محصورة بمكان أو ببلد معين وانما يمكنها القيام بكل صلاحياتها في أي مكان من بلدان العالم او المنطقة.

لكن السؤال يبقى مطروحا هنا حول امكان ادخال جرائم الاختفاء والاعتقال القسري لعدد كبير من اللبنانيين في خانة الجنايات ضد الانسانية

دال: الاختفاء والاعتقال القسري: جناية ضد الانسانية؟

يعتبر اتفاق روما الموقع بتاريخ 17 تموز 1998 والذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية الدائمة في لاهاي، أول اتفاق دولي يعرّف الجناية ضد الإنسانية بشكل واضح ومفصل. فالمادة السابعة منه تنص على أن “الجناية ضد الانسانية تفترض ارتكاب أفعال اجرامية في إطار هجوم واسع النطاق او منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم”. ومن هذه الأفعال الاختفاء القسري للأشخاص.

ووفقا لأحكام هذه المادة يؤلف جريمة اختفاء قسري وبالتالي جناية ضد الانسانية “القبض على ِأشخاص او احتجازهم او اختطافهم على يد دولة او جماعة او منظمة سياسية او بإذن منها او برضاها، على أن يستتبع ذلك أي من الامرين الآتيين: 1 – رفض الاعتراف بعملية التجريد او حرمان الحرية، 2 – او رفض اعطاء معلومات عن مصير الاشخاص “المخفيين” بنية تجريدهم من حماية القانون لفترة زمنية طويلة”.

وينبغي التنبيه هنا الى أن كلمة “هجوم” لا تعني بالضرورة هجوما عسكريا، اذ ان الهجوم قد يكمن أيضا في التدابير الامنية القمعية او الادارية او القانونية المتخذة ضد مجموعة من المدنيين بهدف خطفهم او اخفائهم قسرا او ايذائهم او ترحيلهم او اضطهادهم خلافا لأحكام القانون الانساني الدولي. وبهذا الصدد، تؤكد المادة الخامسة من الاتفاقية الدولية التي اعتَمَدَتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأوّل/ ديسمبر 2006 لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري بموجب قرارها A/RES/61/177 والتي دخلت حيّز التنفيذ بتاريخ 23 كانون الأوّل 2010، أنه ” تشكل ممارسة الاختفاء القسري العامة أو المنهجية جريمة ضد الإنسانية كما تم تعريفها في القانون الدولي المطبق وتستتبع العواقب المنصوص عليها في ذلك القانون”.

وكي يشكل جناية ضد الانسانية، يقتضي ان ينفذ الهجوم بدعم السلطة المذكورة وتأييدها او بإذن منها. ولهذا يمكن ان ترتكب الجنايات ضد الانسانية على يد موظف في الدولة او على يد اشخاص منظمين بتحريض وتوجيه من السلطة او النظام الحاكم او أجهزة الاستخبارات التابعة للسلطة الحاكمة او بطريقة السكوت عنهم وغض الطرف عن مخططاتهم التي قد تخدم أهداف السلطة. وتأخذ في هذه الحالة الاخيرة مساهمة السلطة في ارتكاب الجناية ضد الانسانية شكل الفعل السلبي المعاقب عليه بعنوان الاشتراك الجرمي السلبي، ولا يشترط ان يكون الهجوم قد وضع ضمن إطار نزاع مسلح. وهذا ما جاء النص عليه صراحة بأحكام المادة الثالثة من الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري المشار اليها سابقا.

