بين 21 نيسان 1994، تاريخُ اعتقال رئيس حزب “«القوات اللبنانية”» سمير جعجع، و21 نيسان 2023، مسافة 29 عاماً حافلة بالأحداث التي كانت «”القوات اللبنانية”» في قلبها. وهي اليوم بعد كل هذه المدة تُثبت أنّها رقمٌ صعب في المعادلة الداخلية وتحوّلت إلى قوّة محورية تستقطب إلى جانبها قوى أخرى بعدما كان الهدفُ إلغاءَها وحلَّها وإنهاءَها.
عملياً لم يصدر قرار حلّ حزب «القوات اللبنانية» في 23 آذار 1994، ولم يُعتقَل رئيسه سمير جعجع في 21 نيسان، ذلك أن القرارين بالحل والإعتقال كانا صدرا سياسياً منذ العام 1991، وبقيا من دون تنفيذ بانتظار اللحظة التي اعتبرت سلطة عهد الوصاية السورية أنها أتت نتيجة تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل في 27 شباط من ذلك العام.
تفجيرات واتهامات جاهزة
قبل ذلك الإنفجار كانت سلطة عهد الوصاية قد شدّدت الطوق السياسي والأمني على «القوات اللبنانية» بحيث بات رئيسها سمير جعجع مهدّداً في كل ساعة بالإغتيال أو بالإعتقال، وتبلّغ أكثر من رسالة بوجوب الإنصياع داخل قواعد اللعبة الجديدة أو الصمت أو الخروج من الحياة السياسية والسفر. الرسالة المباشرة بهذا الخصوص وصلته بعد تفجير بيت «الكتائب» في الصيفي، من رئيس الجمهورية الياس الهراوي، وكان في زيارة إلى سوريا عاد بعدها ليبلغه أنّ عاصفة آتية وأنّ هناك قراراً كبيراً ضدّه في دمشق ونصحه بالسفر. ولكن جعجع لم يقتنع أنّ الخروج من اللعبة هو الحلّ بل باستمرار المواجهة.
كان تفجير بيت «الكتائب» في 23 كانون الأول 1993 رسالة دموية للوصول إلى «القوات اللبنانية» واتهامها بالعملية. تُرِكت في مسرح الجريمة دلائل لربط التفجير بـ»القوات»، ولكنّها لم تكن قوية إلى حدّ الربط الإتهامي الحسي. ولذلك جاء تفجير الكنيسة في السياق ذاته. قبل ذلك كان بدأ فتح ملفات كثيرة من ملفات الحرب واعتقلت الأجهزة الأمنية عناصر من «القوات اللبنانية»، وخلال التحقيق معهم كان يتم التركيز على جعجع بحيث كانت الإشارات واضحة بأنّه يتم التخطيط للوصول إليه واعتقاله وحلّ الحزب». ولكنه اعتبر دائماً أنّ هذه الرسائل تهدف إلى تطويعه وإجباره على التنازل، والقبول بمنطق السلطة والمشاركة في التغطية على أعمالها، بحيث يصير شريكاً في عملية نهب الدولة والتسليم بالوصاية السورية.
نُفِّذ الأمر السوري
في 21 نيسان 1994 نُفذ القرار الصادر سلفاً. لم تكن قضية تفجير كنيسة سيدة النجاة إلا الحجّة التي وقفت وراءها السلطة. لم يكن بالإمكان تغطية اعتقال جعجع إلا بتهمة كبيرة من هذا النوع أسكتت معها كلّ صوت آخر يمكن أن يتضامن معه أو يعترض. وهذا ما كان مطلوباً من عملية حلّ حزب «القوات» واعتقاله بحيث تكون درساً للآخرين ليكونوا مطواعين ضمن لعبة الوصاية السورية ووضع يد النظام السوري بالكامل على لبنان.
