انشغل الرأي العام اللبناني بخبر توقيف شاحنات كان يفترض أنها محملة بـ”زيت دوار الشمس” خرجت من مرفأ طرابلس شمالاً ليتبين لاحقاً أنها تحمل مسدسات حربية تركية مخبأة بطريقة مبتكرة داخلها، إذ أعلن الجيش اللبناني عن ضبط 704 مسدسات حربية مهربة في شاحنتين وصلتا إلى مرفأ طرابلس على متن إحدى البواخر.
وانكشفت حمولة إحدى الشاحنتين بعدما اشتعلت بسبب ماس كهربائي خلال توجهها من الشمال نحو بيروت، ليتبين أنها محملة بـ304 مسدسات مهربة ومخفية فوق المحرك، مما أدى إلى فتح تحقيق تكشفت من خلاله فصول إدخال تلك الأسلحة وهشاشة الإجراءات الأمنية في الموانئ البحرية أسوة بفوضى المعابر غير الشرعية على الحدود اللبنانية – السورية.
التاجر التركي
في التفاصيل يشير مصدر أمني لبناني إلى أن الشحنة انطلقت من تركيا نحو لبنان، ولفت إلى أن التحقيقات الأولية كشفت عن أن “تاجر سلاح تركياً طلب من سائق الشاحنة في لبنان من الجنسية التركية أن يوصل الشحنة المخبأة في الزيوت بعد نقلها بحراً من مرفأ طرابلس إلى تاجر فلسطيني مقيم في لبنان، وأبلغ السائق أنه سيتلقى بعدها اتصالاً من شخص من دون تحديد رقمه أو هويته يتسلم منه المسدسات المخبأة في شاحنته”.
وأشار المصدر إلى أن إخفاء هوية من يتسلم المسدسات غالباً ما تحرص عليه شبكات التهريب حماية للرؤوس الكبيرة، وهذا ما تأكد بعد ضبط الأسلحة واستكمال التحقيقات التي لم تتوصل إلى اسم من كان يفترض به أن يتسلم البضاعة المهربة، كاشفاً عن أن التحقيقات التي يجريها الجيش اللبناني أظهرت أن تلك الأسلحة تعود إلى فلسطيني يسكن في منطقة صيدا بجنوب لبنان، لكنه موجود حالياً في تركيا.
وأكد المصدر أنه حتى الآن ثبت أن مستورد هذه الأسلحة هدفه التجارة وبيعها في المخيمات، وليس لتنفيذ أعمال أمنية على الأراضي اللبنانية. ولفت إلى أنه بعد كشف العملية الأولى تلقى سائق شاحنة لبناني اتصالاً من تاجر الأسلحة التركي بأن ينقل شحنة “ألواح شمسية” من مرفأ طرابلس طالباً منه تعطيل الشاحنة لتجنب خضوعها للتفتيش نتيجة الإجراءات المشددة التي اتخذها الجيش، لكن قبل وصولها إلى نقطة تفتيش الجمارك ضبطت فيها الاستخبارات 400 مسدس، في حين أن أمر الشاحنة الأولى كان قد كشف بالصدفة بسبب اندلاع حريق فيها قرب منطقة البترون.
“سكانر” واحد
وحول الطريقة التي سهلت على المهربين تجاوز نقاط الأمنية وعبور الشاحنة الأولى، كشف مصدر مسؤول في مرفأ طرابلس عن أن البضائع التي تخرج من المرفأ تمر عبر مراقبة نظام للتفتيش اسمه “نجم”، إذ تأخذ البضائع أحد مسارين، الأخضر تمر عبره البضائع التي لا تخضع للتفتيش، أما على المسار الأحمر فتخضع للتفتيش.
وأوضح أن شحنة “الزيوت” مرت على المسار الأحمر وخضعت للتفتيش اليدوي، لكن المسدسات المخبأة بطريقة حرفية تعذر اكتشاف ملاحظتها، وهو أمر يكشف عن هشاشة أنظمة التفتيش في لبنان، لافتاً إلى أن في مرفأ طرابلس “سكانر” واحداً يكشف عن الشحنات الكبرى، مهو قديم جداً، وغالباً ما يتعطل ويكون غير قادر على تحمل ضغط البضائع في المرفأ، بالتالي لا تمر عبر “الإسكانر” إلا البضائع المشبوهة.
