الأرشيف إلى نيويورك
وكان غوتيريش مدّد عام 2021 أعمال المحكمة الإدارية من دون تمديد مهمات القضاة، فأوقفت المحكمة منذ عامين كل الأعمال القضائية المرتبطة بها، واستمرت بين عامي 2021 و2023، وبعدد قليل من الموظفين بتصفية الأعمال الموجودة، وإدارة الإقفال التام وتصريف الأرشيف والأدلة والملفات التي بحسب مصادر قضائية في المحكمة، نُقلت إلى أرشيف الأمم المتحدة في نيويورك. وأسف نائب رئيس المحكمة القاضي رالف رياشي الذي كان انضم إلى المحكمة الخاصة بلبنان منذ تأسيسها، لقرار الإقفال بعد الجهد الكبير والتعب في إنشائها كما يقول لـ”اندبندنت عربية”، معتبراً “أنها المرة الأولى التي تقفل فيها محكمة دولية وهي في عزّ عملها وقد أخلّ ذلك بمبدأ العدالة”.
وكانت المحكمة الخاصة بلبنان أنشئت عام 2007، عقب صدور قرار مجلس الأمن رقم 1757 لمحاكمة المسؤولين عن الهجوم الذي وقع في وسط العاصمة، عندما انفجر قرب فندق سان جورج في بيروت، ما يعادل ألف كيلوغرام من مادة الـ”تي أن تي”، أثناء مرور موكب رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، مما أدى إلى مقتله من بين 22 شخصاً وجرح 226 آخرين. وبعد 13 عاماً على تأسيسها أصدرت حكماً غيابياً، حكمت فيه على ثلاثة أشخاص لتورطهم في تفجير الـ 14 من فبراير (شباط) 2005، ينتمون إلى “حزب الله”، وهم سليم جميل عياش وحسن حبيب مرعي وحسين حسن عنيسي، وحكمت عليهم بخمسة أحكام متزامنة بالسجن المؤبد. ولم تنفذ الدولة اللبنانية الحكم حتى الآن، وهي المسؤولة وفق نظام المحكمة عن تنفيذ الأحكام الصادرة عن المحكمة الدولية، فيما لا يزال كل من عياش ومرعي وعيسى فارين من وجه العدالة.
ما هو مصير الجرائم المرتبطة؟
وعلى رغم إنهاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مهمتها بإصدار الحكم في جريمة اغتيال الحريري ومدنيين، إلا أنها تركت وراءها ثلاث قضايا أخرى عالقة هي قضية اغتيال الأمين العام السابق للحزب الشيوعي جورج حاوي ومحاولتا اغتيال الوزير السابق الياس المر والنائب الحالي مروان حمادة. فاختصاص المحكمة الخاصة بلبنان كان امتد عام 2011 ليشمل هجمات أخرى تم تحديدها قضائياً على أنها “مرتبطة” بقضية اغتيال الحريري، وطرح قرار إقفالها بصورة نهائية إشكاليةً قانونية متعلقة بمصير القضايا الثلاث التي كانت المحكمة في لاهاي بلغت مرحلة متقدمة في دراستها وأصدرت عام2019 قراراً اتهامياً مفصلاً، وحددت موعد انطلاق النظر بها في يونيو (حزيران) 2022. وأكد نائب رئيس المحكمة القاضي رالف رياشي لـ”اندبندنت عربية” أنه “على عكس الهجمات التي تم تحديدها بأنها غير مرتبطة بانفجار الـ 14 من فبراير مثل اغتيال النائب السابق جبران تويني ومحاولة اغتيال الوزيرة السابقة مي شدياق والتي يحق للقضاء اللبناني المباشرة بالتحقيق فيها، إلا أن القضايا التي أعلنت المحكمة الخاصة بلبنان وضع اليد عليها لارتباطها بالقضية الأم، فهي لا تعود بصورة آلية للقضاء اللبناني، وتحتاج إلى قرار من الهيئة القضائية في المحكمة الدولية أو إلى قرار من مجلس الأمن يجيز للبنان النظر في القضايا الثلاث”. ويوضح رياشي أن مسؤولية تحديد كيفية استمرار متابعة هذه القضايا تقع على عاتق الأمين العام للأمم المتحدة الذي عليه أن يختار الوسيلة والإجراءات التي يجب أن تتبع، معتبراً أن لا حاجة أن يقدم لبنان طلباً لمجلس الأمن.