عندما أيقن جعجع أنّ القرار سيُنفَّذ، وأنّ المطلوب صار ضمان سلامته حتى لا يتم اغتياله خلال اعتقاله أو نقله إلى وزراة الدفاع، طلب مقابلة السفير الأميركي ريان كروكر، ولكنه لم يكن موجوداً فأرسل إليه مساعده دايفد هيل الذي بحث معه في مسار القضية قانونياً، وطلب منه جعجع ضمان سلامته فتعهّد بأن يفعل من خلال تحميل السلطة مسؤولية أي أذى قد يلحق به. مساء 21 نيسان من ذلك العام وصلت إلى مقر جعجع في غدراس قوة عسكرية بقيادة العقيد جان سلوم ونقلت جعجع إلى وزارة الدفاع بعدما كان سحب كل الأسلحة من الحرس تفادياً لوقوع أي إشكال يمكن أن يشكل ذريعة لاغتياله. في الطريق شاهد جعجع ضخامة التدابير الأمنية التي رافقت عملية اعتقاله، دبابات وملالات عسكرية وحواجز وانتشار كثيف للجيش، أيقن أنّ مرحلة طويلة ستمرّ قبل أن يخرج من ذلك النفق. ولذلك كان يودِّع مشاهد وصوراً ويطبعها في ذاكرته، ولكنّه لم يُقدِّر أن هذه المرحلة ستدوم 11 عاما وثلاثة أشهر وخمسة أيام.
سقوط السجن الصغير
في 26 تموز 2005 كان الخروج الكبير من السجن الصغير بعد سقوط السجن الكبير، كما وصفه جعجع في كلمته في مطار بيروت. كان مشهد الخروج مختلفاً جدّاً. للمرة الأولى كان بإمكانه أن يشاهد شروق الشمس في ذلك اليوم الصيفي بعدما شاهد آخر غروب لها في غدراس في 21 نيسان. بين الغياب والشروق، كانت صفحة جديدة تكتب في تاريخ «القوات اللبنانية» وسجلّ سمير جعجع. لم تكن تلك ولادة جديد بل بداية جديدة. صحيح أنّه تم حلّ حزب «القوات» واعتقال رئيسه، وتمّت ملاحقة عناصر «القوات» واعتقال عدد كبير منهم ومنعهم من العمل السياسي، ولكن في كل تلك الأعوام بقيت «القوات» حاضرة وراسخة بعدما استطاعت زوجة الدكتور جعجع السيدة ستريدا تأمين التواصل الدائم بينه وبين القاعدة القواتية.
ومن خلال هذا الحضور كانت المشاركة القوية في استقبال قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في أيار 1997، وفي الإنتخابات البلدية عام 1998، ثم في الإنخراط في الدور السياسي في «لقاء قرنة شهوان» وفي المشاركة القوية في مصالحة الجبل خلال زيارة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير في الأسبوع الأول من آب 2001. دور «القوات اللبنانية» في تلك المرحلة أدّى إلى ما يشبه قرار الحلّ الثاني نتيجة اعتقالات 7 آب من ذلك العام واختلاق ملفّ أمني يعيد ربط «القوات» بالعدو الإسرائيلي، ولكن الربط سقط واللعبة انكشفت. كان ذلك أيضا نتيجة ارتباك السلطة الأمنية التي اعتقدت أنها استطاعت أن تزيل «القوات» من الوجود وأيقنت بعد التجربة أن «القوات» كانت باقية ومستمرة.
قبل أن يحين موعد خروجه من السجن في 26 تموز كان جعجع قد أصبح عملياً خارج السجن. بقي في زنزانة تحت الأرض طوال مدة اعتقاله وهناك أتيح له أن يستقبل قبل صدور قانون العفو عنه في مجلس النواب في 18 تموز 2005، كلاً من العماد ميشال عون، وسعد الحريري، وجبران تويني، وعدداً آخر من الشخصيات. بعد انتخابات 2005 انتقل جعجع إلى غرفة توقيف فوق الأرض ويوم صدور العفو وضع جهاز تلفزيون في الغرفة تسنّى له من خلاله مشاهدة نشرة الأخبار المسائية التي نقلت صورة الفرح بقرار خروجه من الإعتقال.