وقد ورد في عدد كبير من افادات الشهود وأهالي المخطوفين أن هناك المئات من اللبنانيين الذين تم اخفاءهم واعتقالهم قسرا وعن سابق تصور وتصميم في المعتقلات السورية، وذلك تنفيذا لمخطط نظام حكومي سوري منهجي ضد عدد كبير من اللبنانيين المدنيين والعسكريين المعارضين للوجود السوري في لبنان وعلى مدى ربع قرن بهدف اقصاء هؤلاء الاشخاص والتنكيل بهم، وذلك بتسهيل وبتواطؤ من بعض الجهات اللبنانية في ظل الوصاية السورية والشخصيات السياسية والأمنية المعروفة، وحتى باشتراك الأجهزة الأمنية الحكومية اللبنانية أحيانا في عمليات خطف هؤلاء الاشخاص وتسليمهم الى الاجهزة الأمنية السورية. وهذا لأسباب سياسية بحتة. أضف الى ذلك انه حتى تاريخه لم تعترف السلطات اللبنانية ولا اجهزتها الأمنية بعمليات الاختطاف والاخفاء القسري والحرمان من الحرية التي مورست في عهد الوصاية السورية وتتمنع تاليا عن اعطاء أية معلومات عن مصير الاشخاص اللبنانيين “المخفيين” قسرا بنية التغطية على الفاعلين والمشتركين والمتدخلين والمحرضين والمسهلين والمتواطئين.

•جرائم ضد الانسانية مستمرة ومتعاقبة

ان هذه الافعال الجرمية، وان كانت بمعظمها مرتكبة قبل تاريخ الاول من تموز 2002، تاريخ دخول النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية حيز التنفيذ، قد تقع ضمن الاختصاص الزمني لهذا القضاء لأنها تعتبر من الجرائم المستمرة او المتعاقبة. غير أنه لا يمكن مبدئيا إحالة هذه القضية على المحكمة الجنائية الدولية طالما أن لبنان ليس دولة مصادقة على اتفاق روما، باستثناء الحالة التي تقبل فيها السلطات اللبنانية المختصة رضائيا وصراحة اختصاص هذا القضاء في قضية محددة عملا بأحكام المادة 12 من النظام المذكور أعلاه، ولا يمكن تاليا إلزام الحكومة اللبنانية باختصاص المحكمة الجنائية الدولية الا بقرار صادر عن مجلس الأمن، تحت الفصل السابع، يقضي باعتبار أفعال الاختفاء القسري لمئات لا بل لآلاف من اللبنانيين والسوريين والأجانب تهديدا للأمن والسلم الدوليين عملا بأحكام المادة 39 من شرعة الأمم المتحدة. ما قد يبدو أمرا صعبا حاليا في ظل عدم وجود توافق دولي حول هذه القضية وحق الدول الخمس الدائمة العضوية استعمال حق النقض الفيتو لتعطيل قرارات مجلس الأمن. يذكر على هذا الصعيد، ان الحكومات اللبنانية المتعاقبة رفضت التنازل عن صلاحية القضاء اللبناني في هذه القضية لصالح قضاء المحكمة الجنائية الدولية رغم طلبات المحكمة المتكررة والتي كانت تهدف الى التحقيق في هذا الملف والى كشف مصير المئات من اللبنانيين المخفيين في السجون السورية.

•إحالة القضية اما على قضاء دولي خاص AD Hoc واما على المحاكم الوطنية بعد انهاء أعمال لجنة التحقيق الدولية المستقلة