مخيم “عين الحلوة”
من جانبه كشف الصحافي المتخصص في الشؤون القضائية يوسف دياب عن أن الأمن اللبناني لم يتمكن حتى الآن حسم الإجابات حول إدخال أسلحة مهربة عبر مرفأ طرابلس، ولا معطيات كافية عن كيفية تمكن مستوردي هذه الأسلحة من إخراجها من حرم المرفأ من دون ضبطها، أو عجز “الإسكانر” عن اكتشافها، وهو ما يطرح السؤال مجدداً عن وضع المرافئ البحرية، كما هو حال الحدود البرية ومعابرها الشرعية وغير الشرعية. وكشف عن أن الأسلحة المشار إليها هي عبارة عن مسدسات من نوع (Retay) تركية الصنع، لافتاً إلى أن التقديرات الأمنية تشير إلى دخول سبع شاحنات كانت قد وصلت إلى مرفأ طرابلس، مشيراً إلى أنه في التحقيقات الأولية التي خضع لها سائقا الشاحنتين، اعترفا بأن المسدسات تعود إلى الفلسطيني محمد علي حمدان، من سكان مخيم “عين الحلوة” في جنوب لبنان.
إعادة تصنيع
اكتشاف الأسلحة المهربة رفع مستوى الجاهزية الأمنية في مرفأ طرابلس، لكنه أثار قلقاً من احتمال إدخال شحنات مماثلة في أوقات سابقة من دون اكتشافها، مما تؤكده مصادر أمنية، كاشفة عن عمليات توقيف عديدة حصلت منذ عام 2016 لتجار أسلحة عمدوا إلى تهريبها من تركيا إلى لبنان. ولفتت إلى أن رخص ثمن تلك الأسلحة التي تباع في الأسواق غير الشرعية، التي يبدأ سعرها من 150 إلى 300 دولار، أسهم بازدهارها، إضافة إلى سهولة وصولها من سوريا عبر معابر غير شرعية دفع التجار إلى التركيز عليها مقارنة مع الأسلحة المهربة من دول أخرى. وكشفت المصادر عن أن هناك مصانع قرب الحدود السورية تقوم باستيراد المسدسات الحربية وتعديلها لتصبح مؤهلة لاستخدام رصاص من عيار (7 أو 9 ملم) بعد أن تكون من عيار (5 ملم)، وبيعها في الأسواق اللبنانية أو إعادة تهريبها إلى الخارج بأسعار تتجاوز الـ600 دولار، إذ بدأت هذه المسدسات تحل مكان مسدسات “الغلوك” باهظة الثمن، والتي تصل إلى حدود 4000 دولار.
وقضية السلاح التركي في لبنان ليست جديدة، إذ جرى العام الماضي توقيف أحد أبرز تجار المسدسات التركية، الذي أغرق السوق اللبنانية بما يزيد على خمسة آلاف مسدس، علماً أنه يمتلك محال لبيع أسلحة الصيد بناءً على رخصة استغلها للدخول في عالم تجارة السلاح.
ترخيص السلاح المهرب
وتشير التقديرات الأمنية إلى انتشار أكثر من مليون قطعة سلاح لدى المواطنين في لبنان، وذلك بمعزل عن السلاح الموجود لدى القوى المسلحة الرسمية أو الميليشيات المسلحة الأخرى، كما يقدر معدل تراخيص “حمل” أو “اقتناء سلاح” الممنوحة سنوياً بنحو 20 ألفاً، وهي منوعة بين سلاح صيد وسلاح حربي، والمشكلة الأساس أن الجهة المرخصة لا تنظر إلى مصدر السلاح أو الشركة المصنعة له ما يفتح مجالاً واسعاً لفوضى ترخيص السلاح المهرب.