«القوات» بقيت «قوات»
في 21 نيسان 1994 كانت «القوات» وحيدة مستفردة ضحية للقرار السوري الذي خوَّف الآخرين. يوم 26 تموز كان مختلفاً وانقلاباً على يوم 21 نيسان عندما كان كثيرون ممّن لم يكن يلتقِ معهم شخصياً وسياسياً قبل اعتقاله موجودين في استقباله. كانت اللعبة السياسية قد انقلبت رأساً على عقب. التقت «القوات اللبنانية» مع الحزب التقدمي الإشتراكي والرئيس رفيق الحريري والبطريرك صفير لإحداث التغيير المطلوب في الوضع اللبناني. وتبدّلت قواعد اللعبة وكان الرهان على انتخابات العام 2005. ونتيجة هذا التبدّل كان قرار اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005.
وكانت ثورة 14 آذار بعد شهر واحد. وكان خروج الجيش السوري من لبنان في 26 نيسان. وكانت الإنتخابات التي قلبت المعادلة وأنهت سلطة عهد الوصاية السورية ووعدت باستقلال جديد حقيقي وواع وواعد قبل أن يبدأ انقلاب «حزب الله» عليه لوراثة عهد الوصاية السورية. كل هذا التحوّل حصل قبل أن يخرج سمير جعجع من السجن بما فيه الإنتخابات النيابية التي فاز بنتيجتها خمسة نواب من «القوات اللبنانية» بالإضافة إلى تمثيلها في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بوزير. نتيجة ذلك عقد جعجع أول لقاء للكتلة في أرض المطار، قبل أن يغادر إلى باريس في جولة استراحة سبقت العودة إلى المباشرة في العمل السياسي، وكانت لازمة للتحضير الآمن لهذه العودة بينما كانت عمليات الإغتيال مستمرة.
بداية جديدة ومقاومة سياسية
بعد تلك البداية الجديدة وجد جعجع «القوات اللبنانية» في قلب القضية التي خلقت من أجلها وناضلت في سبيلها وقدمت آلاف الشهداء نتيجة تمسكها بهذا الإيمان وبذلك الخط التاريخي المدافع عن الكيان اللبناني والهوية اللبنانية. واعتبر أنه لو لم تكن «القوات» كذلك لما استطاعت أن تصمد خلال مرحلة الإضطهاد والمحاكمات والملاحقات. وجد جعجع أنّ «القوات» هي هي كما كانت مع مؤسِّسها وقائدها بشير الجميل، وأنّ المقاومة السياسية يمكن أن تحقِّق النتائج الجديدة. فالنضال السياسي يبقى هو الأساس، والنضال العسكري كان نتيجة ظروف سقوط الدولة والأمن، وعلى هذا النضال الجديد كان يراهن. اعتبر جعجع أنّ «القوات» بقيت منسجمة مع نفسها في كل الظروف لأنّها بقيت تحمل الأهداف نفسها، ولأنّ ما يجمعها هو الروح النضالية وروح التضحية، ولأنّها لا تعمل ضمن حسابات صغيرة وتتصرّف انطلاقاً من حسابات سياسية كبيرة واستراتيجية ولو كانت تعرف أنّها ستكلّفها الكثير، وهي دفعت ثمن هذه الخيارات من قبل. وهي لذلك تجعل الذين حاولوا حلّها وإلغاءها يتفاجأون اليوم من سرّ بقائها وتحوّلها قوة قيادة ومحور حركة سياسية أوسع.
11 عاماً أمضاها سمير جعجع في «القوات اللبنانية» قبل أن يتبوّأ سدّة القيادة. وثمانية أعوام أمضاها بين القيادة وقبل الإعتقال. و11 عاما صرفها في الإعتقال. و18 عاماً مضت على خروجه من السجن الصغير. خلال هذه الأعوام استعادت «القوات» قوة الحضور نتيجة مسار سياسي طويل صارت معه ممثّلة بأكبر كتلة نواب داخل مجلس النواب.
ماذا بين 26 تموز 2005 واليوم؟ للبحث صلة.