أما في حال عدم قيام لبنان بأي تدبير أو اجراء لكشف ملابسات هذه القضية، فيمكن حينها للأمم المتحدة أن تولي اهتماما خاصا ومميزا لهذا الملف وان تقرر اما احالته على اللجنة الدولية لتقصي الحقائق اذ يدخل ضمن اختصاص هذه اللجنة صلاحية التقصي عن كل أعمال الاختفاء القسري المرتكبة على يد قوات النظام السوري وغيرها خصوصا وان هذه الجرائم هي جرائم مستمرة ومتعاقبة ويمكن اعتبارها واقعة على الأراضي السورية حتى وان حصلت عمليات  الخطف في لبنان، واما انشاء لجنة تحقيق دولية مستقلة على غرار اللجنة التي وجدت بموجب القرار الرقم 1595 الصادر عن مجلس الامن في 7 نسيان 2005 في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهو الحل الأنسب والأكثر فعالية قانونيا، وذلك من أجل التحقيق في ملابسات جرائم اختفاء المئات من اللبنانيين قسرا في السجون السورية، على ان تمنح اللجنة المختصة صلاحيات ومهمات تنفيذية  وصلاحية عالمية تخولها العمل بفعالية واتخاذ الاجراءات العملانية والقانونية اللازمة في أي مكان وزمان لكشف حقيقة الجرائم المذكورة وغيرها من الجرائم الواقعة على القانون الانساني الدولي والتي ارتكبت خلال فترة وجود القوات السورية في لبنان، تمهيدا لإحالة الملف برمته اما على قضاء دولي خاصAd Hoc  في حال قررت الأمم المتحدة انشاءه، واما على المحاكم الوطنية في حال عدم انشاء هذا القضاء، على أن يتم ، في كلتا الحالتين، الزام سلطات النظام السوري بالقبول بإجراءات التقصي والتفتيش عن المعتقلين والمخفيين اللبنانيين قسرا في سجونها وبوضع كافة المعلومات والمستندات والأدلة والوثائق المتعلقة بهؤلاء المعتقلين والمخفيين تحت رقابة وتصرف لجنة التحقيق الدولية المستقلة، وبدفع كل التعويضات اللازمة للعائلات المتضررة وبتسليم كل المتورطين في هذه الجرائم اما للقضاء الدولي الخاص الذي قد تنشؤه الأمم المتحدة لهذه الغاية واما الى المحاكم الوطنية اللبنانية المختصة في حال عدم انشاء هذا القضاء وفي حال عدم احالة القضية على المحكمة الجنائية الدولية. وقد يجوز أيضا احالة هذه الجرائم على المؤسسة الدولية الخاصة بالكشف عن مصير المخفيين خلال الحرب الأهلية في سوريا والتي أنشأتها الهيئة العامة للأمم المتحدة بقرارها الصادر بتاريخ 26 حزيران 2023 شرط أن توسع صلاحيات هذه المؤسسة الدولية وتشمل صراحة سلطة التحقيق والتفتيش والتقصي عن مصير المئات لا بل الآلاف من اللبنانيين المحتجزين أو المخفيين قسرا في السجون السورية منذ ما يقل عن سبعة وأربعين عاما وحتى سلطة التوقيف واتخاذ الاجراءات القضائية اللازمة من أجل كشف كل ملابسات هذه الجرائم تمهيدا لإحالتها على قضاء دولي مختص بقرار من مجلس الأمن. كما يمكن لذوي الضحايا التقدم بشكاوى مع اتخاذ صفة الادعاء الشخصي بجنايات ضد الانسانية أمام محاكم البلدان التي تعتمد مبدأ الصلاحية العالمية وخصوصا منها الأوروبية كفرنسا والمانيا وهولندا وبلجيكا على سبيل المثال.

يجب على آلية التحقيق الدولي المقترحة أعلاه، العمل بأسرع وقت ممكن على الكشف عن مصير المخفيين قسراً. فالبحث عن جثث من مات منهم وتحديد هوياتهم وتسليم رفاتهم لأهاليهم سيزداد صعوبة بمرور الوقت بسبب صعوبة جمع بيانات ما قبل الوفاة جراء تحلل الجثث و/أو التلاعب المتعمد أو غير المتعمد بمواقع الدفن. ولكن وفي الوقت ذاته، لن تقل مع مرور الوقت أهمية الحاجة إلى التحقيق لمعرفة مصير المخفيين ولا حق الضحايا في معرفة ما جرى، بل ستزداد هذه الأهمية في واقع الأمر. وقد أثبتت التجارب في نزاعات مسلحة سابقة أن تجاهل هذه المسألة بأكملها يؤدي في الواقع الى اطالة أمد النزاع. وفي غضون ذلك، ستعتمد عملية البحث عن المخفيين والكشف عن مصيرهم اعتماداً كبيراً على الشهادات والذاكرة، وكلا هذين المجالين يخضع لوقت قصير قد تضيع خلاله الأدلة، مما يشير مجدداً إلى صفة الاستعجال التي تتخذها هذه القضية في الوقت الحاضر.