وكانت المحكمة الخاصة بلبنان أصدرت قراراً اتهامياً في قضية محاولة اغتيال حمادة والمر واغتيال حاوي، وأسندت فيه إلى سليم عياش، المسؤول العسكري في “حزب الله”، والملاحق في جريمة اغتيال الحريري، خمس تهم، وهي مؤامرة هدفها ارتكاب عمل إرهابي وتهمة جمعية الأشرار وارتكاب أعمال إرهابية وقتل غازي أبو كروم وجورج حاوي وخالد مورا عمداً، ومحاولة قتل المر وحمادة و17 شخصاً آخر عمداً. وكان أصدر قاضي الإجراءات التمهيدية مذكرة توقيف موجهة إلى السلطات اللبنانية لتنفيذها بحق سليم جميل عياش.
حمادة يراسل غوتيريش
يكشف النائب مروان حمادة في حديث إلى “اندبندنت عربية” عن أنه فور تبلغه منذ أشهر قرار إقفال المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، راسل الأمين العام للأمم المتحدة وطلب منه حفظ أرشيف المحكمة لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة أو أي مؤسسة خاصة لحفظ الملفات، تجنباً لوقوعها في أيدٍ وصفها حمادة بالمعادية والتي قد تستعمل الأدلة لتبرير الجرائم التي وقعت أو تحريف التحقيق، ويؤكد أنه تبلغ من المحكمة بمضمون القرار الاتهامي الذي صدر في قضية محاولة اغتياله قبل صدوره، وكشف عن تضمنه أسماء لم يحكَ عنها وصفها بالمحرمات ربما تُذكر في يوم ما. ويبدو حمادة وكأنه اكتفى بما توصلت إليه المحكمة، موضحاً أن القرار الاتهامي أشار بوضوح إلى القتلة ومن يقف وراءهم وهذا بحدّ ذاته إنجاز، رافضاً إعادة قضيته إلى لبنان، حتى لو كان يعني ذلك عدم محاسبة الفاعلين وتحقيق العدالة لأنه على يقين أن مصير قضية محاولة اغتياله في لبنان لن يختلف عن بقية القضايا التي لا تزال ملفاتها فارغة.
الحكم الذي لم ينفذ
وكانت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أصدرت حكمها بقضية اغتيال الحريري ورفاقه، فكان الحكم الوحيد في سلسلة اغتيالات حصلت بقي مرتكبوها مجهولين ولم يحاسبوا. ولم تسمِ المحكمة الدولية، وفقاً لما تنص عليه صلاحيات المحاكم الدولية، الجهة أو المنظمة التي ينتمي إليها المدانون الأربعة، علماً أنها وفي قرارها الاستئنافي ذكرت صراحة أن المدانين ينتمون إلى “حزب الله”. وكانت المحكمة وجهت في حكم من 2600 صفحة اتهامات لأربعة من عناصر الحزب غيابياً، هم عياش ومرعي وعنيسي وأسد حسن صبرا. كما تم توجيه الاتهام إلى القائد العسكري في “حزب الله” مصطفى بدر الدين الذي لقي حتفه في سوريا عام 2016. وشمل الحكم الأول قبل الاستئناف سليم عياش، ليعلن لاحقاً، وبعد عامين، قضاة الاستئناف في مارس (آذار) 2022 أن “غرفة الدرجة الأولى ارتكبت أخطاء قانونية” بتبرئتها مرعي وعنيسي لأنها لم تجد حينها أدلة كافية. وذكر الحكم أن “عياش كان مسؤولاً عن مراقبة الرئيس وهو الذي أعد العنصر المادي للتفجير، وأن منفذي الجريمة تركوا أدلة لتضليل التحقيق، واستخدموا شبكات اتصال داخلية وسرية”. وشكلت المكالمات بين الهواتف الجوالة الأدلة الأساسية التي اعتمد عليها الادعاء والتي قال إنها استخدمت للتخطيط والتحضير وتنفيذ الهجوم. وشارك مرعي وعنيسي في توزيع شريط فيديو كاذب يعلن فيه رجل فلسطيني المسؤولية عن الهجوم نيابة عن جماعة أصولية سنية خيالية.
وعلى رغم مطالبة رئيس الحكومة السابق ونجل رفيق الحريري، سعد الحريري، “حزب الله” بتسليم المدانين معتبراً أن “التضحية يجب أن تكون من حزب الله الذي أصبح واضحاً أن القتلة خرجوا من صفوفه، ويعتقدون بأنه لهذا السبب لن يُسلّموا إلى العدالة وينفذ فيهم القصاص”، إلا أن الحزب رفض التعاون مع المحكمة منذ البداية وشكك الأمين العام للحزب حسن نصرالله في نزاهة المحكمة الدولية وأكد أنهم ليسوا معنيين بما يصدر عنها، واعتبر أن الأدلة التي استندت اليها المحكمة غير كافية واتهمها بتسييس القضية. وكان نصرالله استبق الحكم بالقول، “يخطئ من يتصور أننا سنسمح بتوقيف أحد من مجاهدينا”، وأضاف “إن اليد التي ستمتد إلى أي واحد منهم ستقطع”.