خاتمة

إن من شأن الكشف عن مصير المخفيين قسراً وتسليم رفات الضحايا الذين قضوا إلى عائلاتهم أن يشكل خطوة أولى على طريق إنصاف الضحايا وإعمال حقهم في الكشف عن الحقيقة ومعرفة مصيرهم، ووضع حد للألم الذي تعيشه آلاف الأسر اللبنانية والسورية والسماح لهذه الأسر بالانتقال من حالة الانتظار غير المعلوم إلى حالة الانتظار الطبيعي وحالة الحزن والرثاء الطبيعية. كذلك فان آلية التحقيق الدولي المقترحة يمكنها أن تؤدي الى تكثيف الجهود القائمة حالياً والهادفة إلى الكشف عن مصير المخفيين اللبنانيين قسراً في السجون السورية، مع تفادي ضياع المعلومات ذات الأهمية الحاسمة في هذا المجال والى التخفيف من حدة معاناة ذوي المفقودين والمخفيين قسرا الذين تاهت بهم السبل جراء تعدد المبادرات التي لم توصل الى أية نتيجة تذكر.

يضاف الى ذلك أن من شأن الآلية المذكورة أن تساهم بفعالية في محاسبة ومحاكمة المسؤولين عن هذه الجنايات ضد الانسانية وأن تضمن عدم تكرار أعمال الخطف والاخفاء القسري والتعذيب. كما أن شأن ترسيخ جرائم الاعتقال والاختفاء القسري في الذاكرة الجماعية للنزاعين اللبناني والسوري أن يساهم في منع تكرار حدوث هذه الانتهاكات المشينة والخطيرة لحقوق الانسان في المستقبل.

ولا بد من التذكير أخير بأن قضية الاختفاء القسري لمئات من اللبنانيين ظلما في السجون السورية هي قضية انسانية محقة ومقدسة ينبغي الاستمرار بالدفاع عنها وفاء لشهدائنا الأبرار الذين قضوا تحت التعذيب ولكل المخفيين اللبنانيين قسرا ولعوائلهم، ومتابعة مسيرة النضال من أجل الكشف عن مصير كل هؤلاء المخفيين وعن مكان وجود رفاتهم في حال ثبتت وفاتهم لا سمح الله. كما يتوجب على المجلس النيابي اللبناني التصديق على “الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري” في أسرع وقت ممكن، لا سيما وأن هذه الاتفاقية هي من الأهمية بمكان كونها تلزم الدول الأعضاء بإخضاع جريمة الاختفاء القسري للتشريع الوطني ما يتيح لذوي المخفيين مراجعة القضاء اللبناني وملاحقة الأشخاص المسؤولين عن اخفاء ذويهم قسرا والزامهم بدفع التعويضات المحقة واللازمة.

تابعوا أخبارنا على Google-News

نلفت الى أن منصة صدى الارز لا تدعي بأي شكل من الأشكال بأنها وسيلة إعلامية تقليدية تمارس العمل الإعلامي المنهجي و العلمي بل هي منصة الكترونية ملتزمة القضية اللبنانية ( قضية الجبهة اللبنانية) هدفها الأساسي دعم قضية لبنان الحر و توثيق و أرشفة تاريخ المقاومة اللبنانية منذ نشأتها و حتى اليوم

ملاحظة : التعليقات و المقالات الواردة على موقعنا تمثل حصرا وجهة نظر أصحابها و لا تمثل آراء منصة صدى الارز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من صدى الارز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading